العدد 207 -

السنة الثامنة عشرة ربيع الثاني 1425هـ – حزيران 2004م

مفهوم «التعددية الديمقراطية» وعلاقته بالأقليات

مفهوم «التعددية الديمقراطية» وعلاقته بالأقليات

  ما يشاع في وسائل الإعلام من أحاديث عن التعددية الديمقراطية، لا يخرج كله من مشكاة واحدة، فهذا المفهوم في دول الغرب له واقع مختلف عما يراد له في الدول العربية، أو حتى في البلدان الإسلامية على وجه العموم.

ـــــــ

  فالتعددية في الغرب هي تعددية حزبية حقيقية، وتعني التعددية في البرامج السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، وهذه التعدديات هي تعددية في الفكر السياسي، الذي يخضع لأنظمة الحكم الرأسمالية الديمقراطية المتبناة في البلدان الغربية، فلا علاقة لهذه التعددية بالقبلية والعشائرية، أو بالأعراق والطوائف، كما ولا علاقة لها بالأديان والمذاهب، بل تسير في أجواء المبدأ الرأسمالي الذي تسود القناعة به في بلاد الغرب لتثبيت هذا المبدأ وتقوية التمسك به وتطبيقه.

  وبالمقابل فالتعددية الديمقراطية التي يريدها الغرب، وبخاصة أميركا، للبلاد الإسلامية، ليست تعددية في أجواء المبدأ الإسلامي الذي تسود القناعة به في بلاد المسلمين، ولا لتثبت هذا المبدأ وتقوية التمسك به وتطبيقه، بل إن التعددية المقترحة في البلاد الإسلامية تعني التعددية القبلية والشعوبية، وتعني كذلك التعددية المذهبية والطائفية، وإثارة الفرقة والتجزئة في بلاد المسلمين

  فتعددية الغرب عنصر من عناصر قوة مبدئها وزيادة التمسك به، ومن عناصر قوة الدول، ووحدتها، وتماسك مجتمعاتها، وتجانسها، بينما التعددية المرادة في البلاد الإسلامية هي عنصر من عناصر محاربة مبدئها، ومن عناصر ضعفها، وتخلخلها، وهشاشة مجتمعاتها، وسهولة تفتيتها.

  وتركيز أميركا على فكرة التعددية (كما تريده هي لبلادنا) لم يأت من فراغ، وليس من باب الصدفة تضمين هذه الفكرة في جميع مشاريع الإصلاح الأميركية للشرق الأوسط، فيبدو أن أميركا وجدت في هذه الفكرة ضالتها، لأن فيها من الخداع والجاذبية الموهومة ما يمكنها من إعادة صياغة منطقة الشرق الأوسط صياغة جديدة، على وجه يجعلها منطقة تابعة لها ولا تختلف كثيراً عن جمهوريات الموز في أميركا اللاتينية التي تعتبر كمزارع لشركاتها الاحتكارية.

  لذلك ليس غريباً أن تركز أميركا على ما تسميه حقوق الأقليات للإثنيات والمذاهب. وعلى سبيل المثال لا الحصر، نجد أن أميركا تظهر حرصاً زائفاً على الأقلية الكردية، فتحتضنها، وتمدها بكل أسباب القوة، وتتباكى على ما أصابها من لأواء في حلبجة، ونجدها كذلك تذرف دموع التماسيح على شيعة العراق لأنهم –كما تزعم- حُرموا من حقوقهم في العهود السابقة والتي سيطر فيها على العراق حكام من السنة، وكأن حكام البعث، ومن سبقهم من قوميين وملكيين، كانوا يحكمون العراق حكماً مذهبياً!.

  وكذلك لم يكن مستغرباً أن تركز أميركا، ومن ورائها أوروبا، على إبراز الهوية الأمازيغية في دول المغرب العربي، وأن تحتضن الأقليات الأوزبكية والطاجيكية في أفغانستان، وأن تعمل على إثارة الأقلية القبطية في مصر، وأن تؤازر الأقليات المسيحية والوثنية في جنوب السودان، وأن تثير الضغائن والمنازعات بين الأقليات والدول تحت ذريعة التعددية، بينما هي في واقعها صورة جديدة من صور القاعدة المشهورة فرق تسد.

  لقد مارست أميركا لعبة التعددية هذه بإتقان ودهاء شديدين، فأوهمت الشعوب بأن في التعددية خلاص لها من الدكتاتورية، واستغلت تفوقها بعد سقوط منافسها الدولي السابق الذي كان يتمثل في الاتحاد السوفياتي، وركَّزت على الأقليات وتعددها لتسيطر على الدول بأسلوب جديد، فرعت الأقليات ودعمتها، وتحالفت معها لتستخدمها كرأس حربة تحقق بها مصالحها الاستعمارية.

  فمثلاً ساندت في أريتريا أسايس أفورقي وهو نصراني من قبيلة اليتجراي، وهي من الأقليات في أريتريا، ودعمته إلى أبعد الحدود، بالرغم من خلفيته الاشتراكية اليسارية، ومنحته دولة في سرعة قياسية، كان من الصعب إيجادها، أو تصور وجودها بمثل هذه السهولة، ثم أسندته في حربه مع أثيوبيا، ومكنته من ترسيم الحدود معها، وتثبيت هذه الدولة الفتية في القرن الأفريقي، وبعد ذلك دعمته في قمع رفاقه السابقين في الثورة لكونهم ينتمون إلى خط العروبة والاشتراكية، وظاهرته ضد الأكثرية العربية المسلمة في البلاد التي كان يتوقع لها أن تكون دولة عربية، وأن تدخل في جامعة الدول العربية. وقام أفورقي بعد أن حصل على هذا الغطاء الأميركي بمحاربة العرب والمسلمين في اليمن، حيث غزا جزر عربية يمنية، وفي السودان حيث دعم مجموعات متمردة، وفي داخل أريتريا حيث حارب اللغة العربية والحضارة الإسلامية، وتحالف مع إسرائيل، واتخذ منها أنموذجاً يقتدى به. وتم القيام بكل هذه الأعمال المشينة، والتي يعتبر القيام بها بمثابة تمرد على الواقع، وخروج عن الصف، وانسلاخ من جسم المنطقة، تم القيام بكل هذه الأعمال بمظلة أميركية وتحت شعار التعددية.

  ومثلاً دعمت أميركا جون قرنق في جنوب السودان وهو من قبيلة الدينكا، وهي أقلية من عدة أقليات في جنوب السودان، الذي يجمع العرب والوثنيين والمسيحيين والأفارقة في نسيج هادئ تحت سيطرة العرب والمسلمين منذ قرون. فضخمت أميركا دور قرنق، ومدته بكل أسباب القوة، حتى صار ممثلاً لكل أهل الجنوب بمختلف أقلياته، وربما ستستمر في دعمه ليصبح في المستقبل رجل السودان الأول والأقوى، وذلك بعد الفراغ من مؤامرة تقسيم الثروة والسلطة، علماً بأن هذا الرجل تسبب في مقتل وتشريد الملايين من السودانيين.

  ومثلاً قوَّت أميركا مركز رئيس أوغندا يوري موسيفيني، وهو من أقلية التوتسي، لدرجة أن أصبحت أوغندا، تحت رئاسته، أهم دولة في وسط أفريقيا. وعندما جاء بوش إلى القارة الأفريقية انطلق من أوغندا، واستطاع موسيفيني، بفضل هذا الإسناد الأميركي، أن يساهم في تغيير رؤساء الكونغو، ورواندا، وبوروندي، والإتيان برؤساء معظمهم من التوتسي، وبذلك تحولت أوغندا إلى قطب الرحى في منطقة أفريقيا الاستوائية، والتي ما كانت لتصل إلى كل هذا النفوذ، لولا دعم أميركا لأقلية التوتسي وللرئيس موسيفيني، الذي كان له دور مشبوه في مذابح الهوتو والتوتسي، التي بلغ ضحاياها ما يقارب المليونان.

  وأما في الصومال، فأميركا عندما لم تجد فيه أقليات عرقية أو مذهبية، لجأت إلى تمزيقه عن طريق إشعال الفتن والحروب الأهلية، بين أمراء الحروب الذين قاموا بدور الأقليات، وبذلك تم التآمر على الصومال بحرمانه من الدولة والاستقرار، لمدة زادت عن الإثنتي عشرة سنة، فقسمته إلى خمسة أقاليم هي: أرض الصومال، والصومال بوند، وصومال حسن صلاد والعاصمة مقديشو، بالإضافة إلى إقليم أوغادين الذي سلخته أثيوبيا عن الصومال.

  وأخيراً في أفغانستان، فقد رأينا كيف استخدمت أميركا قبائل الطاجيك والأوزبيك لمحاربة الأكثرية البشتونية، فحل في أفغانستان ما حل من احتلال، وخراب، ودمار، وهلاك للبشر.

  هذه أمثلة حقيقية على استخدام أميركا لورقة التعددية في هذه البلدان والتي أنتجت التفتت والتدمير، والمذابح والتشريد، وهذه هي الحصيلة الأولى فقط للسياسة التعددية التي انتهجتها أميركا، خلال العقد الأول من عصر الهيمنة الأميركي على العالم.

  والظاهر أن أميركا قد استمرأت هذه اللعبة، وبدأت بتطويرها بديباجة الديمقراطية لتسهيل تسويقها، وأصبحت التعددية بفضل الإعلام الأميركي هي النغمة الأكثر عزفاً على لحنها، من قبل صنّاع السياسة الأميركية، وصارت جزءاً جوهرياً من أطروحاتها الإصلاحية. فإذا كانت هذه هي التعددية الديمقراطية المصممة لبلادنا، وهذا هو حصادها، فما هو موقف الحكومات والنخب السياسية العربية والإسلامية منها؟

  إن موقفها –وبكل أسف- يتجاوب مع هذه الأكذوبة الأميركية عن التعددية المذهبية والقبلية والأقليات والطوائف، وتجاوبهم معها ناشئ بسبب التبعية والخوف من فقدان الكرسي. وإن موقف كثير من النخب السياسية الفاعلة في هذه الدول، سواء من الحكومات أم من المعارضة، هو موقف إنهزامي أناني يتعاطى مع هذه الأطروحات الأميركية، لا بوصفها مقنعة أو صحيحة، وإنما بوصفها أمراً واقعاً يستوجب الخنوع. وما يجري في العراق اليوم يعتبر أحدث نموذج لهذه الأطروحات الأميركية، حيث لم تكتف أميركا ورجالها في مجلس الحكم، وفي غير مجلس الحكم، من تقسيم العراق على أساس عرقي بين العرب، والأكراد، والتركمان، والأشوريين، بل وقسموه أيضاً على أساس مذهبي بين السنة والشيعة، وهذا كله يُبرَّر بذريعة التعددية الديمقراطية!!

  إن هذه العدوى نراها اليوم تنتقل بسرعة إلى مناطق جديدة مثل أكراد سوريا، وشيعة الجزيرة العربية، وهذا هو أول القَطر الأميركي لهذه التعددية البغيضة، ولا ندري إلى أين سينتهي المطاف بها.

  إن التعددية الديمقراطية المصممة لبلادنا هي داء أميركي عضال لا بد من علاجه، وعلاجه الوحيد الناجع الشافي يتمثل في دواء الإسلام، بوصفه فكراً وعقيدةً ونظام حياة، لا فصل فيه بين الدين والحياة، ولا بين العبادة والسياسة، وهو العلاج الوحيد الذي لا يختلف عليه أتباع مذهب، أو أبناء عرْق، أو حتى أهل ذمة، لأنه ينصف الكل، ويعدل مع الكل، ويوحد ولا يفرق، ويُغلِّب العفو والتسامح على العصبية والعنصرية، ويجعل قاعدة «لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأعجمي على عربي إلا بالتقوى» هي الأساس في النظر إلى الرعية، ويجعل الاخوة بين أفراد المجتمع تقوم على أساس اخوة العقيدة بدلاً من اخوة القبيلة مصداقاً لقول الحق وهو أصدق القائلين: (إنما المؤمنون إخوة) .

أحمد الخطيب – بيت المقدس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *