العدد 154 -

السنة الرابعة عشرة _ ذو القعدة 1420هـــ _شباط 2000م

المشروع الأميركي لتفتيت السودان … والانقلاب على الترابي

أبو إبراهيم ـ حضرموت

 إحتدم الصراع على القارة السوداء في الآونة الأخيرة بين الدول التي كانت تستعمر القارة في الماضي، وبين أميركا التي تعمل على إزالة ذلك النفوذ لتحل محلّه، وذلك للخيرات والثروات الهائلة التي تمتلكها الدول الإفريقية، والسودان هي إحدى الدول التي يجري الصراع حولها.

    فالسودان أصبح من الدول النفطية، فقد بدأ قبل أشهر قليلة بتصدير النفط من مشروع نفط النيل الأعظم، ويمتلك السودان ثروة حيوانية هائلة، وأراضي زراعية تقدر بمليوني فدان صالحة للزراعة، تصنع منه بحق سلة العالم الغذائية، والعديد من الثروات الأخرى. فتحركت أوروبا القريبة وآسيا البعيدة نحو هذه الخيرات بمشاركة من البوابة الخلفية عن طريق شركات مساعدة من كندا، وأسوج، وبريطانيا ـ ألمانيا ما أزعج أميركا التي تفرض عقوبات من جانب واحد على السودان، فعلى سبيل المثال انتقدت مادلين أولبرايت بشدة شركة نفط كندية هي جزء من مجموعة دولية (تضم شركات من الصين وماليزيا) وقالت خلال زيارتها إلى أقطار إفريقية (إن بعض الأقطار تخطئ فتعتقد أن الاستثمار الأجنبي في ظل حاكم استبدادي يمكن أن يساعد الناس العاديين مضيفة أن المداخيل تنتهي عوضاً عن ذلك إلى جيوب الحكام.

    ومن جهة أخرى قامت بريطانيا بالعمل على تعطيل المساعي الأميركية لفصل الجنوب وإعطاء دور للفصائل المعارضة الموالية لها في الحياة السياسية السودانية، من خلال المصالحة الوطنية، فدفعت القذافي إلى إيجاد مبادرة جديدة تكون بديلة عن مبادرة هيئة (الإيغاد)، والتي تقضي بالتفاوض مع الحركة الشعبية بقيادة جون غارانغ فحسب لتسوية قضية جنوب السودان، أما المبادرة الليبية فتهدف إلى إيجاد مصالحة مع جميع الفصائل والأحزاب السودانية المعارضة، فأسرعت مصر بطرح مبادرة جديدة لاحتواء المبادرة الليبية، والرجوع إلى مبادرة الإيغاد، وبالفعل تم دمج المبادرتين والاتفاق على أن المبادرة المصرية الليبية ليست بديلاً عن مبادرة الإيغاد.

    والمتتبع لأعمال أميركا في السودان، يرى أنها ترتكز على خطة شاملة تقوم على أمرين:

 1ـ فصل جنوب السودان وإقامة دولة تابعة لها فيه على غرار ما فعلته في أثيوبيا.

 2ـ إقامة نظام مستقر في شمال السودان قائم على النظام الديمقراطي بعد انفصال الجنوب.

    ولتنفيذ مشروعها الانفصالي هذا، شهدت المنطقة تحركات قوية من الإدارة الأميركية. فقد قامت وزيرة الخارجية الأميركية مادلين أولبرايت بزيارة لعدة دول إفريقية، واعتبرت في محطتها الكينية، ولقائها الرئيس دانيا آراب موي في 22/10/99م أن مفاوضاتها مع غارنغ رسالة إلى الخرطوم لكي يتعامل بجدية أكثر مع الجيش الشعبي ويأخذ طروحاته في الاعتبار، وأثنت أولبرايت على جهود المنظمة الحكومية لتنمية ومكافحة الجفاف الإفريقية (إيغاد) التي تسعى إلى إحلال السلام في السودان، وأشارت إلى أن بلادها ملتزمة تمويل نصف نفقات هذه المبادرة، وأضافت: «إننا نحتاج إلى تجديد جهودنا السلمية، فما يجري في السودان يروِّعنا جميعاً وننزع إلى اعتبار مبادرة إيغاد هي الأنسب للمضي قدماً في جهود التسوية»، وسئلت عن المبادرة الليبية المصرية فقالت «إن جميع الجهود السلمية يجب أن تدخل تحت مظلة المبادرة الإفريقية، ونظن أن العملية التي تقوم بها إيغاد هي الوسيلة الفضلى للتقدم ولا ندعم أي جهود أخرى يقترحها بعضهم في مصر وليبيا». ويرى محللون أن لقاء أولبرايت ـ غارانغ، شكل لحظة درامية في مخطط الدعم الأميركي للمشروع الكنفدرالي في السودان، وتم الاتفاق فيه على مجموعة خلوات تنسيقية الهدف منها إقامة البنى التحتية للدولة الانفصالية، وتحويل فصائل الجيش الشعبي إلى قوة نظامية متماسكة بعد تدريبها تباعاً في كمبالا وتزويدها بالسلاح من خلالها أيضاً.

    وفي موازاة هذه الخطوات الحاسمة جرى التأكيد على جبهة سياسية واحدة تعمل في المرحلة الأولى على خطة تدويل قضية جنوب السودان، وتصعيد الضغوط بهدف تسريع عملية حسمها خلال العام 2000، قبل الدخول في مرحلة شطر الدولة الجنوبية من الخريطة، وإقامة إدارة ذاتية كما في شمال العراق تتحول تدريجياً إلى دولة يتم الإعلان عنها في الوقت المناسب.

    وأعلنت أولبرايت عن سعيها إلى زيادة الضغط على حكومة الخرطوم لإنهاء الحرب الأهلية، وامتدحت جون غارانغ قائلة إنه «زعيم ناشط جداً من الصعب تحقيق أهدافه لأنه غير معترف به دولياً». وأعلنت أن الولايات المتحدة ستقدم برنامجاً قيمته ثلاثة بلايين دولار سنوياً للمجتمع المدني في جنوب السودان على مدى عامين وحتى 2002، ويمارس نواب بارزون في الكونغرس ضغوطاً على إدارة كلينتون لمنح المتمردين معونات غذائية ما يمكنهم من تخصيص وقت وموارد أكبر لحملتهم العسكرية.

    وتبعاً لتقارير دبلوماسية محدودة التداول نشرتها مجلة الحوادث في عددها الصادر في 23/ كانون أول فإن خطة تدويل قضية جنوب السودان التي دخلت حيز التنفيذ ترتكز إلى جملة عناصر محورية منها فرض رقابة دولية على وقف النار القائم بعد توسيعه، وتعزيز دور وساطة الهيئة الحكومية للتنمية في شرق إفريقيا، وإعطاء مهلة ستة أشهر للمفاوضات التي تديرها الهيئة بين الحكومة السودانية والمتمردين الجنوبيين. على أن تبدأ بعدها ضغوط من خلال إجراءات عقاب تستند إلى تقارير فرق الرقابة الدولية، وتزامن الإعلان عن هذه المعلومات مع اختتام اجتماعات شركاء «إيغاد» في روما. وهي مجموعة من الدول الغربية تعنى بجهود المنظمة الإفريقية، خصوصاً لناحية حل النزاعين السوداني والصومالي. ويتولى «الشركاء» تمويل عمل «الإيغاد» في حقل السلام السوداني الذي يقتصر على تفاوض بين الخرطوم والجنوبيين بقيادة العقيد غارانغ، ولا يشمل المعارضة. الشمالية وفي موازاة ذلك، صدرت في الأيام الأخيرة إشارات عن الحكومة السودانية ومعارضين بارزين باقتراب تدويل قضية جنوب السودان، الذي تجلّت أبرز صوره في قرار خاص بالسودان أصدره الكنغرس الأميركي، تبعه تعيين الرئيس كلينتون رئيس لجنة إفريقيا السابق في الكنغرس هاري جونستون مبعوثاً خاصاً، وهو كان رعى قبل خمس سنوات مصالحة بين غارانغ وخصمه رئيس مجلس جنوب السودان رياك مشار، وتفيد معلومات من مصادر دبلوماسية أن الأميركيين والأوروبيين توافقوا على التداول في ظل ضغط متزايد مارسته منظمات مسيحية وإنسانية غربية لوقف الحرب الأهلية في جنوب السودان.

    وفي المعلومات أن التوجه الجديد يرتكز إلى حزمة من الخطوات المتتالية يمكن رصدها على النحو التالي:

  l إقرار وقف شامل لإطلاق النار (تحقق بعضه بإعلان من الخرطوم وغارانغ).

  l الدفع في اتجاه قبول إرسال فرق مراقبين دوليين أو إقليميين لوقف النار يصبحون حكماً ومصدراً لمواقف مستقبلية في الإدانة والتواصل المستمر مع الأطراف.

  l صدور قرارات ضاغطة تدفع بالطرفين إلى إكمال تفاوضهما على أساس تقرير المصير الذي يمكن أن يؤدي إلى انفصال الجنوب.

    ومن المتوقع أن يبدأ تنفيذ الخطة بعد مهلة تصل إلى ستة أشهر تعطي في خلالها أمانة (إيغاد) الجديدة إلى الكيني دانيال أمبوبا، وركز اجتماع الشركاء في روما على إكمال تشكيل هذه الأمانة، وتعيين ثلاثة مستشارين (عسكري وسياسي وقانوني) من ذوي الخبرة الدولية في فض النزاعات بالطرق السلمية، وتناول اجتماع روما أيضاً تمديد التزامات تمويل عمل الهيئة، ومساعدتها عملياً على تنشيط جهودها خلال المهلة. وينتظر أن تعقد جولة جديدة من المفاوضات في نيروبي قبل نهاية الشهر الجاري (كانون الأول).

    وإذا انتقلنا الآن إلى الساحة السودانية نفسها، نرى أن أميركا اعتمدت في تحقيق مشروعها الخبيث الخاص بجنوب السودان على إيجاد حالة من عدم الاستقرار السياسي وحالة اقتصادية سيئة، فقامت بدعم حركة التمرد، متمثلة بالحركة الشعبية، عن طريق الدول المجاورة التابعة لها، والأموال التي تقدمها واشنطن على شكل مساعدات لجنوب السودان، فاستمرت الحرب الأهلية 16 عاماً، وأدت إلى حدوث مجاعات في مناطق القتال وحالة اقتصادية سيئة، وحكومة هشة، وصراعات داخل السلطة الحاكمة نفسها، فالقتال المستمر والمجاعات أدت إلى نزوح عدد كبير من جنوب السودان يقدر بـ 4 ملايين شخص وهذا يمثل ثلثي سكانه، في حين بلغ عدد اللاجئين الذين نزحوا إلى العاصمة الخرطوم من مناطق القتال والدول المجاورة 2.5 مليون لاجئ يسكنون سكنى هامشية بلا صحة ولا مدارس، ولا أكل ولا شرب، ما أدى إلى تردي الحالة الاقتصادية في العاصمة نفسها، حتى إن نصف السكان لا يتوفر لديهم الثلاث وجبات، وأيضاً من جراء الحالة الاقتصادية المتردية تم تسريح عدد كبير من موظفي الدولة فمن الشرطة سرح عشرات الألوف، ومن الجيش مثلهم، أما الخدمة المدنية فقد تجاوز عدد المسرحين هذا العدد حتى أصبحوا متسولين.

    هذه بعض الأمثلة على الحالة الاقتصادية المتردية التي يعيشها السودان. أما بالنسبة للحكومة والصراعات داخل السلطة الحاكمة فقد أصبح على الساحة السودانية عدة مراكز قوى، عدا قوة رئيس الدولة عمر البشير، فهناك قوى موالية للدكتور حسن الترابي متمثلة بالدفاع الشعبي، والشرطة الشعبية، وغيرهم بالإضافة للمؤتمر الوطني (الحزب الحاكم)، أيضاً أصبحت هناك قوى داخل العاصمة تتكون من الجنوبيين أتباع رياك مشار مساعد الرئيس السوداني لشؤون الجنوب، وكونغور اراب نائب الرئيس فإن لهم قوات مسلحة داخل العاصمة غير تابعة للجيش السوداني، وصاروا يصطدمون مع بعض داخل العاصمة.

    وقد خلقت حالة البلاد هذه صراعاً محموماً بين البشير والترابي على مراكز القوى والنفوذ داخل السلطة والمؤتمر الوطني، وقد كان يهم أميركا من هذا الصراع أن ينتهي إلى تنفيذ مخططاتها كاملة والحيلولة دون أن يكون للإنجليز وجود مؤثر في السودان، وعليه فقد راقبت هذا الصراع من هذه الزاوية والذي اشتدت سخونته في الأشهر الأخيرة، فقد تصاعدت الخلافات بين الرئيس البشير والدكتور حسن الترابي حتى ظهرت إلى العلن، فقد بدأ الأخير باعتباره رئيساً للبرلمان، وأميناً عاماً للمؤتمر الوطني بتعديلات دستورية واسعة النطاق رداً على الإجراءات التي اتخذها الجهاز التنفيذي؛ والتي استهدفت تحجيم صلاحياته ونفوذه داخل المؤتمر الوطني.

    فقد شملت التعديلات المقترحة، تعديلات دستورية، وتعديلات في المؤتمر الوطني (الحزب الحاكم) فجرى النقاش في البرلمان على تعديلات دستورية تشمل ستة بنود دستورية:ـ اختصاصات رئيس الجمهورية، ومجلس الوزراء، وخلو منصب الوالي، ومهمات البرلمان، وديوان الحكم الاتحادي. ومن جهة أخرى جرى العمل على استحداث منصب رئيس الوزراء، وانتخاب الولاة مباشرة، ما يعني تقليص صلاحيات الرئيس.

    وعلى صعيد آخر قام المؤتمر الوطني (التنظيم الحاكم) بتعديلات جوهرية في نظامه الأساسي لتتوافق مع قانون التوالي (الأحزاب) الذي يحظر انتماء العسكريين إلى أي تنظيم سياسي، ومن هنا تم إلغاء دور الفريق المتقاعد حسان عبد الرحمن وجميع القادة والضباط الذين كانوا يشكلون لجنة الدفاع والأمن في الحزب الحاكم، وهذا الأمر اقتضى صيغة قانونية تسمح باستمرار عمر البشير في منصبه كرئيس للحزب الحاكم ورئاسة الجمهورية فقد قال معتصم عبد الرحيم مسؤول المؤتمر الوطني في الخرطوم «إن البشير قد يتخلى عن بزته العسكرية نهائياً إذا كان يريد الاحتفاظ بمنصبه في رئاسة المؤتمر الوطني ورئاسة الجمهورية». وعند انعقاد المؤتمر الوطني طرحت فكرة إحلال وجوه جديدة شابة في أغلب المناصب القيادية التنفيذية، وفي مقابلة مع المشاهد السياسي سئل الترابي عن قصده بالإشارة إلى موضوع الدماء الجديدة، فأجاب «… إذ لا يمكن للقيادات المتقدمة في العمر مهما كانت حكمتها أن تكون قيادات تنفيذية متمكنة من مهمتها أفضل من سواها».

    وفي الانتخابات الأخيرة للمؤتمر الوطني انتخب الترابي أميناً عاماً للحزب الحاكم، وأصبح بذلك الرجل الأول من الناحية الحزبية، والبشير رئيساً للمؤتمر الوطني (الحزب الحاكم). ورئيساً للجهاز التنفيذي، ما أعطى الترابي فرصة أقوى لتدعيم موقفه ونفوذه، والسير في التعديلات المقترحة.

    أما على صعيد إنهاء الحرب الأهلية فقد فتح الترابي حواراً مفتوحاً مع رئيس الوزراء الأسبق وزعيم المعارضة الصادق المهدي، للمصالحة الوطنية، وصرح للمشاهد السياسي الصادرة في 4 كانون أول/ ديسمبر أنه لا خلاف بينه وبين البشير حول السياسة الخارجية والاقتصاد والمعالجة الوطنية «والحقيقة أنه لا خلافات مبدئية داخل قيادات المؤتمر فيما يتعلق بالسياسة الخارجية أو الوفاق الوطني أو الاقتصاد، لذلك لا يمكن القول إن هناك خلافات حقيقية داخل المؤتمر.

    أما الرئيس البشير فقد ضاق ذرعاً من أسلوب الترابي، وتمادي نفوذه وصلاحياته. فبدأ بحشد التأييد داخل السودان وخارجه للانقلاب على الترابي وتحجيم نفوذه وصلاحياته. فقام عدد من كبار الوزراء بتقديم (مذكرة العشرة) والتي هدفت إلى تحجيم صلاحيات الترابي داخل المؤتمر الوطني، وقد صدرت تعليمات لكبار المسؤولين بالامتناع عن إطلاع الترابي على ما يجري في الجهاز التنفيذي، وحجب المعلومات عنه ما أمكن، وجرت محاولات لمنع الزيارات الخاصة التي يقوم بها كثير من المنتسبين إلى الحركة الإسلامية لمنزل الترابي، وكان التعليل أن مجالس الترابي أضحت معبراً لتسريب أسرار الدولة، واتهم البشير وقادة الجيش أتباع الترابي بالتهور ورفض القرارات وتوفير كوادر تنقصها الخبرة والحكمة لتلحق بالجيش كما حدث حينما خالفت (قوات الدفاع الشعبي) القيادة العليا، وشنت هجوماً ضد حركة التمرد قاده صغار الضباط ما أدى إلى وقوع خسائر كبيرة في الأرواح والمعدات.

    وأصبح البشير يبدي اهتماماً كبيراً في الوفاق الوطني، وتحسين صورة السودان التي تشوهت، فأظهر مرونة كبيرة في تنفيذ المخطط الأميركي الخبيث.

    فاهتم البشير شخصياً بملف ممتلكات قادة المعارضة في الخارج، وعقد اجتماعاً مع مقرر لجنة الوفاق الوطني الوزير لام كول واتفقا على اتخاذ تدابير شملت «إعادة كل الممتلكات الشخصية المصادرة إلى أصحابها وإلغاء لوائح السفر لأسباب سياسية، والعفو عن المحكومين السياسيين» وأعلن عن وقف لإطلاق النار في مناطق القتال. وقام بزيارة لعدة دول إفريقية بعضها عضوة في الإيغاد لبحث محادثات السلام التي ترعاها الإيغاد، ولم يستبعد في تلك الزيارة الاجتماع مع جون غارانغ زعيم الحركة الشعبية. وقال: «إنه ليس هناك ترتيبات لعقد مثل هذا الاجتماع، ولكن إذا أثرت التطورات على عملية السلام فإنه يمكن عقد اجتماع بين الحكومة السودانية، وحركة المتمردين على أي مستوى» وفي نفس الزيارة دعت جيبوتي البشير لحضور قمة للإيغاد ستعقدها في 28/ تشرين ثاني/ نوفمبر وفي 26/ تشرين ثاني نوفمبر، تم اللقاء بين البشير والصادق المهدي زعيم المعارضة، ورئيس الوزراء الأسبق في جيبوتي.

    وتم الاتفاق على عدة مبادئ كأساس لأي حل سلمي شامل يضع حداً للحرب الأهلية في السودان. ويشمل الاتفاق (نداء الوطن) على عشرة بنود، وقد انطوى على مرحلة انتقالية لمدة أربعة أعوام ينظم بموجبها استفتاء في الجنوب للاختيار بين وحدة بسلطات لامركزية يتفق عليها (نظام فدرالي) أو الانفصال، وأن تكون المواطنة على أساس الحقوق والواجبات الدستورية، ولا فضل لأية مجموعة وطنية على أخرى بسبب انتماء ديني أو ثقافي أو إثني، ويضاف ضرورة مراعاة المواثيق الدولية المعنية بحقوق الإنسان، وتكون ملزمة. وركز الاتفاق على المبادرة الوطنية باعتبار أنها تشكل محور الحوار والتفاهم السوداني ـ السوداني، وتعمل على دفع جهود السلام عبر مبادرة (الإيغاد) والمبادرة المصرية الليبية.

    وكانت الخرطوم قد نجحت في استمالة الصادق المهدي وإغرائه، فقد ظهر المهدي ولأول مرة منذ سنوات على الشاشة الصغيرة، وكان الترابي عرض عليه المشاركة في حكومة مشتركة، فاستطاعت الخرطوم بهذا الاتفاق/ وبالتنسيق مع جون غارانغ ضرب المعارضة الشمالية، فقد جرى إطلاع غارانغ على الخطوط العريضة للاتفاق، في حين لم يعلم به بقية أعضاء التجمع الوطني حسب ما نقلت مصادر صحفية.

    فقام غارانغ بالانسحاب من التجمع الوطني في ختام مداولاته في كمبالا في 11/12/99 فقد جرى تراشق بالاتهامات بين (الحركة الشعبية) و(حزب الأمة) في العاصمة الأوغندية وانتقد غارانغ عمل اللجنة الخماسية المكلفة متابعة الحل السياسي الشامل، وتضم إلى جانبه المهدي والميرغني، والناطق باسم التجمع فاروق أبو عيسى، ورئيس الحزب الفيديرالي السوداني محمد إبراهيم دريج، وقدم غارانغ وأبو عيسى ودريج استقالاتهم من اللجنة لعدم استكمالها الأعمال المنوطة بها، وقال نجيب الخير إن المهدي والميرغني هما الآن وحدهما في اللجنة ولن يضاف إليهما أعضاء جدد.

    وقد أظهرت مواقف غارانغ الأخيرة وجود تقارب كبير بينه وبين الحكومة السودانية يمهد السبيل إلى عقد مفاوضات بين الجانبين، فقد قال غارانغ أمام المؤتمر السنوي للّجنة الدولية لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، في جنيف «في ظل إصرار الخرطوم على فرض قوانين الشريعة، ورفض الجيش الشعبي لذلك، وإذا كان السودان يحتفظ بدرجة من الوحدة في ظل هذين الموقفين المتناقضين، فإن السبيل المنطقي الوحيد لحل المشكلة هو الاتفاق على قيام كونفدرالية في الفترة الانتقالية، وإجراء استفتاء على تقرير المصير للجنوب والمناطق الأخرى المهمشة» ومن جهة أخرى أبدى غارانغ موافقته على المبادرة المصرية الليبية مع دمجها في مبادرة الإيغاد، فقد صدر قرار بموافقته يحض على ضرورة التنسيق بين المبادرتين.

    وفي الزيارة الأخيرة للبشير للدول الإفريقية، اجتمع مع الرئيس الأوغندي يويري موسيفيني المتعهد الإقليمي للمشروع الأميركي في الجنوب في 8/12/99 بحضور الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر جرى الاتفاق فيه على تحسين العلاقات بين البلدين ما يعني الاتفاق على حل قضية الجنوب.

    فاستطاع البشير بتحركاته الأخيرة كسب تأييد المؤسسة العسكرية، والدول المجاورة، والولايات المتحدة الأميركية، ما مهد السبيل أمامه للانقلاب على الترابي.

  l الانقلاب على الترابي:

    اعترض البشير على التعديلات المقترحة، والتمس تأجيل البرلمان لمناقشة هذه التعديلات بدعوى أن تحقيق الوفاق الوطني والمصالحة مع المعارضة تحتل الأولوية في برنامج اهتمامات الرئاسة والحزب الحاكم، غير أن رئيس البرلمان د. حسن الترابي دعا النواب إلى مواصلة مناقشة التعديلات وسط خلافات عميقة إذ إن أنصار الرئيس وفي جلسة علنية اعترضوا على التعديلات وركزوا هجومهم على اقتراح يقضي بانتخاب والي الولاية مباشرة عن طريق الاقتراع الحر، وهو ما اعتبره أنصار الرئيس أنه «يفتح الباب أمام انفصال الولايات ويهدد بتفتيت وحدة السودان في ظل ظروفه الحالية».

    قام البشير بعقد عدة اجتماعات مع الترابي لحل الخلاف، وعدم المضي قدماً في التعديلات ولكن الترابي أصر على مواقفه فاحتدم الخلاف بينهما ما أنذر بوجود إجراء معين تجاه الترابي. أما عن القشة التي قصمت ظهر البعير فهي قرار اتخذه الترابي في اجتماع عقدته الهيئة القيادية للتنظيم الحاكم (المؤتمر الوطني) تغيب عنه البشير ونوابه وبعض الوزراء، بتكوين لجنة من ثلاثة أشخاص، لمساءلة الرئيس ونائبيه، والوزراء المتغيبين عن جلسات البرلمان لمناقشة التعديلات الدستورية، وأطلق عليها (لجنة الأزمة) وعندما أُبلغ البشير بذلك طلب من نائبه علي عثمان محمد طه، وأحمد إبراهيم الطاهر وزير الحكم الاتحادي صياغة الإجراء بحل البرلمان وتعليق المواد الواردة في الدستور عن الحكم الاتحادي، وفي اجتماع عقده البشير في القيادة العامة مع رؤساء الاستخبارات العسكرية، وقوات الدفاع الشعبي، وقوات المظلات والقوات الخاصة، تم ترتيب تأمين المناطق الاستراتيجية في العاصمة والترتيبات الأمنية الأخرى وفي مساء ذلك اليوم 12/12/99م تم إعلان حالة الطوارئ لمدة ثلاثة شهور، وحل البرلمان، واتخذ القرار دون علم الوزراء الذين كانوا مجتمعين مع البشير في يوم الإعلان نفسه.

    وعقب (انقلاب البشير على الترابي) اجتمع البشير في القيادة العامة بالضباط والجنود وتحدث فيهم بحماس شديد، أنه عاد إلى المؤسسة العسكرية ليحكم باسمها قبل أن يغيّر لهجته، ليتحدث عن انتمائه إلى الجبهة القومية منذ صغره، وإنه أثناء حديث الرئيس البشير للجنود في سلاح المظلات ـ قرب قاعدة الخرطوم الجوية ـ نهض أحد العسكريين وأدى التحية للبشير وقال بلهجة صارمة (ما عاوزين أي ذقن) كناية عن رفضه لمشاركة الإسلاميين في السلطة، فضحك البشير. ذكرت ذلك مجلة الوسط في عددها الصادر في 20ـ 26/12/99م. وساندت المؤسسة العسكرية البشير بلا تحفظ.

    وفي معرض شرح البشير للمبررات التي دعته للقيام بالإجراءات الأخيرة قال إنه قام بها لإعادة هيبة الدولة، والمحافظة على وحدة السودان، وإنهاء الحالة من الفوضى الحزبية التي عمت البلاد، ولتحسين العلاقة بين السودان ودول المنطقة والعالم، وأنها قد رحبت في حركة التغيير في السودان، وفي معرض التعريض بالترابي قال: «إن عليه الالتزام باختصاصاته، ولا ينتقل إلى السلطة الحاكمة».

    وبدأ البشير بحشد التأييد لما أقدم عليه داخلياً وخارجياً، فقد ذكرت مجلة الوسط في العدد نفسه السابق ذكره أن البشير بصدد إجراء تعديل في مواقع الولاة، إذ تسلم استقالات عدة، وأغلب المرشحين لمناصب الولاة من العسكريين، وأن البشير أعاد 35 ضابطاً مفصولاً إلى الخدمة المدنية. وأكد في عدة مناسبات على تطبيق الشريعة الإسلامية.

    ومن جهة أخرى فقد صرح غازي صلاح الدين وزير الإعلام عقب حل البرلمان «إن الخطوة الأولى للحكومة التوصل إلى اتفاق مع المعارضة على تعديلات دستورية مع الأخذ في الاعتبار تحفظاتها على قانون التعددية السياسية». وقال أيضاً «إن الإجراءات الأخيرة هيأت فرصاً جديدة للسلام في السودان، وأن المعارضة ملتزمة بإنهاء الأزمة في السودان» وقال البشير في حفلة إفطار رمضاني أقامته الطائفة القبطية في الخرطوم 26/12 أن «أي حكومة سودانية لن تستمر إذا لم تمنح الشعب حرياته كاملة» وقال: «إن العام الجديد سيكون عام الوفاق والمصالحة والسلام». وأوضح أنه سيسمح بحرية العمل السياسي للتنظيمات كافة من دون قيود التسجيل الذي يفرضه قانون تنظيم الأحزاب المعروف باسم «قانون التوالي السياسي».

    وعلى صعيد آخر قام البشير بزيارة لليبيا واجتمع فيها مع عدد من القادة الأفارقة في قمة مصغرة، وقال إن سبب الزيارة كان «لشرح التطورات الأخيرة في السودان، وتحقيق المصالحة الوطنية» وأعقبها بزيارة لمصر لمدة يومين، أعرب فيها (عن شكره لموقف مصر الداعم للشرعية في السودان، والذي أدى إلى تطويق الأزمة وانحسار نتائجها بما يحمي السودان وأمنه القومي، وكانت مصر أعلنت عبر وزير خارجيتها عمرو موسى أنها تدعم الحكم في السودان، ووحدة أراضيه وقد رد أسامة الباز مستشار الرئيس المصري على انتقادات وجهت لمصر من مؤيدي الترابي حول تدخلها في شؤون السودان الداخلية بقوله «كل ما فعلته مصر أنها أصدرت بياناً قالت فيه إنها تساند الشرعية وتدعم الحكم في السودان» وقال عمرو موسى: «إن المرحلة حرجة، وإن مصر لا تؤيد أي سياسة تؤدي إلى عدم استقرار السودان، وتوجد سلطتين فيه». وقال إن بلاده تسعى للوصول إلى «معادلة تفيد الشعب السوداني من دون معاداة القوى الكبرى وجيرانه» ودعا السودانيين إلى «التوافق والتوحد في سبيل الوصول إلى مستقبل جديد للسودان يأخذ في اعتباره وجهات النظر المختلفة في شأن الاختلافات الكبيرة في تركيبة الشعب السوداني» في إشارة إلى إنهاء قضية الجنوب.

  l رد فعل الترابي:

    وصف الترابي إجراءات البشير أنها بمثابة انقلاب عسكري، وقال إنها خيانة، وفي تصريح للترابي لقناة الجزيرة الفضائية غداة حل البرلمان وإعلان حالة الطوارئ قال: إن قرار الرئيس السوداني كان فردياً وإن مجلس الوزراء لم يصادق عليه، وأردف أن عدداً كبيراً من الوزراء سيتقدمون باستقالتهم احتجاجاً على هذا «الانقلاب» وسمى الترابي من بين من قال إنهم سيستقيلون مصطفى عثمان وزير الخارجية، ولكن مصطفى عثمان صرح في اليوم نفسه، وعلى أثير الفضائية المذكورة بأنه لا ينوي الاستقالة مطلقاً، فقد خشي الوزير على نفسه وقام الترابي بالتهديد بشكل مبطن حين قال: «إنه لا يريد تحرك الشارع السوداني ولكن ذلك يمكن أن يحصل» وقال إنه سيطعن في دستورية القرار لدى المحكمة الدستورية وبالفعل توجه 11 نائباً برلمانياً إلى المحكمة للطعن في القرار.

    وحول الاتهامات التي صدرت ضده من البشير قال في مؤتمر صحفي إنه يعمل على إرساء الديمقراطية، ولا للحزب الواحد، وإنه يريد التطور نحو الحريات، والتوالي السياسي.

    وكان مجموعة من الضباط الموالين للترابي احتشدوا أمام منزله حسب ما جاء في مجلة الوسط على لسان مقربين من الترابي، أكثر من عشرين ضابطاً في القوات المسلحة و50 من ضباط الشرطة والأجهزة الأمنية يرتدون الملابس المدنية، وأبلغ هؤلاء الضباط الترابي بقدرتهم على التحرك، وإعادة الأوضاع إلى سابق عهدها. ولكن الترابي طلب منهم الهدوء كما جاء على لسان أحد كبار مساعديه إبراهيم السنوسي حيث قال: «نحن الذين أمرنا القواعد بالهدوء والالتزام».

    والظاهر أن سكوت الترابي كان ناتجاً عن قناعته بأن البشير قد كسب المعركة، ولكنه لم يكسب الحرب، بكسب تأييد المؤسسة العسكرية، والدول المجاورة. أما الولايات المتحدة فقد ربطت تأييدها بالسير في مخططها لفصل الجنوب حين قالت: «إنها ترحب في أي نتائج في السودان تسبب في المصالحة الوطنية، وإزالة الإرهاب، وأن واشنطن مع تغيير السياسات وليس تغيير الأشخاص»، وأيضاً فإن أميركا وجهت عبر مبعوثها الخاص إلى السودان هاري جونستون دعوى إلى أعضاء التجمع الوطني الديمقراطي المعارض إلى عقد اجتماع في واشنطن بداية العام الجديد، وألح جونستون عليهم أن يقدموا تصوراً عن شكل المساعدات التي يريدونها من الولايات المتحدة وطريقة إرسالها فقد قال عمرو موسى عن ذلك الاجتماع «مثل هذا الاجتماع يمكن أن يتخذ شكلاً جديداً في ضوء التطورات الجديدة» في إشارة للبشير للسير في المخطط الأميركي.

    وأيضاً أصبح واضحاً للترابي أن أي تحرك منه يعني حرباً أهلية ليست مضمونة النتائج قد تؤدي إلى تصفيته جسدياً، وأن الأجدى له حشد القوى المختلفة للضغط على البشير للعدول عن قراراته وإعادة الأمور إلى سابق عهدها.

    وعلى الصعيد نفسه فقد تمكنت لجنة الوساطة بين الترابي والبشير من إيجاد صيغة حل وسط، تبنتها هيئة الشورى في الحزب الحاكم في اجتماعها الذي عقد في 27/12/99م ومن أبرز القرارات التي خرجت بها الآتي:

 1ـ أن يحتفظ البشير بمنصبه رئيساً للمؤتمر الوطني والجهاز التنفيذي، والترابي أميناً عاماً للمؤتمر.

 2ـ احترام قرارات الرئيس بحل البرلمان وإعلان حالة الطوارئ على أن ترفع بأسرع وقت ممكن.

 3ـ يلتزم الطرفان النزول عند حكم المحكمة الدستورية.

 4ـ تحديد الاختصاصات والصلاحيات تحديداً دقيقاً.

 5ـ التنظيم يرسم السياسات العامة ويضع الخطط ويحشد التأييد، ويتلقى التقرير من الجهاز التنفيذي ويحاسبه دورياً.

 6ـ إعادة انتخاب وتشكيل الأجهزة التنفيذية للدولة، وأجهزة المؤتمر الوطني.

    والناظر إلى هذه القرارات يرى أنها لم تحسم القضية لأحد الطرفين، وهذا من شأنه أن يصعد الخلافات من جديد، فيبقى الطرفان بحاجة إلى حشد التأييد من القوى الداخلية والخارجية، لترجيح كفة أحدهم على الأخرى.

    أيها المسلمون:

    ها أنتم ترون مخططاً تآمرياً أميركياً خبيثاً ضد بلد من بلاد المسلمين في مسلسل التفتيت الذي تسير فيه أميركا العدوة، تشترك فيه الحكومة السودانية، ودول المنطقة المجاورة، وإنا لنتساءل هنا ومن حقنا أن نتساءل… أما يكفينا تفتيت وشرذمة حتى يقسم السودان إلى دولتين، والعراق إلى ثلاث، وإندونيسيا إلى دول بعدد جزره التي تبلغ الآلاف؟

    أما آن لنا أنة نعمل على هدم هذه الكيانات المسخ التي تزيدنا تفريقاً واختلافاً وشرذمة، وان نقيم على أنقاضها دولة الخلافة الراشدة التي توحد بلاد المسلمين تحت راية لا إله إلا الله  محمد رسول الله  في ظل أمير المؤمنين فيظهر الإسلام على كل مبدأ ودين، ويسير الراكب من مشارق الأرض ومغاربها إلى حضرموت وغيرها من بقاع المسلمين لا يخشى شيئاً سوى الله رب العالمين.

    اللهم عجل لنا بنصرك العزيز المبين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *