العدد 85 -

السنة الثامنة ذو الحجة 1414هـ, أيار 1994م

«التسامح الإسلامي» والمقصود من طرحه هذه الأيام

بُعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-رحمة للناس أجمعين. والإسلام هو دين الرحمة، ودين التسامح، وكان -صلى الله عليه وسلم-أرحم الناس وأسمحهم. والمسامحة والتسامح خلق إسلامي رفيع حث عليه الإسلام. ويتجلى هذا الخلق في المعاملات، ذلك أنها بطبيعتها تقتضي التسامح لا التضييق والتشدد، قال الجوهري في الصحاح: المسامحة: المساهلة، والتسامح: التساهل.

وقال عليه وآله الصلاة والسلام: «رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى» (رواه البخاري).

وعن عمرو بن عبسة قال: «أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-فقلت: يا رسول الله مَنْ تبعك على هذا الأمر؟ قال: «حر وعبد». قلت: ما الإسلام؟ قال: «طيب الكلام وإطعام الطعام». قلت ما الإيمان؟ قال: «الصبر والسماحة…» (رواه أحمد).

وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله r: «دخل رجل الجنة بسماحته قاضياً ومتقاضياً» (رواه أحمد).

والسماحة هي خلق الكرام، قال الشاعر:

ولا ترجو السماحةَ من بخيلٍ

                      فما في النار للظمآنِ ماءُ

والتسامح كما تقدم يعني التجاوز عن المسيء، والتنازل عن الحق المالي أو المادي أو جزء منه، والتيسير على المدين والمعسر، والعفو عن المخطئ والمسيء، في غير معصية ولا تجاوز لحد شرعي أو تهاون في حق من حقوق الله تعالى أو أمر من أمور العقيدة الإسلامية. فإذا ما تعلّق الأمر بشيء من هذا كله، طلب الإسلام عدم التساهل، وحث على التشدد فيه إلى أقصى درجة، وحرّض المسلمين على عدم التنازل عن شيء من هذه الأساسيات مهما صغر وقلّ. والقرآن الكريم زاخر بهذا ملئ به، فالله تعالى يقول: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ * وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمْ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ * وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ *وَلَمَنْ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ}. كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.

فهذه الآيات وأمثالها إنما هي كما ذكرنا في الحقوق الفردية لا في حقوق الله تعالى ولا في مسائل العقيدة، ولا حتى في المسائل المتعلقة بكيان المسلمين ودولتهم.

قال تعالى: {فَإِذَا انسَلَخَ الأُشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.

والآية لا تحتاج إلى بيان فهي تحثّ على قتل المشركين حين حصول الحرب الفعلية معهم، ويُقتَلون أينما وجدوا ويحاصرون في الأمكنة التي يتحصنون فيها، ويُرصَدون في كل ممر أو طريق، ويراقبون أينما كانوا وحيثما ذهبوا.

ويقول تعالى: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ * أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمْ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.

أليس هذا تحريضاً سافراً على قتال الكفار وأخذهم بالشدة والقسوة التي يستحقونها؟ فهل يتطرق إلى عاقل مؤمن بعد هذا شكل في أن هذا هو السبيل الوحيد للتعامل مع أعداء الله وأعداء دينه كاليهود والصرب وغيرهم من الكفار الذين يدخلون في حرب مع المسلمين؟

ومن أين يمكن أن يأتي التسامح مع هؤلاء الأعداء والله سبحانه وتعالى يقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنْ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ}.

كذلك منع الإسلام التسامح والتساهل في الحدود وجعله سبباً لهلاك الأمم. فرسول الله -صلى الله عليه وسلم-يقول: «يا أسامة أتشفع في حد من حدود الله؟ إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، فوا الذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها».

لقد وعى المسلمون ذلك وعقلوه وطبّقوه، وتعاملوا مع كل حالة بما تستحق: فإن كانت تستحق العفو والتسامح، عفوا وتسامحوا وضربوا في ذلك المثل، وإن كانت الحالة تستحق الغلظة والشدة، تعاملوا معها بالغلظة والشدّة المناسبتين.

وهذه بعض الأمثلة: أسَرَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-يوم بدر أبا عزة الشاعر، فاستعطف هذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-وذكر له فقره وكثرة عياله، فعفا عنه ومنّ عليه، وعاهده إلا يعود لقتال المسلمين. ولما أُسِرَ مرة أخرى حاول استعطاف الرسول فقال عليه الصلاة والسلام: «لا تمسح عارضيك بمكة وتقول سخرت بمحمد مرّتين» وأمر به فقُتِل. وقال عليه وآله الصلاة والسلام: «لا يُلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين».

وعفا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-عن أهل مكة وهم الذين آذوه وأخرجوه.

وعفا صلاح الدين الأيوبي عن الصليبيين يوم فتح القدس رغم ما فعلوه بالمسلمين.

ونكّل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-ببني قريظة لنقضهم العهد ومظاهرة الكفار على المسلمين. والأمثلة على ذلك كثيرة.

لقد ظهرت فكرة التسامح الديني في أوروبا فيما يسمى بعصر النهضة. وكان ظهورها مرافقاً لميلاد المبدأ الرأسمالي الذي قام به على أنقاض المفاهيم والقيم النصرانية ممثلة في الكنيسة، وأقام مكانها قيمه الخاصة والمتمثلة في الحريات الأربع ومنها حرية العقيدة.

وعندما ساد الرأسماليون العالم المعاصر، ووضعوا ميثاق هيئة الأمم المتحدة نصّبوا في ديباجته على أن يكون التسامح غاية من غاياتهم. فقد جاء في الديباجة:

«نحن شعوب الأمم المتحدة،

وقد آلينا على أنفسنا: أن ننقذ الأجيال المقبلة من ويلات الحرب التي في خلال جيل واحد جلبت على الإنسانية مرتين أحزاناً يعجز عنها الوصف، وأن نؤكد من جديد إيماننا بالحقوق الأساسية للإنسان، وبكرامة الفرد، وأن ندفع بالرقي الاجتماعي قُدماً، وأن نرفع مستوى الحياة في جو من الحرية أفسح، وفي سبيل هذه الغايات:

اعتزمنا أن نأخذ أنفسنا بالتسامح، وأن نعيش معاً في سلام وحسن جوار، وأن نضم قوانا كي نحتفظ بالسلم والأمن الدولي.

ورغم هذا العهد الواضح والقاطع الذي أخذوه على أنفسهم بالتسامح فإن الكفار هم الكفار حديثاً وقديماً، يناصبون المسلمين العداء ويتربصون بهم الدوائر. وقد نص على ذلك القرآن الكريم وأيده الواقع المشاهد والملموس. فالله تعالى يقول: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاَّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ}.

وقال تعالى: {لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاَّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُعْتَدُونَ}.

وقال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} كما قال عز من قائل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}.

كما قال: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ}.

ولنتدبّر قوله عز وجل: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ}.

وشهد الواقع قديماً وحديثاً بكل هذا، فنصارى أوروبا قتلوا المسلمين في الأندلس وأبادوهم بحد السيف، وبيوت النار، وأجبروهم على الردّة عن دينهم، ولم يتسامحوا مع طفل ولا شيخ ولا امرأة ولا مريض. ولم يحترموا مسجداً، بل أقاموا في المساجد المسارح والمتاحف، ومنعوا المسلمين من دخولها، وهدموا جزءاً عظيماً منها وأغلقوا ما تبقّى، ومنعوا إقامة الأذان والجهر به، وكل ما يدل على وجود الإسلام في لك البلاد وغيرها، كاليونان وبلغاريا ورومانيا ويوغسلافيا وسائر دول البلقان.

والصليبيون قتلوا المسلمين في فلسطين والشام ومصر، وجعلوا من المسجد الأقصى المبارك إسطبلاً لخيلهم وحظيرة لخنازيرهم. وصليبيو هذه الأيام، لا يقلّون إجراماً عن أسلافهم، فكلهم يرمون المسلمين عن قوس واحدة، من إنجليز وفرنسيين وأميركان وروس وصرب وكروات ويونان وأحباش، وكلهم ظاهَرَ على المسلمين في فلسطين والبوسنة والهرسك وليبيا والسودان والعراق وتركيا وكافة الأقطار. وإن جرائمهم المشاهَدة والمسموعة يومياً ضد المسلمين والتي تقشعرّ لهولها الأبدان، وتشمئز لانحطاطها النفوس البشرية السويّة، لشاهِدُ صدق على كذب حديهم، ونقضهم لعهودهم عن التسامح وحقوق الإنسان وكرامته.

لقد بدأ المسلمون اليوم يعودون لدينهم ويعملون لإعادته لواقع الحياة سيّداً لهما ومنقذاً للبشرية ومخلّصاً لها من الهلاك، ومطهراً لها من أدران الرذيلة والانحطاط، وبدأوا يدركون خطأ المفاهيم والمبادئ المادية والدنيوية كلها، وتجلى ذلك في عودة الشباب إلى الله وإلى دينه والمطالبة بتحكيم شرعه، وأحسّ الكفار وأذنابهم وعملاؤهم بذلك وأدركوا أن كل أغلالهم مقطوعة،وأن كل سياطهم لا جدوى منها، فلجأوا إلى المكر والتضليل والخديعة وهم أساطينها ودهاقنتها، وراحوا يعقدون المؤتمرات ويقيمون الندوات لمحاربة الإسلام بسيف آخر، هو التحريف، فتارة يقولون أن الإسلام أباح التعددية السياسية والفكرية، وتارة يقولون أن الإسلام ساوى بين الناس في الإنسانية دون النظر إلى أديانهم وأشكالهم، وتارة يضعون الإسلام وأديان الشرك والتحريف في سلة واحدة، ويقولون: كلٌ من عند الله، فالأديان إنما جاءت من آله واحد، فلا غضاضة ولا حرج على الإنسان على أن يتّبع أي دين منها، ناسين قوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ}، ومتناسين قوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنْ الْحَقِّ} وقوله تعالى: {وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} ومعرضين عن قوله تعالى:   {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} وعن قول رسول الله r: «ألمْ آتِ بها بيضاء نقية، ولو كان أخي موسى حياً ما وسعه إلا اتّباعي».

ولقد تولى كِبْرَ هذه الفَرِيّة على الله فئتان:

حاكمٌ عميل، يسعى لإرضاء أسياده وأوليائه من الكفار، وعالمٌ من علماء السلاطين، باع آخرته بدنيا غيره.

نعم لقد أفلس التضليل الإعلامي الرسمي عن تحرير المقدسات والتصدي «للاستعمار والإمبريالية»، وسقطت أقنعة النضال المزيّف عن وجوه جميع الخونة، فإذا هم تجّار نضال رخيص، راحوا يتسابقون للاعتراف بكيان اليهود وإعطائه صفة الشرعية في أرض المسلمين. وظهر لك ذي عينين أن علماء السوء ليسوا سوى تجار مبادئ محرّفة، وإن حكام المسلمين إنما يحاربون الله ورسوله ويوادّون من حادّ الله ورسوله والمؤمنين. فبدأ هؤلاء الضالون يبحثون عن قناع جديد. فتارة يعقدون مؤتمراً للتقارب بين الأديان، وتارة أخرى يتحدثون عن التسامح الإسلامي زاعمين أن الإسلام وسائر الأديان متساوية الشرعية، وذلك لتجريع المسلمين كأس الذل والهوان، بالتنازل عن أرض المقدسات والقبول باليهود في أرض المسلمين، ظانّين أن المسلمين لا يعرفون من هم اليهود، ولا من هي الدول الكافرة التي تقف من ورائهم، ولا حقيقة أن الإسلام وحده الدين الحق {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}.

وختاماً فإن الله تبارك وتعالى قطع لنا ببيان واضح لا لَبْس فيه كيف تكون علاقتنا بالكفار والمشركين، قال تعالى في سورة الممتحنة {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ}. قال ابن كثير في تفسير هذا النص: (يقول تعالى لعباده المؤمنين الذين أمرهم بمصارمة الكافرين وعداوتهم ومجانبتهم والتبرّئ منهم {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} أي وأتباعه الذين آمنوا معه {إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ} أي تبرّأنا منكم   {وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ} أي بدينكم وطريقكم {وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا} يعني وقد شرعت العداوة والبغضاء من الآن بيننا وبينكم ما دمتم على كفركم فنحن أبداً نتبرأ منكم ونبغضكم حتى تؤمنوا بالله وحده، أي إلى أن توحّدوا الله فتعبدوه وحده لا شريك له، وتخلعوا ما تعبدون معه من الأوثان والأنداد.

أخيراً لنا أن نتساءل: أعلماء السوء أذناب السلاطين أعلم باليهود والنصارى بخاصة، والكفار بعامة، أم رب العزّة تعالى الذي أنزل فيهم قرآناً يُتلى إلى آخر الدهر؟!

فالإسلام حث على السماحة والتسامح ضمن المباح، أما حين يكون هذا التسامح في حق الله فقد حرّمه. فالمسلم يتنازل عن حق مادي له، ولكنه لا يجوز أن يتنازل عن حق الله. فالتسامح غير التفريط بما أوجبه الله أو اقتراف ما نهى عنه. وإدراك هذه الحقيقة ضروري للمسلمين حتى يفوّتوا على المنافقين من الحكام العملاء ومن علماء السوء خططهم الخبيثة لإبعاد المسلمين عن الإسلام بحجة التسامح، وذلك مداهنة للكافر وتحقيقاً لمآربهمc

ملاحظة:

من أجل التوفيق بشكل دقيق بين النصوص التي تحض المسلمين على بغض الكفار وعداوتهم، والنصوص التي تحض على برّهم والإحسان إليهم لا بد من ملاحظة أن البغض والعداوة تكون حين يعتدون على المسلمين وحين يكونون في حالة حرب مع المسلمين. أما حين يكونون أهل ذمة للمسلمين أو حين تكون بينهم وبين المسلمين معاهدة فعندها يعاملوهم المسلمون بالبر والقسط والإحسان. فقوله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4]، هذه الآية جاءت حين أراد بعض الصحابة (حاطب بن أبي بلتعة) أن يلقي بالمودّة إلى مشركي مكة الذين كانوا في حالة حرب فعلية مع المسلمين، فجاءت تأمرهم بالتبرّؤ من مشركي مكة كما تبرأ المؤمنون مع إبراهيم عليه السلام من قومهم الكفار. والآية هنا جعلت سبب العداوة والبغضاء عدم الإيمان بالله دون ذكر حالة الحرب، ولكن الآيات التي جاءت بعدها في السورة نفسها [الممتحنة: 8 ـ 9] قيدت ذلك بحالة الحرب: {لاَ يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ}.

والمسلم قد تكون مودّة بينه وبين الكافر إذا لم يكن محارباً ولا معاديا للإسلام والمسلمين، فقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-يحب عمّه أبا طالب رغم أنه لم يسلم (على أرجح الأقوال) وفيه نزل قوله تعالى: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ}. والمسلم الذي يتزوج كتابيّة يكنّ لها المودّة والرحمة كما قال تعالى: {وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} والمسلم مأمور ببرّ والديه حتى لو كانا كافرين لقوله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} وقوله: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا}. والمسلم من طبعه الذي وصفه به القرآن أنه يحب المواطنين غير المسلمين (أهل الذمة) حتى لو كانوا هم يضمرون له البغضاء، قال تعالى: {هَاأَنْتُمْ أُوْلاَءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ} [آل عمران: 119].

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *