العدد 359 -

السنة الواحدة والثلاثين – ذو الحجة 1437هــ – أيلول 2016م

الصيرفة الإسلامية رؤية نقدية: ماليزيا نموذجًا (2)

بسم الله الرحمن الرحيم

الصيرفة الإسلامية رؤية نقدية: ماليزيا نموذجًا (2)

لطفي بن محـمد

نظرة نقدية لواقع البنوك الإسلامية 

إنه لمن المعلوم بداهة أن معيار النجاح وفق المنظور الإسلامي يقدر بمدى تحقيق الأهداف والالتزام بالأحكام الشرعية المستنبطة بطريقة صحيحة. وبالعودة إلى أهداف البنوك الإسلامية فإن كثيرًا من المحللين الاقتصاديين الذين درسوا أداء هذه البنوك، والنتائج التي حققتها في مجال التنمية والنهوض الاقتصادي للدول التي قامت فيها يقولون إن البنوك الإسلامية لم تبلغ التحقيق الكامل لأي واحد من أهدافها فضلًا عن أن تحقق كل تلك الأهداف، هذا بغض النظر عن الانحراف الشرعي الذي ساير أداء البنوك منذ البداية. وفي هذا المقام نذكر ما قاله أحد رواد الصيرفة الإسلامية محمد عمر شابرا بقوله: «المنهاج المالي الاقتصادي الإسلامي لا يمكنه أن ينجح إلا إذا كان جزءًا من إصلاح شامل». وقال مهاتير في ندوة صحفية عقدها بمصر: «إن المصارف الإسلامية بماليزيا فشلت لكون أن الطلب عليها لم يكن في المستوى المطلوب، عندما تم تطبيق العمل بقانون العمل بالصكوك الإسلامية، وذلك لأن المسلمين هناك كانوا فقهاء في الدين». فمهاتير يرى أن البنوك الإسلامية لم تكن مرنة بالقدر الكافي من الناحية الشرعية؛ مما جعلها عرضة للفشل أو في طريقها إليه. وفيما يلي بعض النقاط التي تبين مدى الانحراف الذي وقعت فيه هذه المؤسسات المالية:

النظرة السطحية لواقع المسلمين:

ظهرت البنوك الإسلامية في فترة الصحوة الإسلامية حين كان الكثير من أبنائها ولازالوا متعطشين إلى الإسلام كفكرة وطريقة في الحياة، وكانوا يرون أن الإسلام قادر على أن يحل محل الرأسمالية والشيوعية، وأنه قادر على قيادة العالم نحو تحقيق العدل والأمن والرقي. ولكن السطحية التي طغت على أذهان الكثيرين ممن يحملون هذا الطرح. وعدم ربطهم للأحداث التاريخية جعلت منهم يخطئون الطريق ويضعون العربة أمام الحصان. إن إيمانهم أن الدول القائمة حاليًا هي دول شرعية إسلامية تحتاج إلى إصلاح وليس إلى تغيير جعل منهم يرون أن فكرة استنساخ البنوك الربوية وإلباسها لباسًا إسلاميًا قد تكون خطوة صائبة في اتجاه أسلمة الدولة، خاصة بعدما رأوا التفاف الناس في وقت ما حول هذا المشروع. إن الأمر الذي لم يدركه أصحاب هذا الطرح هو أن الإشكالية هي تلك المنظومة القانونية بمجملها التي تسير شؤون البلد، والتي أسست على أسس غير شرعية. وإن الحقيقة التي يجب أن يدركها كل من يعمل للتغيير أن الغرب هو من أسس هذه المزق ليسهل له الاستفراد بها، ومن أجل منع كل محاولة لتوحيدها على أساس الإسلام. وعليه فإن التغيير الحقيقي لا يكون بوضع زهرة في مستنقع، ومن ثم القول إن المستنقع سيصبح ماؤه عذبًا فراتًا. وإنما الطرح الصحيح هو تغيير تلك المنظومة الباطلة واستبدالها بواحدة تكون منسجمة مع ما لدى الأمة من أفكار ومفاهيم إسلامية. وبهذا يتحقق الرفاه والرقي، ونصل إلى النهضة المبتغاة، ونحقق معنى العبودية. إنه لمن المهم هنا ذكره هو أن رواد فكرة البنوك الإسلامية من أمثال محمد عمر شابرا أصبحوا يتراجعون ويقرون أن الإصلاح الشامل هو الكفيل بنجاح فكرة البنوك الإسلامية، وأن الأهداف المسطرة من قبل أصبحت أحلامًا نتيجة للانحراف الشديد الذي أصاب البنوك الإسلامية. فهل سيدرك هؤلاء أن الأمة بحاجة إلى دولة تتبنى الطرح الإسلامي وتحمله إلى العالمين، وأن العمل لتحقيقه هو عمل سياسي مبدئي.

تقزيم الاقتصاد الإسلامي:

إن عدم التفريق بين علم الاقتصاد والنظام الاقتصادي جعل أكثر من يتناول موضوع الاقتصاد الإسلامي يدور في حلقة مفرغة غير مدرك لماهيته؛ خاصة في ظل قلة الكتابات التي تتناول هذا الجزء المهم من حياة المسلمين. وعليه فإن النظرة إلى كون أن البنوك الإسلامية هي لبنة هامة في الاقتصاد الإسلامي هي في حقيقة الأمر فكرة ظاهرها إسلامي وباطنها رأسمالي. والدليل على ذلك هو أن البنك في النظام الرأسمالي يعتبر أهم ركيزة فيه، ونسبة الفائدة التي تتعامل بها البنوك المركزية هي التي تحدد نسبة النمو المتوقعة وغيرها من النسب. وعليه فإن البنك في النظام الرأسمالي جزء لا يتجزأ منه، وانهيار البنوك قد يؤدي إلى أزمة اقتصادية كالتي حصلت سنة 2008م. ولكن الأمر مختلف عند الحديث عن الاقتصاد الإسلامي الذي يعتبر مؤسسات التمويل مؤسسات فرعية في جهازه، وأن توزيع الثروة وأنواع الملكيات وموارد بيت المال هي أمور يبحثها النظام الاقتصادي الذي يضمن عند تطبيقه تحقيق العدل، والتي هي أحكام مغيبة عند من يتناولون البنوك الإسلامية. و عليه فإن قولنا إن الاقتصاد الإسلامي أكبر بكثير من أن يختزل في مؤسسة مالية تحوم حولها الكثير من الشبهات هو قول يثبته ما تحتويه المكتبة الفقهية من أحكام تعالج كل ما يتعلق بملكية المال وطرق اكتسابه وإنفاقه.

غياب التأهيل الشرعي وأهل الاختصاص:

يجمع الكثيرون ممن يتناولون البنوك الإسلامية أن استعجال ظهورها قبل أن تهيأ لها الكوادر المطلوبة التي تجمع بين العلم المصرفي، والفقه الشرعي، والالتزام الإسلامي، والحماس للفكرة والإيمان بها، جعل فيها قابلية الانحراف منذ النشأة. ومع أن هناك محاولات هنا وهناك من أجل إعادة هيكلة الجانب الشرعي وجعله يتماشى مع الخط الذي رسم لها؛ ولكن هذه المحاولات أغلبها أصيب بالفشل نتيجة غياب ما يسمى بالمرجعية الفقهية الواحدة. فكم من ندوات ومؤتمرات وورشات عمل أقيمت في أكثر من بلد سعيًا لتوحيد الرؤى الفقهية حول ما يطرح من معاملات مالية. ولكن العائق الذي يقف حائلًا أمام إيجاد حل لهذه المشكلة هو اختلاف الرؤى الفقهية، فمثلًا نجد أن فقهاء ماليزيا يبيحون بيع العينة في حين أن غيرهم يحرمونها، وكذلك إشكالية المرابحة وبيع الدين وغيرها كثير من الإشكالات. هذا بالإضافة إلى أن كثيرًا ممن يتصدرون الفتوى ليس لديهم التأهيل الشرعي الكافي الذي يمكنهم من استنباط الأحكام مما جعل الأمر في غالبه عرضة للهوى. وهنا نؤكد مرة أخرى أن غياب ولي الأمر الشرعي، والذي بيده صلاحية  تبني الأحكام الشرعية وإلزام الرعية بها قد جعل من المستحيل تحقيق المرجعية الشرعية التي يسعى لها هؤلاء القوم. إن الإسلام مجموعة من الحلقات المترابطة المتكاملة، ومحاولة تطبيق حلقة بمعزل عن غيرها سيكون له عواقب شرعية وأخرى دنيوية؛ ولهذا فالعمل المخلص المبرئ للذمة هو إيجاد ذلك الكيان السياسي الذي يجعل هذه الحلقات محل تطبيق عملي؛ وبذلك نكون قد جنبنا الأمة معارك أقل ما يقال عنها إنها فقهية جانبية لا معنى لها، قد يتخذها البعض وسيلة لإيهام الأمة أنه وغيره حريصون عليها.

إطالة عمر الأنظمة:

ان المتأمل لحال الأمة الإسلامية اليوم من تشرذم وتخلف وفساد يجعله يفكر في كيفيةٍ للخروج من هذا النفق المظلم، وقد يكون المرء مخلصًا ساعيًا من أجل تحقيق النهضة المرجوة، واللحاق بركب الأمم المتقدمة؛ ولكن السعي الذي يكون مبنيًا على الإخلاص دون تمحيص وفهم دقيق لواقع المأساة التي تعيشها الأمة قد يؤدي بالأمة إلى الركون أكثر للفساد وتثبيت جذوره. وعليه فإن الإخلاص وحده لا يكفي، وإنما وجب أن يكون العمل موافقًا الشرع من حيث طريقة التفكير، والعمل على إيجاد الفكرة في واقع الحياة. وقد ذكر عن الفُضَيْل بن العياض أنه قال: أحسن عملًا، أخلصه وأصوبه. وصوابية العمل هي موافقته للشرع، أي مطابقته له، وليس عدم مخالفته للشرع كما يدعي الكثير من أصحاب المنهج الواقعي الذين لا يرون حرجًا في تبني أفكار ومفاهيم مشبوهة. ودليلهم أنها غير مخالفة للإسلام، فمثلًا ذكر أحد مستشاري المؤسسة المالية الإسلامية (يسار) أن «كل معاملة غير محرمة في القرآن نأخذ بها» وبهذا فتحوا المجال لتبني الكثير من المعاملات المشكوك فيها بناءً على هذه القاعدة القديمة الجديدة. إن هذه المقدمة لا بد منها عند الحديث عن إطالة عمر الأنظمة في البلاد الإسلامية خاصة. وإن التيار الذي ينادي بالمالية الإسلامية يرى شرعية أنظمة الجور، وأنها واجبة الطاعة، وأن التغيير يكون تدريجيًا من خلال خلق مؤسسات إسلامية تعمل على أسلمة المنظومة بأكملها في حالة نجاحها؛ ولهذا تراهم في مؤتمراتهم التي حضرت الكثير منها أنها لا تتناول شرعية نظام الحكم لا من قريب ولا من بعيد، وإنما جل اهتمامهم هو كيفية الالتفاف على النصوص وتطويعها لتتماشى مع قوانين الدول؛ ولهذا تجد أن أغلب الدول التي تتوفر على بنوك إسلامية من مثل: السعودية ، البحرين ، ماليزيا ، تركيا ، قطر… تدعم هذا النوع من الأطروحات من خلال استضافة المؤتمرات والشيوخ، وإنشاء جمعيات ومؤسسات فقهية واقتصادية من أجل نشر هذا النوع من الطروحات وسط الفئات المتعلمة من المجتمع. وفي هذا الصدد حضرت ندوة أقيمت في ماليزيا حول تحديات المالية الإسلامية قدمها الشيخ الشيخ علي القره داغي الذي يعتبر أحد أعلام البنوك الإسلامية، و هو أيضًا رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وكذلك رئيس الرابطة الإسلامية الكردية، وفيها ذكر أن البنوك الإسلامية تواجه تحديات شتى من بينها الناحية القانونية التي تضادُّ البنية الأساسية للبنوك الإسلامية؛ ولكن الشيخ لم يتقدم خطوة إلى الأمام من أجل تبيان حقيقة الخلل. إن الأنظمة هي علمانية محاربة لله ورسوله، وما وجود البنوك الإسلامية إلا ستار تستخدمه من أجل ذر الرماد في عيون بسطاء التفكير. وهذا نموذج لنوعية المؤتمرات     والندوات؛ ولهذا فإن أكبر مستفيد من وجود هذه المؤسسات الإسلامية هي أنظمة الجور القائمة في بلاد المسلمين من عدة وجوه:

أولًا: إبعاد اللوم عن الأنظمة وإلقائه على الأحكام الشرعية، وأنها غير قادرة على مسايرة التطور المالي القائم، وهذا ما قاله مهاتير «إن المصارف الإسلامية بماليزيا لم يكن عليها طلب كبير، عندما تم تطبيق العمل بقانون العمل بالصكوك الإسلامية، وذلك لأن المسلمين هناك كانوا فقهاء في الدين». وبهذا تصبح الأنظمة في مأمن من الانتقاد، وتصبح فكرة التغيير حلمًا صعب المنال.

ثانيًا: إشغال المسلمين بقضايا جانبية تجعل الحديث عن شرعية الأنظمة كلامًا سابقًا لأوانه، وأن الأصل هو إيجاد مؤسسات المجتمع المدني، وتوعية المجتمع بالبنوك الإسلامية من أجل الوصول إلى اقتصاد إسلامي.

ثالثًا: نشر الإحباط لدى الأمة الإسلامية تجاه الطرح الإسلامي بمجمله، وأن الإسلام بأحكامه غير قادر على المسايرة والتطور، وأن أحكامه الثابتة واختلاف الاجتهادات تجعل من نجاح فكرة البنوك الإسلامية أمرًا ليس بالسهل؛ وعليه فإن الحل يكمن في تطبيق نظام يحفظ للدين مكانه، وللاقتصاد مجاله، وهذا عين العلمانية.

الخاتمة :

لقد تلقت الأمة طعنات كثيرة في ظهرها، ومن أمامها، وفي كل جانب من جسمها، سواء من أعدائها، أم من عملائهم، أم من أبنائها الذين يحسبون أنهم يحسنون صنعًا. إن فكرة البنوك الإسلامية هي فكرة ظهرت للعلن دون أن يتم التفكير بها بدقة ولا بإخلاص، وجاءت كردة فعل نتيجة لمجموعة من التحولات الاقتصادية والسياسية في العالم؛ حيث إنها لم تُبحث من الناحية الشرعية بدقة، بل على العكس، إن الاستعجال في إخراجها للوجود جعل بذرة فشلها في داخلها، وأن الأمر الذي يحزن له المرء هو أن الفشل الذي يصيب هذه الفكرة سيتم استغلاله وتعميمه من طرف المتربصين بالأمة (داخلها وخارجها) وأن محاولة إعادة الثقة لأحكام الإسلام تحتاج إلى جهد جماعي مبدئي يدرك حقيقة الواقع الذي يتعامل معه، ويطرح مشروعًا تكامليًا تفصيليًا مبدؤه الإسلام، وهدفه النهضة والرقي، وهذا هو البديل الحقيقي الذي وجب على أطياف الأمة كلها أن تدركه، أي أن الإسلام بنظامه الاقتصادي قادر على تحقيق العدل والتنمية المستدامة، وإيجاد حل لسوء توزيع الثروات، ومحاربة الفقر. وليعلم الجميع أن هذا ليس مجرد شعارات كما يتوهم البعض، وإنما هو أمر مفصل في كتب الفقه، وأن الكنوز الفقهية مليئة بما يكفي الأمة ويزيد في كل ما يتعلق بأحكام المال وحسن تدبيره. إن هذا البديل يحتاج إلى إرادة سياسية مخلصة في ظل كيان يجمع ثروات الأمة وعقولها؛ وذلك لجعلها أمة وسطًا كما أرادها الله ورسوله، تطبق الإسلام وتحمله رسالة إلى العالمين.

قال تعالى: ) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *