العدد 83 -

السنة السابعة شوال 1414هـ, اذار 1994م

مستقبل الديمقراطية في الأردن

نص الكلمة التي ألقاها الناطق الرسمي لحزب التحرير في الندوة المغلقة التي دعت إليها لجنة الحريّات بمجمّع النقابات في عمّان بتاريخ 16/01/1994م تحت عنوان «مستقبل الديمقراطية في الأردن».

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد…

لقد كان أبعد أثراً وأكثر نفعاً لو لم تكن هذه الندوة مغلقة، فإن موضوعها يُهِمّ جميع الناس الذين يقرأون أو يستمعون طنين الديمقراطية ورنينها من وسائل الإعلام لكي يتبينوا صدق ما يقرأون وحقيقة ما يسمعون،ولكن يبدو أن للقائمين عليها أسباباً منعتهم أو أرغمتهم على إغلاقها، فكان الله في عونهم.

أيها الاخوة الكرام..

إن الحديث عن مستقبل الديمقراطية في الأردن يستوجب الوقوف ولو قليلاً عند مدلول الديمقراطية وبعض الملاحظات عليها ومن ثم الانتقال إلى موضوع الندوة حتى يكون الحديث واضحاً مفهوماً.

لقد استقر مدلول الديمقراطية عند المفكرين والسياسيين الذين ابتكروها على أنها حكم الشعب للشعب بتشريع الشعب، أي أنها نظام سياسي السيادةُ فيه الشعب، فهو الذي يسنّ قوانينه ويعض تشريعاته، والسطلان فيه كذلك للشعب فهو الذي ينتخب حكامه ويحاسبهم ويعطيهم الثقة فيثبتهم أو يحجبها عنهم فيسقطهم.

والأصل في الديمقراطية، أي حكم الشعب نفسه بنفسه، أن يجتمع الشعب عن بكرة أبيه في مكان عام واحد ويشرّع الأنظمة ويسن القوانين التي تحكم والتي يصرّف بها شؤونه، وبما أنه ليس من الممكن عادة اجتماع كل الشعب في صعيد واحد لذلك يختار الشعب وكلاء عنه، وهؤلاء هم مجلس النواب الذي هو في النظام الديمقراطي تجسيد سياسي للإرادة العامة لجماهير الشعب فهو الذي يختار حكامه ويشرّع أنظمته وقوانينه.

وحتى يكون الشعب سيد نفسه وحتى يتمكن من ممارسة سيادته وتسيير إرادته كاملة بنفسه، كانت الحريات العامة هي الأساس، وتوجب الديمقراطية توفرها لكل فرد من أفراد الشعب حتى يتمكن من ممارسة إرادته بدون ضغط ولا إكراه، وقد تمثلت هذه الحريات العامة عندهم بالحريات الأربع: الاعتقاد والرأي والتملك والحرية الشخصية، وبناء عليه كان تعدد الأحزاب السياسية والصحافة مباحة فيها بلا قيود ولا شروط وكان الاختلاف في الرأي والمعارضة السياسية غيرَ معتبرة جرائمَ يُعتقل صاحبها أو يُحاكم بموجبها.

ومنه يتبين أن الديمقراطية عند واضعيها تستوجب الأمور السياسية الثلاثة التالية:

السيادة للشعب، الشعب مصدر السلطات، الحريات العامة.

يضاف إلى ذلك آلية وضعوها لهذا النظام وهي الأكثرية، فانتخاب الحكام وأعضاء المجلس وصدور القرارات وأمثالها تتم كلها بالأكثرية، مطلقة كانت أو مشروطة، ولهذا كانت الأكثرية عندهم مُلزِمة في كل أمر والمعيار الحقيقي المعبِّر عن رأي الشعب حسب وجهة نظر النظام الديمقراطي.

ومن الجدير ذكره قبل الحديث عن مستقبل الديمقراطية في الأردن، هذه الملاحظات:

1- أن الديمقراطية بالمدلول المذكور تناقض الإسلام تماماً، فهي والحالة هذه نظام كفر لأن الإسلام يقرر بأدلة قطعية الثبوت قطعية الدلالة أن السيادة للشرع بمعنى أن القوانين والتشريعات والأحكام يجب أن تنبثق من العقيدة الإسلامية، أي من كتاب الله وسنة رسوله وليس بتشريع من الشعب، أما السلطان فهو للأمة، فهي التي تنتخب حاكمها الخليفة وتُبايعه بالرضا والاختيار، وهي التي تحاسبه بكل قوة طبقاً للأحكام الشريعة دون أن تخشى في الحق لومة لائم.

وأمر آخر فإن الديمقراطية تجيز حصانة لبعض الأشخاص مثل رئيس الدولة وأعضاء البرلمان أثناء انعقاده فلا يطولهم قانون الدولة، وأما في الإسلام فلا حصانة لأحد ممن يحملون تابعية الدولة، فرئيس الدولة وأي فرد من رعيته خاضع لتطبيق الأحكام عليه كما يقرّه الشرع.

أما إطلاق الحريات العامة، فإن الإسلام لا يُقِر هذا الإطلاق بل يقيّده بأحكام شريعة تنظمه وتضبطه لإيجاد الطمأنينة والاستقرار في المجتمع بدل الفوضى والظلم والاستغلال والانحلال وشتى المفاسد التي نراها ونسمعها في الديمقراطيات الغربية والتي هي غنية عن البيان.

2- أن الشورى في الإسلام هي غير الديمقراطية، وهي تختلف عنها كليّاً، فالشورى هي إبداء الرأي ومحاسبة الحاكم طبقاً للأحكام الشرعية، ومجلس الشورى في الإسلام يختلف عن مجلس النواب في النظام الديمقراطي بالنسبة لصلاحياته وأعماله، فمجلس الشورى وكيل عن الأمة في الرأي والمحاسبة فقط وليس له صلاحية الحكم والتشريع. ومن هنا كان جواز عضوية مجلس الشورى لكل من يحمل التابعية من المكلفين في الدولة الإسلامية رجلاً كان أم امرأة، مسلماً كان أم كافراً.

أما عن إلزامية الأكثرية، ففيها تفصيل بالنسبة لمجلس الشورى في الإسلام:

أ) الأحكام الشريعة والتعاريف الشرعية لا يُنظر فيها لرأي الأكثرية والأقلية، وإنما ينزل الجميع عند الدليل الشرعي.

ب) الرأي الفني والتعاريف الفنية تحتاج للصواب من أهل الاختصاص وليس الأكثرية.

ج) الفكر الذي يحتاج إلى تفهّم وإنعام نظر يرجح فيه جانب الصواب لا جانب الأكثرية مثل إنهاض الأمة: هل يُعمل لإنهاضها برفع مستواها الفكري أم برفع مستواها الاقتصادي؟ ومثل تقوية التعليم، هل بزيادة عدد المدارس والجامعات أم بإعادة النظر في مناهج التعليم؟ ومثل معالجة المديونية، هل يكون عن طريق صندوق النقد الدولي أم بغير النظام الاقتصادي المعمول به؟ ومثل تنمية الثروة، هل يكون بإيجاد صناعة الآلات أي الصناعة الثقيلة أم بعمل مشاريع زراعية؟ وهكذا السياسة الخارجية والمالية والجيش.

د) وما عدا ذلك فإن الأكثرية في مجلس الشورى مُلزمة، فكل رأي يرشد إلى عمل متعلق برعاية شؤون الناس في الأمور الداخلية مثل شؤون إدارة مصالحهم في الصحة والتعليم والمياه والطرق وأمثالها لضمان وصولها للناس بدون مضايقة أو تعقيد، فإنها تُعرض على مجلس الشورى ويلتزم رئيس الدولة (الخليفة) برأي الأكثرية، ومثل ذلك أو أظهرت أكثرية مجلس الشورى عدم الرضا عن الولاة والمعاونين فإن الخليفة يلتزم بعزلهم في الحال.

لذلك فلا يمكن تسمية الشورى بالديمقراطية أو الديمقراطية بالشورى أو الخلط أو التوفيق بينهما، فتلك من وضع البشر، وهذه من وضع ربّ البشر.

أكتفي بهذا القدر عن مدلول الديمقراطية والملاحظات لضيق الوقت، وانتقل إلى مستقبل الديمقراطية في الأردن، فأقول:

إن الإنسان بفطرته يتوق إلى العدل وينفر من الظلم ويبلغ به الضيق مبلغه إذا رأى المنكر أمام ناظرَيْه ومُنع من الإنكار عليه، ولذلك فإنه بعد انتفاضة الجنوب في نيسان 1989م التي كشفت كم هو أليم أن تُكمَّم أفواه الناس ويُمنعوا من كلمة الحق وإبداء الرأي في المحاسبة، وكم هو خطير أن يُحارب المرء في رزقه ويضيّق عليه في عيشه بدل أن يُخلص في رعاية شؤونه وتبني مصالحه. وكذلك بعد الظروف الدولية الجديدة التي جعلت الديمقراطية وحقوق الإنسان بضاعة رائجة وسياسة خادعة يُقتل من خلالها الإنسان باسم حقوقه، ويُخنق فيها الرأي باسم إباحته، في هذه الظروف تمّ تسويق الديمقراطية في الأردن، وصاحَبها الحديث الكثير عن السماح بالأحزاب السياسية، وتعدّد الآراء، وحرية الصحافة، وإلغاء المحاكم العرفية وتحديدها، وإطلاق سراح الموقوفين أو محاكمتهم، وجعل القضاء هو الحكم وليس الأجهزة الأمنية، وإعطاء صلاحيات فاعلة جادة لمجلس النواب، وانتخاب أعضائه بطريقة صحيحة ونزيهة وغير ذلك مما له بريق وبريق. ونظراً لشدة ما عانت الأمة من ضغط وكبت وبطش فقد اعتبر ذلك الناسُ خيراً كثيراً كما لو طلعت عليهم ليلة القدر، وصفّقوا لما سمعوا وظنوا أنه البلسم الشافي، فتلقّفوا الحديث عن الديمقراطية دون أن يقفوا عند حقيقتها وواقعها، فدغدغت مشاعر الناس ونسجوا أحلاماً سعيدة، ثم أفاقوا على وقائع وأوها تختلف عن كل ما حلموا به فكان حالهم حال ذلك الباسط كفّيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه.

وجدوا أن الرأي المسموح به هو فقط ما يصب في قناة الدولة مباشرة أو غير مباشرة، وأما ذلك الذي يقف لها بالمرصاد إن أساءت، ويعمل على تقويمها إن اعوجّت، ويُخلص في النصح وإن كان مُرّاً بدل أن ينافق وإن بدا حلواً، فإن صاحبه سيُعتقل في ليل لا ضوء فيه، ويوضع في أقبية المخابرات لأشهر وأشهر دون محاكمة أو قضاء، وبتمديد مستمر للتوقيف إلى ما شاء الله، وقد صُنِع هذا بالكثير.

ووجدوا أن قانون الأحزاب الذي تم تشريعه بدل أن يكتفي باشتراط عدم الخروج على عقيدة الأمة، واشتراط الحوار الفكري بالإقناع دون استعمال العنف فيه، بدل ذلك وجدوه يقيّد الأحزاب السياسية بالدستور القائم، وبالتالي مُنع أي حزب سياسي يرى أن دستور رب العالمين خير من دستور مخلوقاته.

ووجدوا أن اتهام عباد الله بمؤامرة أو تخريب أو تعكير أمن الدولة أسهل وأيسر من اتهامه من قِبَل الدوائر البلدية بتعكير الشارع بإهراق الماء فيه.

ووجدوا أن كثيراً من الأمور التي قضّت مضاجعهم قبل تسويق الديمقراطية قد تغيّر ثوبها فقط ولم يتغيّر جسمها.

ولأن الوقائع يدركها كل ذي بصر وبصيرة، فلا أجد ما يدعو لسردها، غير أنني أقول:

إن مستقبل الديمقراطية في الأردن محكوم بالزوال، من وجهين:

الأول: أن الدولة لن تحتمل الرأي المعارض إلا ضمن هامش معين لا يؤثر على مسيرتها في الوجهة التي تريد أنّى كانت، أما الرأي المعارض الفاعل والعامل على تقويمها فستقاومه بكل قواها وبالتالي فهي لن تسمح لأحزاب سياسية معارضة في غير هذا الخط من العمل، ولن تَعْدم وسيلة لمقاومة المعارضة الجادة، والمحاكمات السياسية التي شهدناها خلال السنوات الأخيرة وآخرها هذه التي صدرت قراراتها اليوم تثبت ذلك (أي بشأن حكاية مؤتة الملفقة).

أما الثاني: فإن توجّه الأمة في تسارع نحو الإسلام وعدله. فالديمقراطية بالمدلول الذي بيّناه خروج عن الإسلام وكفرٌ به، وما أسموه بحرية الرأي في الديمقراطية والذي لفت انتباه الناس ابتداء ما هو إلا بريق زائف خادع لا يقف أمام الحق الذي أعطاه الإسلام للأمة في إبداء رأيها بقوة ضمن الأحكام الشرعية ومحاسبة الحاكم بشدة دون أن تخشى في الله لومة لائم.

وبهذا فهي مقضي عليها من فريقين:

الحاكم، الذي لن يتحمل رأياً معارضاً جاداً يحاسبه ويقوّمه.

والأمة، التي لن ترضى بديمقراطية كافرة زائفة خادعة تُطبق عليها.

أيها الأخوة الكرام..

إن إتاحة الفرصة للناس أن يقولوا كلمة الحق فيأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر بالقوة وأن يحاسبوا حاكمهم بشدة تقويماً له ونصحاً، أمور يحرص عليها كل مجتمع يكون الحاكم فيه والمحكوم فريقاً واحداً يعمل لنهضته وقوته.

ولقد حرّم الإسلام أن يكون الحكم بوليسياً فوق المساءلة والمحاسبة، بل جعل محاسبة الحاكم حسب الأحكام الشرعية حقاً للأمة، وقول كلمة الحق واجباً عليها، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرضاً، ووجود أحزاب سياسية على أساس العقيدة الإسلامية فرضاً على الكفاية، وجعل وسائل الإقناع بين هذه الأحزاب بالحوار الفكري دون استعمال العنف المادي، كما جعل وجود صحافة سياسية. وفكرية ضمن الأحكام الشرعية مباحاً. وكل فرض أو واجب أو مباح حق للناس، فلا يملك أي جهاز من أجهزة الدولة ولا حتى الخليفةُ نفسُه تحريمَ الحلال أو تحليل الحرام بحجة وجود ترخيص أو عدم وجوده.

والإسلام اعتبر الإنسان بريئاً ما لم تثبت إدانته، فالأصل براءة الذمة. فالمدّعى مسؤول عن تقديم البيّنة للإدانة وليس المتهم هو المسؤول أن يثبت أنه برئ، واستدعاؤه للتحقيق قبل الإدانة يجب أن تكتنفه ظروف تُشعر المتهم بالأمن والأمان، والسرعة في إنها توقيفه والتحقيق معه، لا أن يُعتقل المتهم في ظروف مُرعبة مخيفة ويوضع في زنزانة أليمة معزولاً عن العالم الخارجي كأنه مجرم ثبتت إدانته، ويمنع الإسلام أن يُعاقب الموقوف أو أن تكون مدة توقيفه للتحقيق مجهولة تُمدّد تلقائياً للضغط عليه وإرهابه بشتى الوسائل ليُنتزع منه بالإكراه ما لم يقُله بالرضا والاختيار.

وليست هذه الحقوق من باب المنّ على الناس بل هي أحكام شرعية.

في كتاب الله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}،       {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ}.

وفي سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم: «إن من أعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر»، «أنت على ثغرة من ثُغَر الإسلام فلا يُؤتيَنّ من قِبَلِك».

وقد سار عليها صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكل خليفة راشد: «إن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوّموني»، «من رأى فيّ اعوجاجاً فليقوّمه»، «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً»، «لا خير فيكم إن لم تقولوها ولا خير فينا إن لم نسمعها».

وغير ذلك كثير في كتاب الله وسنة رسوله وعلم صحابته رضوان الله عليهم.

أيها الأخوة الكرام..

إننا نتطلع لذلك اليوم الذي يستطيع المرء فيه أن يقول كلمة الحق ثم يذهب إلى بيته آمناً مطمئناً في ليله ونهار، فلنشد أيدينا معاً لنكون سداً منيعاً في وجه من يمنع كلمة الحق أن تُقال، ففي قولها بشائر العافية وفي منعها دلائل المرض.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *