العدد 212 -

السنة التاسعة عشرة رمضان 1425هـ – تشرين أول 2004م

هل مشروع الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين امتداد لـ«مشروع الشرق الأوسط الكبير»؟

هل مشروع الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين امتداد لـ«مشروع الشرق الأوسط الكبير»؟

في الحادي عشر من شهر تموز، الموافق لثمان بقين من جمادى الأولى، عقد مؤتمر لعلماء المسلمين في لندن، بهدف تأسيس مرجعية للمسلمين كافة، باسم الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، تكون بعيدة عن حكوماتهم ودولهم. وقد كانت هذه الفكرة من بنات أفكار الشيخ يوسف القرضاوي، وكان قد دعا لها، وعمل عليها منذ عشر سنوات، كما صرح بذلك. وقد ضم المؤتمر جمعاً من علماء المسلمين، والمفتين، ورجال الفكر، وعلى رأسهم إحسان أوغلو رئيس المؤتمر الإسلامي، الذي لم يمض على رؤيته بضعة أسابيع. وقد لخص الشيخ القرضاوي فكرة المؤتمر، في أن المسلمين قد فقدوا مرجعيتهم عندما هدمت دولة الإسلام، وبقوا دون مرجعية ثمانين عاماً؛ لذا لا بد لهم اليوم من مرجعية تكون بعيدة كل البعد عن تأثير دولهم وحكوماتهم، وتبحث ما يستجد من قضاياه. وقد أعلن أنه على رأس القضايا التي سيبحثها المؤتمر، بعد الإعلان عن ميلاد الاتحاد العالمي للعلماء، قضية المرأة في العالم الإسلامي، والعنف، والعلاقة مع الآخر. وقد أثار هذا المؤتمر في زمانه، ومكانه، وحضوره، وفكرته، وقضاياه التي قيد البحث، الكثير من التساؤلات، بل الكثير من الشبهات، من غير تجنّ، وذلك لما يلي:

أولاً: إن انعقاد هذا المؤتمر في بلاد الغرب، وبخاصة في لندن، لأمر مثير ومستهجن، وخصوصاً إذا ما علمنا أن الفكرة التي من أجلها عقد المؤتمر، وأن القضايا التي يبحثها، هي فكرة يرحب بها حكام المسلمين من عرب وعجم، وقضايا لا يحظرون بحثها، ولا يرون في إثارتها أي خطر، بل هم أول من يدعو لها، ويتمنون أن تتفق الأمة على مرجعية من مثل هؤلاء العلماء، الذين هم علماء الأنظمة ولا خلاف، فلو انقادت الأمة لمثل هذه المرجعية الجديدة، لكانت أول الثمار التي سيقطفها حكام المسلمين، هو تحصيلهم الشرعية في الوجود، والحق المزعوم على الأمة في الطاعة. فهؤلاء العلماء هم عيبة نصح للحكام، فلا هم بالمطرودين، ولا المطلوبين لحكامهم، فلماذا إذن يعقد هذا المؤتمر في لندن، وتترك مكة، والمدينة، والأزهر في القاهرة، ودمشق، وإستانبول، وغيرها من العواصم والمدن المعتبرة في بلاد المسلمين؟! وإن تعذر البعض بالخشية من أن يتأثر المؤتمرون بحكام تلك المدن والعواصم، قلنا إن حكام هذه المدن والعواصم قد حضروا إلى لندن، ممثلين في المشايخ الرسميين للأنظمة، وهم علماء الإفتاء، وممثلين في رجال الفكر من بطانتهم وأوساطهم السياسية، فكانت بلاد الغرب (لندن) وبلاد المسلمين في هذا سواء؛ لذا هناك سرّ في انعقاد المؤتمر في لندن، فالذي هدم دولة الخلافة، وشتت شمل المسلمين في ممالك ودويلات، وسعى جاهداً طوال الثمانين عاماً التي خلت، لهدمها في نفوس المسلمين، ونزعها من أذهانهم، شعر اليوم أنه قد فشل في تغييبها وطمسها إلى الأبد، ورأى أن مخبرها قد آذن بالانبلاج، وأن في أفق هذه الأمة ما ينذر ويبشر بعودتها، فكان لا بد له من حيلة يحول بها دون هذا الأمر، يلهي بها المسلمين، ويصرف أنظارهم عنه ولو إلى أجل، فسارع إلى فكرة إيجاد هيئة دينية غير سياسية، يجتمع عليها المسلمون، تسمى مرجعية، أو اتحاداً، أو جامعة، أو مؤتمراً، أو غير ذلك، فالمسميات لن تعوزه، وتعقد على عينه وتحت رعايته. والمقصود هنا بصاحب هذا المشروع هو الكافر المستعمر، أو الغرب الصليبي، أو الإنجليز والأميركان. وللندن(مكان المؤتمر) تاريخ طويل مع الإسلام والمسلمين، ما زالت تفخر به، وتمنّ على أبناء دينها تلك الثمار التي جنوها بغياب دولة الإسلام، وما زالت تتصدر المؤامرة على هذه الأمة، وعلى دينها، وتصطنع أخبث الأساليب والوسائل للصدّ عن سبيل الله، فهذا هو السرّ في اختيار لندن. وفوق هذا، نرى هؤلاء العلماء يريدون طمأنة الغرب، أنهم لا يبغون من الإسلام، ولأمة الإسلام إلا ما يرضاه، وأنهم جزء من الحملة على ما يسمى بالإسلام “المتطرف”، أو ما يسمى “بالإرهاب”، وأن الإسلام الذي تنادي به هذه المرجعية هو إسلام التعايش، والتوافق الحضاري.
ثانياً: أما زمان المؤتمر، فلا يكاد يختلف عن مكانه، من حيث المعطيات والأحداث، فالزمان زمان بلغت فيه الحرب الصليبية على الإسلام وأهله ذروتها، مستهدفة كل المسلمين أينما كانوا، وبلغت ردة فعل الأمة على هذا العدوان ذروتها أيضاً، وأصبحت معاداة الغرب عامة، وأميركا خاصة، أمر لا يختلف عليه مسلمان، وأصبح التشوق لجهادهم، وضرب مصالحهم، ورفض كل ما يأتي من قبلهم، من فكر وثقافة ومشاريع سياسية، أمراً ظاهراً ملموساً في الأمة، وبخاصة بعدما رأوا ما يرتكب بحق رجالهم ونسائهم وأطفالهم في فلسطين، والعراق، وأفغانستان، وبعدما رأوا أبشع البشائع، وأفظع الجرائم التي ارتكبها الغرب الصليبي، في سجون أبي غريب، وباغرام، وغوانتانامو، وغيرها. وهو زمان أيضاً ازدادت فيه الهوة بين المسلمين وحكامهم اتساعاً استعصت على كل جَسْر، وانفضح أمرهم للأمة، ولا أدل على ذلك من انفضاح أمر حكام آل سعود، وانكشاف عوارهم لأهل الجزيرة، بعد أن تستروا بعباءة الدين ردحاً طويلاً من الزمن، فما بالك بغيرهم ممن ولدوا في الفضيحة منذ أول يوم. إذن الأمة اليوم في معركة تمايزت صفوفها، فأميركا، وحلفاؤها، وحكام المسلمين، ومن لفّ لفّهم من علماء، ومفكرين، وسياسيين، وعسكريين، في عَدْوة، والأمة بسوادها، والمخلصون من علمائها، ومفكريها، وحركاتها، في عدوة مقابلة. المعركة مستمرة ومتخذة جوانب عدة، وأصعدة مختلفة، ليس أقلها الفكرية، والسياسية، التي يبحث فيها المسلمون عن دولة الخلافة، تلك الدولة التي لم تعد مطلباً لحزب سياسي معين، أو حركة جهادية ما، بل مطلباً للأمة كلها، وقد استشعر الغرب هذه المعادلة، وأدرك تفاصيلها، وأدرك نتائجها، وأراد أن يخلط الأوراق، وأن يلبس على الأمة أمرها، مجنداً جنوده لهذا، فكان المؤتمر، وكانت فكرة المرجعية الواحدة للمسلمين كافة أنسب الوسائل لهذا التلبيس.

وقد جاء هذا المؤتمر يعيد الدعاية الأميركية بفكرة “الشرق الأوسط الكبير”، والتي من أبرز معالمها التغيير الفكري والثقافي القسري ليفرض على الأمة، وكانت هذه الفكرة محور الكثير من المؤتمرات العالمية والإقليمية، فقد دار عليها مؤتمر قمة الثماني، وقمة الجامعة العربية، وقمة المؤتمر الإسلامي، وتوج هذا الأخير بانتخاب أحد أبرز أعلام الفكر العلماني، وأبرز عملاء الرأسمالية الفكريين والسياسيين المدعو “إحسان أوغلو” رئيساً له، وهو اليوم أحد أركان هذا المؤتمر في لندن، وأبرز شخصيات هذا الاتحاد العالمي، وكأني بهذا الاتحاد، هو الخطوة الأولى في الطريق إلى الشرق الأوسط الكبير المراد أميركياً، وكأني بمنظمة المؤتمر الإسلامي قد تقادم عهدها، وكلح وجهها، وغدت يداً شلاء لا تفيد أميركا في شيء، فأرادت أن تستبدل لها اتحاداً للعلماء تطلق عليه اسم “المرجعية” يكون له سلطة “روحية” على هذه الأمة، ولا شيء أدل على ارتباط هذا المؤتمر بدعوة “الشرق الأوسط الكبير” وتساوقه معها من الموضوعات والعناوين التي أدرجت على جدول أبحاثه، وهي المرأة في العالم الإسلامي، والعنف، والعلاقة مع الآخر، فهذه العناوين هي بعض ما يعالجه مشروع أميركا للشرق الأوسط الكبير، ولا يكاد يخلو خطاب لبوش، أو وزير خارجيته، من الحديث فيه عن الشرق الأوسط والمسلمين، من هذه العناوين أو بعضها!!، وما من حاكم من حكام العرب والمسلمين زار بوش في بيته الأسود أو مزرعته، إلا وبحث معه قضية المرأة وحقوقها، والحرب على “الإرهاب”، وآخرهم ملك المغرب، حيث أشاد بوش بجهوده في تحرير المرأة المغربية، وبهذا تكون الموضوعات، والقضايا المبحوثة في هذا المؤتمر، هي القضايا التي أثارها الغرب وابتدعها، وليست القضايا التي تشغل المسلمين.
ثم نأتي إلى أمر ثالث، وهو الفكرة الرئيسية المراد بحثها في المؤتمر، وهي كما أطلقوا عليها “المرجعية”، التي من خلال شرحهم لها تبين أنها جهة معينة تتبنى قضايا المسلمين، وتبحثها، وتعطي فيها آراء وأحكاماً، وهي بديل، كما قالوا عن دولة الخلافة منذ ثمانين عاماً، والنظر في هذا يأتي من جهات عدة:

‌أ- إن قضية المسلمين اليوم هي قضية دولة خلافة، وليست قضية مرجعية، وشتان بين الأمرين، بين جهة يرجع إليها الناس أو الحاكم، لطلب رأي أو حكم شرعي في أمر حَزَبهم، أو جدَّ عليهم، وكيان سياسي يوحد المسلمين، يحكمهم بما أنزل الله، ويحمل هذا الدين للناس كافة، فما ينقص المسلمين اليوم هو الإمام، وليس المفتي، ولا العالم، ولا الواعظ. ينقصهم الرجل الذي يتخذونه جُنة يتّقون به، ويقاتلون من ورائه، وهذا لن يتوفر في مليون اتحاد عالمي لعلماء المسلمين، ولا في الملايين من المرجعيات الفقهية، أو كما يطلقون عليها “الروحية”. فالأمة اليوم تمر في لحظاتٍ استباح فيها الكافر كل شيء فيها: الدم، والعرض، والمال، والمقدسات، والعقول، والدين، وأبسط معاني الإنسانية… فماذا ينقصها وهذه حالها؟!!، ألا ينقصها : «إنما من لها، وبها مجدها، ولا يكون ذلك إلا بالإمام الذي يقول فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم الإمام جنة يقاتل من ورائه ويتقى به» رواه مسلم. ولا يسدّ مسده أحد في هذه الدنيا، لا حركة، ولا حزب، ولا اتحاد علماء، ولا أولئك الذين يفتون على ذهب أميركا وسيفها. ثم إن الأمة اليوم في حالة من الفرقة والشتات، ولا جماعة لها، فهل يوحدها، ويعيد لها جماعتها، حزب، أو هيئة، أو اتحاد، أو مرجع فقهي؟ أم أن الذي يعيد لها هذا هو :”يا معشر العريب، الأرض الأرض، إنه لا إسلام إلا بجماعة، ولا الإمام، يقول عمر رضي الله عنه جماعة إلا بإمارة، ولا إمارة إلا بطاعة”.

إن هناك خلط في المصطلحات، ومغالطة عظيمة في التسميات، وحري بالعلماء وهم ورثة الأنبياء، أن لا يخلطوا بين المسميات فيضلوا الناس عن الحق، ويحرفوهم عن الصواب، إذ كيف يقال عن دولة الإسلام إنها مرجعية، وهي في الحقيقة كيان سياسي، أي خلافة، أو إمارة، أو إمامة. والمرجعية شيء . والدولة نفسها تحتاج إلى مرجعية، مثلها في ذلك مثل آخر، هي كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم الأفراد والجماعات، وإن سمي العلماء مرجعية فمن باب المجاز فقط. كقول الله تعالى: [فَلْيَدْعُ نَادِيَه][العلق: 17] فتسمية الأشياء بأسمائها أمر في غاية الأهمية والخطورة، وخلطها هو تشويه لحقيقتها، وتلبيس على الناس.

‌ب- إن هذه الدعوة أصلها علماني يقوم على فكرة فصل الدين عن السياسة. والمرجعية المقصودة، كما بينوا ذلك، هي مرجعية “روحية” أي “بابوية” كما أنه للنصارى “بابا”، أي مرجعية دينية لا تتدخل في شؤون السياسة والحكام، فتترك لمبارك، والقذافي، وفهد، ومشرف، وغيرهم، أمر الحكم، وتتولى هي أمر الإفتاء، والوعظ، والإرشاد، وكل ما تروض به الأمة. وهذا ما : «لتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ الذين مِن يريده الكافر المستعمر تماماً، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا في جُحر ضبّ لاتبعتموهم، قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟، قال: فمن؟!» رواه الشيخان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *