العدد 168 -

السنة الخامسة عشرة محرم 1422هـ – نيسان 2001م

حُكـمُ اللّـه وحُكـمُ العـقل

          تختلف أحكام الإنسان على الأفعال والأشياء باختلاف نظرته في الحياة عن تلك الأفعال والأشياء التي هي موضع إصدار الحكم.

          فالمسلم مثلاً يأخذ أحكامه من الله (سبحانه) الذي آمن به خالقاً وحاكماً ومشرعاً. وغير المسلم، كالرأسمالي مثلاً يأخذ أحكامه من عقله، ويجعله أصلاً لإصدار الأحكام على الواقع.

          وغيرهم قد يأخذ أحكامه من أحد المفكرين الذين لهم وجهة نظر في الحياة. ويعتبرون أفكاره هي الأصل أو الأساس لاستصدار أحكامهم على الوقائع والأشياء، وهكذا تتفاوت أحكام الناس بتفاوت هذه المصادر.

          وكذلك قد يختلف الناس في تعيين الحاكم (أي من له حق إصدار الحكم) باختلاف الحكم الذي يراد إصداره، فيقال هذا حسن أو قبيح عقلاً، أو هذا حلال أو حرام شرعاً، أو هذا مسموح أو ممنوع قانوناً.

          ولذلك كان من الضروري إذاً معرفة نوع الحكم لمعرفة من له حق إعطاء ذلك الحكم حتى يتعين موقف الإنسان تجاه الفعل أو الشيء هل يفعله أو يتركه أو هل يأخذه أو لا يأخذه.

          ويلاحظ أولاً أن الإنسان يستطيع إصدار أحكامه على الأشياء من حيث واقعها أحَسنٌ أو قبيح، فيقول مثلاً إن المرض قبيح، والصحة حسنة، أو يقول الغنى حسن والفقر قبيح، أو الصدق حسن، والكذب قبيح وهكذا.

          وقد يستطيع الإنسان أو العقل أن يصدر أحكاماً على وقائع من زوايا أخرى مثل جهة النفع أو الضرر بالنسبة له، فقد يحكم على العسل مثلاً بأنه نافع والسم ضار، وقد يرى أن الخمرة ضارة، أو مفيدة، أو أن لحم الخنـزير ضار أو مفيد، أو يعطي حكماً لواقع الماء فيقول إنه يتكون من ذرة أكسجين وذرتي هيدروجين، أو أن الأرض كروية مثلاً وأن الشمس تشرق من الشرق، وكذلك قد يعطي العقل حكماً على أفعال فيقول: إن توزيع الموارد بين الناس يجب أن يكون بالتساوي، أو قد يقول إن التوزيع يجب أن يكون حسب الجهد. أو يقول إن البنوك الربوية ضرورة للنظام الاقتصادي فهو نافع، وقد يقال إنه يحجر المال في أيدي قلة من الناس فهو ضار وهكذا فإن العقل قد يعطي حكماً لهذه الأشياء والأفعال وذلك حسب ما يراه مناسباً، وهذه الأحكام تبقى عرضة للصحة والخطأ، والتفاوت والتباين من زمان لآخر، ومن مكان لآخر، ومن شخص لآخر.

          كما أن الإنسان يستطيع أن يعطي أحكاماً على الأشياء من حيث ميله لهذه الأشياء أو منافرتها لطبعه أو ملاءمتها له. فيقول مثلاً إن رائحة العطر جميلة، ورائحة البصل قبيحة، أو إن الحلو حسن، والمر قبيح، أو إن الخمرة أطيب من عصير البرتقال، أو الراحة أفضل من التعب، أو القعود خير من الخروج للقتال وهذه أيضاً فإن العقل يعطي أحكامه فيها حسب ملاءمتها طبعه وتختلف طبائع الناس باختلاف أنماط حياتهم.

          أما الأحكام المتعلقة بالمدح والذم من الله، فهذه أحكام ليس للإنسان أن يصدر أحكامه عليها، بل هي لله وحده، ذلك أن الجنة والنار مخلوقات خلقها الله سبحانه كما خلق الإنسان والسماوات والأرض، وجعل استحقاق الجنة والنار منوطاً باتباع أحكامه التي أمر بها.

          فالجنة والنار، والعقاب والثواب من الله مرهونة باتباع أحكام الله مالك الجنة والنار وليس بالإنسان المخلوق بحدوده التي حدّها الله له فلا يستطيع الإنسان أن يعطي حكمه في أمور خارجية عن إطار عقله أو هي فوق طاقته، بل ليس بمقدوره أن يعطي حكماً على أمر غير محسوس لديه، فيقول هذا حلال أي يدخل الجنة وهذا حرام يدخل النار إلا إذا استند لحكم من الله سبحانه في ذلك.

          وقد عاب الله سبحانه وتعالى على أولئك الذين يصدرون أحكام الحلال والحرام حسب أهوائهم، لأنها تكون محض افتراء وكذب على رب العزة فقال سبحانه وتعالى: (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام) نعم إن وصف الحلال والحرام من غير الله سبحانه هو كذب على الله، فمن يدعي هذا الوصف، فكأنما ادّعى أنه خالق، أو في موضع الخالق الذي يحكم بالحلال والحرام ولكنه تعالى رب العزة عن أن يداني مكانته أحد (ولم يكن له كفواً أحد).

          ولذلك فإنه عندما قدِم عَدي بن حاتم الطائي ـ وكان قد تنصّر في الجاهلية ـ على النبي عليه الصلاة والسلام وهو يقرأ قوله تعالى: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله…) فقال عدي: إنهم لم يعبدوهم، فقال عليه الصلاة والسلام: بلى إنهم حرموا عليهم الحلال، وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم.

          هكذا فسر النبي عليه الصلاة والسلام معنى العبودية ولذلك كان الأحبار والرهبان أرباباً لأولئك الذين اتبعوهم. بل إنه سبحانه وتعالى قد قبّح وصف الذين يتبعون أهواءهم بدل اتباع آيات الله وأحكامه حيث يقول في كتابه: (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأَتبعه الشيطان فكان من الغاوين @ ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتَّبَعَ هواه، فَمَثَلُه كَمَثَل الكلب) ففي هذه الآيات يصف الله سبحانه أولئك الذين يتبعون أهواءهم بالانحطاط إلى منـزلة البهائم، ذلك لأنهم تركوا أحكام الله واتبعوا أهواءهم التي تسيّرهم سيراً بهيمياً حسب شهواتهم وغرائزهم تماماً كما هو حال الكلب الذي خلقه الله سبحانه يسير سيراً غريزياً دون إدراك أو تمييز، بخلاف الإنسان الذي رفعه الله بالعقل والإدراك، وأمره ونهاه، فإن اتبع أوامر الله واجتنب نواهيه، ارتقى وارتفع بها (ولو شئنا لرفعناه بها) ولكنه انحدر إلى مستوى الكلاب باتباعه هواه.

          إذاً فإن وصف الحلال والحرام هو حق الله وحده وليس حسب ما يراه العقل من نفع أو ضر، أو خير أو شر، لأن الإنسان إن فعل ذلك يكون قد جعل إلهه عقله وهواه وهذا مذموم منهي عنه قال تعالى: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه، وأضله الله على علمٍ، وختم على سمعه وقلبه، وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله، أفلا تذكرون).

          قد يقول قائل: إن الله سبحانه قد خاطب عقول البشر في كثير من الآيات القرآنية كما طلب من الناس أن يبحثوا عن طريق العقل في وجود الخالق، وأن يتفكروا في خلق الله تدبراً عقلياً، فأين إذا هو دور العقل ؟

          نعم إنه سبحانه قد طلب منّا البحث والتفكير العقلي للتوصل إلى الحق، وإلى خالق ما وراء هذا الكون، بل إنه ذم أولئك الذين يأخذون فكرة الإيمان تقليداً لا تصديقاً جازماً مطابقاً للواقع مع وجود الدليل على هذا التصديق، (قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا، أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون) وخاطب العقل السوي قائلاً: (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت @ وإلى السماء كيف رفعت @ وإلى الجبال كيف نصبت) دلائل على وجود الخالق. وقال أيضاً: (أم خلقوا من غير شيء، أم هم الخالقون) وقال: (أفرأيتم الماء الذي تشـربون @ أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنـزلون) وقال أيضاً: (من أي شـيء خلقه @ من نطـفة خلقه فقدره) وقال: (أم اتخذوا من دونه آلهة، قل هاتوا برهانكم).

          إن المتأمل في هذه الآيات يرى أن الله يأمر الإنسان باستخدام عقله في قضية الإيمان الأساسية، وهي ما وراء هذا الكون، أي من هو الخالق، ومن له حق إصدار الأحكام، ومن خلق الجنة والنار ومن له إصدار الأحكام المتعلقة بالجنة والنار، فهذا البحث إذاً لا بد أن يكون أساسه العقل، والطريق الوحيد لمعرفة الخالق حق المعرفة هي بالتفكر والبحث العقلي السليم في الآثار التي تدل على الخالق.

          فلذلك كان لزاماً على الإنسان أن يتوصل إلى هذه القاعدة العقلية باستخدام العقل، وهي العقيدة السليمة التي تبنى عليها جميع أحكامه في الحياة. فيكون الإنسان بذلك قد سلم تسليماً عقلياً يقينياً بالمصدر الذي يأخذ منه أحكامه ولكن لا يصح له بعد هذا التسليم بالخالق الحاكم المشرع، أن يشرك معه في حكمه أحداً من خلقه، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.

          إن العقل هو الأمر الأساس في العقيدة الإسلامية، فبالطريقة العقلية يقطع الإنسان بوجود الخالق سبحانه وأنه واجب الوجود، الأزلي الذي لا إله إلا هو، لا كفوَ له ولا شريك. وبالعقل يقطع الإنسان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن كلام الله ويؤمن كذلك بكل ما ثبت أصله بالعقل كالجنة والنار والبعث والحساب.

          هذا هو دور العقل وهو دور كبير، إلا أن للعقل حدوداً حدّها الله سبحانه فإن تجاوزها ضل وتاه، فهو لا يستطيع أن يحدد الحكم من حيث الثواب والعقاب فقد يرى العقل البشري أمراً يظن خيراً فيه وهو عند الله شر، وقد يرى أمراً يظن فيه نفعاً وهو عند الله إثم وضر. والشواهد على ذلك كثيرة تبين عجز الإنسان ومحدودية عقله يقول سبحانه: (كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون) هذا عن الجهاد الذي هو كره للإنسان وهو عند الله خير عظيم. كذلك فإنهم رأوا أن البيع مثل الربا فأعلمهم الله أن البيع حلال والربا حرام وأنهما أمران مختلفان (ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا).

          إن العقل البشري أعجز من أن يقرر ما يُقوِّم اعوجاجه أو يصلح أمره ناهيك عن تقرير ما يصلح الآخرين، فهو قد يصدر حكماً في مسألة هذه الساعة غير ما يصدره قبل أو بعد ساعة. أما الخالق سبحانه فهو البصير بمخلوقاته العليم الخبير بالخير والشر والحسن والقبيح، فأوحى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم أحكاماً تنظم كل شئون حياتهم وأوجب عليهم التزامها والتقيد بها فيفوزوا بها في الدنيا والآخرة.

          إن هذا الإلزام والتقيد بالأحكام الشرعية لا يعني حَجْراً على العقل بل هو إطلاق له فيما هو صالح له وعلى وجهه، فإن الله سبحانه قد كرم الإنسان بالعقل ورفعه على باقي المخلوقات (ولقد كرمنا بني آدم) وهو سبحانه الذي خلق للإنسان عقله وبين له حدوده، (وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً) وقال تعالى أيضاً: (نرفع درجات من نشاء، وفوق كل ذي علم عليم)، وكذلك أرشد سبحانه إلى مواضع إعمال العقل، والمواضع التي لا يصح فيها إعمال العقل، فقد خاطب العقل البشري بالآيات المكية، ليرشده أن طريق معرفة الخالق هو بالتفكر العقلي في مخلوقاته وذلك كما بينا.

          ثم إنه تعالى فتح للعقل باباً واسعاً للتفكر في عمارة الأرض وذلك تحت عموم باب المباحات التي أحلها الله للإنسان، من البحث العلمي، والتطوير الصناعي، والحربي (واسعوْا في مناكبها) (كلوا من طيبات ما رزقناكم) (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) وقال عليه السلام: «طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة».

          وكذلك بالعقل أيضاً يدرك الإنسان أحكام الله ـ لأنه مناط التكليف ـ فبحث الواقع ومعرفة انطباق الأحكام على الوقائع هو دور العقل، وكذلك باب الاجتهاد من بذل الوسع لاستنباط أحكام الله من الأدلة الشرعية كل ذلك بإعمال العقل وذلك من الأعمال التي مدحها الله وحض عليها (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) (يرفع الله الذين ءامنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات) (وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون ءامنا به).

          وبهذا التناغم والتوافق بين فهم دور العقل الحقيقي وبين حكم الله سبحانه وتعالى، استوت أروع الأمثلة البشرية في العلاقة بين الخالق والمخلوق، وتحققت الرحمة التي بعث بها الرسول محمد (عليه الصلاة والسلام) عندما فهم الصحابة الأُوَلُ رضوان الله عليهم دور العقل، وأدركوا معنى الالتزام قبل كل شيء.

          ومن إحدى هذه الومضات من حياة الصحابة رضوان الله عليهم نلاحظ هذا المعنى، ففي معركة بدر الكبرى عندما نزل النبي عليه الصلاة والسلام عند ماء بدر، فقال الحباب بن المنذر لرسول الله: يا رسول الله، أرأيت هذا المنـزل أمنـزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة، قال: يا رسول الله فإن هذا ليس بمنـزل فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننـزله… الخ. هكذا أدرك الصحابة رضوان الله عليهم وميزوا بين حكم الله (أهو منـزل أنزلكه الله؟). أي إن كان هو حكم الله فلا علينا إلا الالتزام والطاعة. وإن يكن أمراً نعلمه ونُعمل عقولنا فيه فنصدقك الرأي (أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟) فكان الجواب أن هذا الأمر مما يجوز فيه الرأي، وكذلك كان الرأي أيضاً لغاية نوال رضوان الله سبحانه ثم كان لهم النصر…!

          وأخيراً نقول: إن الافتراء على الإسلام أن يقال إن الإسلام يحجر على العقل، أو إن الإسلام لم يستطع مواكبة التطور المادي الذي وصل إليه الإنسان. بل عدم فهم حقيقة الإسلام، وحقيقة موقع المخلوق من الخالق، وحقيقة العقل البشري وطاقاته، هو الذي يؤدي إلى تيه البشرية وضياعها، فالإسلام رسالة الحق الذي أنزلها رب العزة من السـماء، ليسـير الخلقُ كما أمر الخالق عز وجل، فتنير درب حياتهم في الدنيا لتكون نبراسـاً يحتذى لأهل الأرض، ومن بعده ثواب الآخرة، فينال بذلك عز الدنيا والآخرة. والحمد لله رب العالمين .

خالد علي ـ أميركا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *