العدد 230 -

السنة العشرون ربيع الأول 1427هـ – نيسان 2006م

الآثار الدنيوية للحكم بما أنزل الله (1) الاستخلاف والتمكين

الآثار الدنيوية للحكم بما أنزل الله  (1)

الاستخلاف والتمكين

إذا أقام العباد دين الله في أنفسهم، وخلص لله تحاكمهم في سرهم وعلانيتهم، وملكوا الفهم الصحيح لكيفية فهم الدين ونشره وطريقة إقامته، واستقامت دعوتهم على هذا الفهم الصحيح، وصبروا على ما لاقوا في سبيل ذلك من تكذيب وتشريد وتعذيب… فإن الله سبحانه يقويهم ويشد أزرهم حتى يستخلفهم في الأرض، فإذا استخلفهم طالبهم بتصديق الأعمال للنوايا، وأمرهم أن يقيموا الشريعة في الأرض بالقسط والعدل، فإذا فعلوا ذلك مكّن لهم الملك ووطأ لهم السلطان. وفي القرآن مصداق هذه السنّة الإلهية في قصص شتى.

فبعد أن أخزى الله سبحانه وتعالى فرعون بإبطال السحر ودعوى الشرك تآمر مع الملأ من قومه وتوعد موسى ومن معه من المؤمنين بالويل والثبور… قال تعالى: ( وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَءَالِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ) [الأعراف 127] فاشتد الأمر على بني إسرائيل وخافوا بطش ذلك الجبار العنيد.. وهنا يحرص موسى عليه السلام على أن يظهر لقومه هذه السنّة الماضية فيقول لهم: ( اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) [الأعراف 128] وكذلك ينبههم إلى سنة الاستخلاف فيقول لهم بحسب ما جاء في القرآن الكريم: ( عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ) [الأعراف 129] فبين لهم أن المرجو من ربهم على حسب سنته أن يهلك عدوهم الذي سخرهم وآذاهم بظلمه ويجعلهم خلفاء في الأرض، كما وعد، وينظر سبحانه كيف سيعملون بعد استخلافه إياهم فيها، هل يشكرون النعمة أم يكفرون؟ وهل يصلحون في الأرض أم يفسدون، ليجازيهم في الدنيا والآخرة بما يعملون.

وقد نجح بنو إسرائيل -حيناً من الدهر- في هذا، فأنجز الله لهم ما وعد كما قال سبحانه: ( وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ ) [الأعراف 137] ومن وراثة الأرض والاستخالف فيها منّ الله تعالى عليهم بالتمكين إنفاذاً لمشيئته سبحانه حيث قال: ( وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ @ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ ) [القصص 5-6] وهكذا سُلب فرعون وهامان وجنودهما الأرض والملك بسبب الاعتداء على حق الله، بينما ورث المستضعفون أرض مصر والشام بعدها لما كانوا أئمة يقتدى بهم في الخير، وكان عليهم بعد ذلك أن يقوموا بحق الاستخلاف. فكما أن للاستخلاف ثمرة، فإن له تبعة، وذلك مصداق ما قاله تعالى لعبده ورسوله داود: ( يَادَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ) [ص 26].

ولقد خاطب الله المؤمنين من هذه الأمة واعداً إياهم بما وعد به المؤمنين قبلهم، فقال سبحانه في سورة النور: ( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ ) أي بدلاً عن الكفار ( كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) من بني إسرائيل. فإذا حقق المسلمون الإيمان وتحاكموا إلى شريعة الرحمن، فستأتيهم ثمرة ذلك وأثره ( وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ ) فهي مقدمات ونتائج، أعمال وآثار، فتحقيق التحاكم إلى الدين يتحقق به الاستخلاف، وتحقيق الحكم به يوصل إلى التمكين، فإذا لم يكن هذا ولا ذاك، فهنا يكون الظلم الذي يهلك الله به المجرمين، قال تعالى: ( وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ @ ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ) [يونس 13-14] أي جعلناكم خلائف في الأرض بعد أولئك الأقوام كلهم، بما آتيناكم في هذا الدين من أسباب الملك والحكم وقدرناه لكم باتباعه ( لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ) أي لنرى أي عمل تعملون في خلافتكم فنجازيكم بمقتضى سنتنا فيمن قبلكم، فإن هذه الخلافة إنما جعلها الله لكم لإقامة الحق والعدل في الأرض، وتطهيرها من رجس الشرك والفسق، لا لمجرد التمتع بلذة الملك. فلا ينبغي لأمة استخلفها الله على الأرض، إلا أن تقيم دين الله على هذه الأرض.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *