العدد 214 -

السنة التاسعة عشرة ذو القعدة 1425هـ – كانون الأول 2004م

مع القرآن الكريم: ﴿لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ 3

مع القرآن الكريم: ﴿لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ 3

ويقف سيد قطب، رحمه الله، وقفةً ثالثةً في تفسير هذه الآية، فيقول:
«وفي نهاية المطاف نقف وقفة خاشعة أمام جلال الله وعظمته، ممثلة في علمه، وعدله، ورعايته، وفضله، ورحمته، وبره… بهذا الكائن الإنساني الذي يجحد ويطغى…
نقف أمام عظمة العلم بهذا الكائن، وما أودعه الله فيه من القوى والطاقات، وما ركب في كينونته من استعدادات الهدى والضلال، وما رتبه على هذه الأداة التي وهبها له، وعلى كثرة ما في الأنفس والآفاق من دلائل الهدى وموجبات الإيمان.. فلقد علم الله أن هذه الأداة العظيمة تنوشها الشهوات والنزوات، وأن الدلائل المبثوثة في تضاعيف الكون وأطواء الأنفس قد يحجبها الغرض والهوى، ويحجبها الجهل والقصور.. ومن ثم لم يكل إلى العقل البشري تبعة الهدى والضلال، إلا بعد الرسالة والبيان، ولم يكل إليه بعد البيان والاهتداء وضع منهج الحياة، وإنما وكل إليه تطبيق منهج الحياة الذي يقرره له الله.. ثم ترك له ما وراء ذلك، وهو ملك عريض، يبدع فيه ما شاء، ويغير فيه ما شاء، منتفعاً بتسخير الله لهذا الملك كله لهذا الإنسان، وهو الذي يخطئ عقله ويصيب، وتعثر قدمه وتستقيم على الطريق!
ونقف أمام عظمة العدل الذي يرتب للناس حجة على الله سبحانه لو لم يرسل إليهم الرسل مبشرين ومنذرين. هذا مع احتشاد كتاب الكون المفتوح، وكتاب النفس المكنون بالآيات الشواهد على الخالق، ووحدانيته، وتدبيره وتقديره، وقدرته، وعلمه.. ومع امتلاء الفطرة بالأشواق والهواتف إلى الاتصال ببارئها والإذعان له، والتناسق والتجاوب والتجاذب بينها وبين دلائل وجود الخالق في الكون والنفس.. ومع هبة العقل الذي يملك أن يحصي الشواهد ويستنبط النتائج.. ولكن الله سبحانه بما يعلم من عوامل الضعف التي تطرأ على هذه القوى كلها، فتعطلها أو تفسدها، أو تطمسها، أو تدخل في حكمها الخطأ والشطط، قد أعفى الناس من حجية الكون، وحجية الفطرة، وحجية العقل، ما لم يرسل إليهم الرسل ليستنقذوا هذه الأجهزة كلها مما قد يرين عليها، وليضبطوا بموازين الحق الإلهي الممثل في الرسالة هذه الأجهزة، فتصبح أحكامها حين تستقيم على ضوابط المنهج الإلهي.. وعندئذ فقط يلزمها الإقرار والطاعة والاتباع، أو تسقط حجتها وتستحق العقاب.
ونقف أمام عظمة الرعاية، والفضل، والرحمة، والبر، بهذا المخلوق الذي يكرمه الله ويختاره، على ما يعلم به من ضعف ونقص، فيكل إليه هذا الملك العريض.. خلافة الأرض.. وهو بالقياس إليه ملك عريض…
ثم تشاء رعايته، وفضله، ورحمته، وبره، ألا تدعه لما أودع في كينونته، من نظرة هادية قد تطمس، ومن عقل هادٍ ولكنه يضل، بل يتفضل عليه ربه فيرسل إليه الرسل تترى.. وهو يكذب ويعاند، ويشرد وينأى، فلا يأخذه ربه بأخطائه وخطاياه، ولا يحبس عنه بره وعطاياه، ولا يحرمه هداه على أيدي رسله الهداة.. ثم لا يأخذه بالعقاب في الدنيا، أو في الآخرة، حتى تبلغه الرسل، فيعرض ويكفر، ويموت وهو كافر، لا يتوب، ولا ينيب..
ومن عجب أن يأتي على هذا الإنسان زمان يزعم لنفسه أنه استغنى عن ربه.. استغنى عن رعايته، وفضله، ورحمته، وبره.. استغنى عن هدايته، ودينه، ورسله.. استغنى بالأداة التي علم ربه أنها لا تغنيه، ما لم تقوّم بمنهج الله، فلم يكتب عليه عقاباً إلا بعد الرسالة والبيان..
وخطأ وضلال، إن لم يكن هو الخداع والتضليل، كل زعم يقول: إن العقول الكبيرة كانت حرية أن تبلغ بدون الرسالة ما بلغته بالرسالة.. فالعقل ينضبط مع الرسالة بمنهج النظر الصحيح، فإذا أخطأ بعد ذلك في التطبيق، كان خطؤه كخطأ الساعة التي تضبط، ثم تغلبها عوامل الجو والمؤثرات، وطبيعة معدنها الذي يتأثر بهذه المؤثرات، لا كخطأ الساعة التي لم تضبط أصلاً، وتركت للفوضى والمصادفة! وشتان شتان!
وآية أن ما يتم بالرسالة – عن طريق العقل نفسه – لا يمكن أن يتم بغيرها، فلا يغني العقل البشري عنها.. إن تاريخ البشرية لم يسجل أن عقلاً واحداً من العقول الكبيرة النادرة اهتدى إلى مثل ما اهتدت إليه العقول العادية المتوسطة بالرسالة.. لا في تصور اعتقادي، ولا في خلق نفسي، ولا في نظام حياة، ولا في تشريع واحد لهذا النظام..
إن عقول أفلاطون وأرسطو من العقول الكبيرة قطعاً.. بل إنهم ليقولون إن عقل أرسطو هو أكبر عقل عرفته البشرية -بعيداً عن رسالة الله وهداه- فإذا نحن راجعنا تصوره لإلهه كما وصفه، رأينا المسافة الهائلة التي تفصله عن تصور المسلم العادي لإلهه مهتدياً بهذه الرسالة.
وقد وصل أخناتون – في مصر القديمة – إلى عقيدة التوحيد. وحتى مع استبعاد تأثره في هذا بإشعاع عقيدة التوحيد في رسالة إبراهيم، ورسالة يوسف، فإن الفجوات والأساطير التي في عقيدة أخناتون تجعل المسافة بينها وبين توحيد المسلم العادي لإلهه بعيدة بعيدة.
وفي الخلق، نجد في الفترة التي هيمن فيها الإسلام في صدر الإسلام، نماذج للأوساط ممن رباهم الرسول صلى الله عليه وسلم لا تتطاول إليها أعناق الأفذاذ على مدار التاريخ، ممن لم تخرجهم رسالة سماوية.
وفي المبادئ، والنظم، والتشريعات، لا نجد أبداً ذلك التناسق والتوازن، مع السمو والرفعة التي نجدها في نظام الإسلام ومبادئه وتشريعاته. ولا نجد أبداً ذلك المجتمع الذي أنشأه الإسلام يتكرر، لا في زمانه، ولا قبل زمانه، ولا بعد زمانه، في أرض أخرى، بتوازنه، وتناسقه، ويسر حياته، وتناغمها.
إنه ليس المستوى الحضاري المادي هو الذي يكون عليه الحكم. فالحضارة المادية تنمو بنمو وسائلها التي ينشئها العلم الصاعد.. ولكن ميزان الحياة، في فترة من الفترات، هو التناسق والتوازن الذي ينشئ السعادة والطمأنينة، والذي يطلق الطاقات الإنسانية كلها، لتعمل دون كتب، ودون مغالاة، في جانب من جوانبها الكثيرة.. والفترة التي عاشت بالإسلام كاملاً لم تبلغها البشرية، بعيداً عن الرسالة، في أي عصر. والخلخلة، وعدم الاتزان، هو الطابع الدائم للحياة في غير ظل الإسلام، مهما التمعت بعض الجوانب، ومهما تضخمت بعض الجوانب، فإنما تلتمع لتنطفئ جوانب أخرى، وإنما تتضخم على حساب الجوانب الأخرى… والبشرية معها تتأرجح، وتحتار وتشقى»

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *