العدد 154 -

السنة الرابعة عشرة _ ذو القعدة 1420هـــ _شباط 2000م

أثر فساد الاقتصاد الغربي في البشرية (2)

تحدثنا في الحلقة الماضية عن فساد الأسس الاقتصادية في أنظمة الغرب والتي بني عليها بناؤهم الاقتصادي، الذي لا يقل فسادا عن أساسه، بل هو امتداد لهذا الفساد.

  ولنا في هذا المقال عبرة بقوله تعالى وهو يربط ما بين الأساس والبناء في صلاح المجتمع وصلاح أعماله: (أفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلَى تَقْوَى مِن اللهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهارَ بِهِ في نَارِ جَهَنَّمَ واللهُ لا يَهْدي القَوْمَ الظَّالِمِينَ)التوبة109. وقال: (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُم مِن القَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأتاهُمُ العَذَابُ مِن حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ)النحل26.

  إن البناء الاقتصادي الغربي يتمثل في ثلاثة ركائز أساسية، هي: النظام المصرفي والبنوك، والشركات الرأسمالية، والنظام النقدي الورقي.

  وفي موضوعنا هذا لن نتحدث عن أحكام هذه الركائز، فهذا يحتاج إلى أبحاث والحديث فيه يطول، ولكن سنتحدث باختصار عن الدمار الاقتصادي الذي جلبته هذه الركائز بما تفرع عنها من مؤسسات على مجتمعات الغرب بشكل خاص وعلى البشرية بشكل عام.

 v       أولا:  النظام المصرفي والبنوك:

  المصارف والبنوك في أنظمة الغرب قائمة على أساس اقتصادي فاسد، هو تحقيق المنفعة المادية التي تشبع حاجة بغض النظر عن الدمار على الفرد والمجتمع بشكل عام.

  وهي في نظرنا نحن المسلمين قائمة على أساس الربا الذي قال الحق تبارك وتعالى فيه: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِن المَسِّ).البقرة 275

  وعلى أساس الكنز الذي قال الحق تبارك وتعالى فيه: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها في سَبِيل اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ ألِيمٍ)التوبة 34.

  فالبنوك، والمؤسسات المصرفية في مجتمعات الغرب قائمة على هذا الأساس، فهي مؤسسات ضخمة تتشكل في غالبها عن طريق مؤسسات خاصة يملكها شخص أو مجموعة أشخاص من الأثرياء، أو تتشكل بنظام الشركات المساهمة، عن طريق ما يودعه الناس من أموال في هذه المؤسسات.

  وطبيعة أعمالها في الغالب تقوم على منفعة الأموال “الربا” فتجمع المال من أيدي الناس متفرقاً بنسبة ربا قليلة، وتقرضه لآخرين بنسبة ربا مرتفعة، أو تقوم المؤسسات الصغيرة بالإيداع في مؤسسات أكبر تحقق فائدة ـ ربا ـ أكبر، في نفس الدولة أو في دولة أخرى.

  وقد تقوم أيضا بأعمال ومشاريع هي بنفسها عن طريق إغلاق إيداعات قسم من الناس لمدد زمنية طويلة بزيادة نسبة الفائدة لهم.

  أما خطر هذه المؤسسات وآثارها المدمرة في المجتمع فتتمثل:

أولاً:  تجعل المال دُولة بين أيدي فئة معينة في المجتمع وتحرم بقية الناس من تداول هذا المال، فعن طريق الفائدة يسحب المال من أيدي الناس، وعن طريقها كذلك يمكن الرأسماليين  الكبار القادرين على الاستثمار والسداد من أخذ كميات كبيرة من المال من هذه البنوك، وهذا بالتالي يزيد الفقراء فقراً والأغنياء غنى. فالأغنياء ينشئون المشاريع الضخمة التي تتحكم باقتصاد البلد، والفقراء يعيشون تحت رحمة هذه الطبقة، من حيث عرض السلع والخدمات وتحديد الأثمان لها، وتصبح إيداعات الطبقة الكادحة أو الفقيرة في البنوك هي أداة لجلب الشرور عليها بعكس ظنها أنها ستجلب لها الخير، وتصبح الفوائد التي تأخذها من البنوك الربوية شرياناً جديداً يصب في روافد الأغنياء بطريقة أو بأخرى.

ثانياً:  بروز سياسة التحكمات في الإنتاج والاستهلاك، وذلك أن الرأسماليين الكبار أصحاب الشركات هم الذين يفرضون الثمن للسلعة المنتجة بسبب احتكارهم للمشاريع وعدم قدرة غيرهم على إنشاء مثل هذه الشركات الضخمة، والبنوك غالبا ما تساعد في هذه السياسة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. فقد يقوم البنك هو نفسه بإنشاء مشاريع لسلع معينة، ويشترط على مستثمرين آخرين عدم منافستهم في ذلك، أو قد يساعد رأسماليين معينين على هذا التحكم بمنع آخرين من منافستهم، إما بإقناعهم أن هذه المشاريع غير مجدية اقتصاديا ولا تمكنهم من سداد الديون، وإما بالاشتراط مباشرة عليهم عدم تأسيس مثل هذه المشاريع وذلك بالاتفاق مع عملاء آخرين.

ثالثاً:  تؤثر البنوك في غلاء الأسعار في المجتمع، وذلك بسبب احتكار المشاريع من قبل الرأسماليين والذين بدورهم يفرضون الأسعار التي يرونها، فيقومون برفع السعر أو بسحب البضاعة أو بطرحها متى شاءوا، وبسبب الفوائد البنكية المستحقة على أصحاب الشركات والتي تدفعهم لسداد هذه الفوائد في أقرب وقت ممكن عن طريق رفع الأسعار على المستهلكين.

  وهذا الأمر أي مسألة تحكم الرأسماليين في الأسعار-يدفع الدولة أحيانا للتدخل بنظام ترقيعات يفرض أسعارا معينة لسلع معينة، أو لدعم سلع معينة من قبل الدولة لتمكين المواطن من استهلاكها أو باستيراد سلع معينة وطرحها في السوق لخفض الأسعار.

رابعاً:  يساعد البنك في الأزمات التي تحصل في أسواق المال، إما بإقراض المتعاملين في سوق الأسهم مباشرة الأموال الضخمة التي تمكنهم من شراء أسهم كبيرة لمشاريع معينة وبالتالي رفع قيمة هذه الأسهم في البورصة وبالتالي إبقاء الناس في الوهم أن هذه الأسهم ارتفعت قيمتها فعلاً فيقدم الناس على شراء هذه الأسهم بشكل جنوني ما يزيد في ارتفاع سعرها مرة أخرى وبعد أن يتم شراء كميات كبيرة من هذه الأسهم من قبل الناس، تهبط هذه الأسهم هبوطا مفاجئاً وذلك بعد زوال الهدف الذي من أجله رفعت وهو إيقاع الناس في الوهم.

  ومما يزيد الطين بِلة، الارتباك الذي يحصل بين الناس فيقبلون على بيع الأسهم بشكل جنوني، مما يزيد عملية الهبوط، وهذا الأمر يدمر كثيراً من الأشخاص، وقد يؤدي إلى كوارث اقتصادية، أو إلى زوال حكومات.

  ويقوم البنك كذلك بتغطية خسائر المتعاملين في سوق الأسهم من الذين تعرضوا للخسارة، وذلك عن طريق إقراضهم الأموال التي تمكنهم من الاستمرارية في عمليات المضاربة، وهذا بالتالي يؤدي إلى حدوث كوارث اقتصادية لهؤلاء الناس بسبب ارتهانهم للبنوك وعدم قدرتهم على تسديد الأموال “القروض” أو فوائد هذه القروض.

خامساً:  تهريب رؤوس الأموال في الدول النامية أو ما تسمى بالدول الفقيرة ـ دول العالم الثالث ـ وذلك عن طريق إنشاء بنوك أجنبية في هذه البلدان وبالتالي سحب الأموال من أيدي الناس مباشرة لصالح الدول الأجنبية، وإما عن طريق البنوك المحلية والتي تقوم بدورها بسحب الأموال من أيدي الناس متفرقة بنسبة فوائد قليلة تصل إلى سبعة أو ثمانية بالمائة، وإيداعها في بنوك الغرب بنسبة فائدة أعلى وهي مجمعة بملايين الدولارات.

  وهذا الأمر فيه خطر كبير على هذه البلدان حيث يحرم البلد من رأس ماله الذي يمكنه من إنشاء المشاريع، ويضعه في أيدي دول أخرى  تستغله في مشاريع عندها. وهناك بعض الدول تفرض رقابة معينة على خروج رؤوس الأموال، وهناك من الدول من يفتح الباب على مصراعيه للاستثمارات ولإنشاء البنوك وغير ذلك كما حدث في الكويت أخيراً.

سادساً:  أهداف استعمارية: وهذا يتمثل بأعمال بعض الدول ذات الغطاء النقدي لعملات أخرى أو الدول الصناعية ذات النقد القوي العالمي.

  فالولايات المتحدة مثلاً ترفع سعر الفائدة في بنوكها لتجذب الأموال إليها وبالتالي زيادة كميات المال في بلادها التي تمكنها من المشاريع. أو نتيجة تعرض عملتها لهزات أدت إلى خفض قيمتها بسبب قيامها بأعمال كبيرة إما اقتصادية أو عسكرية، فتلجأ إلى هذه الطريقة لدعم عملتها داخل بلادها.

  وتلجأ أحياناً أخرى عن طريق البنك المركزي بإصدار كميات كبيرة من الدولار الأميركي، الغطاء النقدي للعملات الأخرى، وبالتالي تنخفض  قيمة هذه العملة بسبب طرح كميات زائدة منها في السوق فتجبر الدول المرتبطة بالدولار إجباراً لشراء الكميات الزائدة في السوق لتحافظ على قيمة مدخراتها بالدولار، ولتحافظ أيضا على قيمة نقدها.

  وقد تقوم الدول مثل الولايات المتحدة بخفض قيمة عملتها مباشرة عن طريق البنك المركزي لأسباب تجارية حيث تشجع التجار على شراء البضائع من بلادها بسبب انخفاض أسعارها مقارنة مع دول أخرى بسبب انخفاض العملة لذلك البلد، أي بسبب انخفاض الأسعار لهذه السلع نتيجة انخفاض الدولار الأميركي.

  هذه بعض الآثار المدمرة التي تسببها البنوك في مجتمعات الغرب وفي مجتمعات أخرى. وهناك آثار أخرى كثيرة ليس هناك مجال في هذا المقال يذكرها، فمثل هذا الموضوع يحتاج إلى مجلد كامل يشرح فيه هذه الآثار المترتبة على هذه البنوك وعلى أنظمتها الفاسدة.

v        ثانياً:  الشركات الرأسمالية وآثارها السيئة في المجتمعات:

  الشركات الرأسمالية لا تختلف كثيرا عن البنوك بل هي من جنسها، فطريقة إنشائها وطريقة تحصيلها للمال، وطبيعة أعمالها لا تختلف كثيراً عن البنوك بل تشبهها إلى حد كبير، وقد تكون البنوك كما قلنا هي شركات رأسمالية.

  فالشركات الرأسمالية تساعد في جعل المال دُولة بين أيدي فئة معينة في المجتمع، وتشجع فكرة كنز المال، وتنمي الاحتكارات الاقتصادية بأنواعها، في احتكار السلع والأسواق، والمواد الخام وتخلق طبقة من العبيد في المجتمع، طبقة مسلوبة الإرادة والقرار والحرية بسبب الأموال والإغراءات التي يقدمها الرأسماليون في سلب قراراتهم وحرياتهم، وتجعل الطبقة الحاكمة في المجتمع هي فقط طبقة الرأسماليين الكبار أصحاب الشركات الكبرى، وتحرم بقية الناس من هذه الميزة، حيث أن هذه الطبقة هي القادرة على شراء الأصوات دون غيرها، وكذلك تغذي فكرة الطبقية في المجتمع، فالمجتمع الرأسمالي ينمي إيجاد طبقتين طبقة الرأسماليين الكبار “الأسياد” وطبقة الفقراء الكادحين “العبيد”.

  والشركات الرأسمالية تسبب غلاء الأسعار بسبب سياسة التحكمات وإغلاق الأسواق.

  وهناك قضية خطيرة تسببها الشركات الرأسمالية والبنوك في آن واحد وهي فكرة الاستثمار خارج البلاد وذلك من أجل تحصيل المال من أيدي الناس، وتحصيل المواد الخام بأبخس الأسعار وإيجاد أسواق للسلع والمنتجات، ولتحقيق أكبر قيمة للثمنية، ولا غرابة إذا قلنا أن فكرة الاستثمار الأول كانت اقتصادية بحتة، بسبب طموحات أصحاب الشركات الرأسمالية مثل شركات البترول وشركات الحديد والصلب.

[يتبع]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *