العدد 82 -

السنة السابعة شعبان ورمضان 1414هـ, شباط 1994م

كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ

بسم الله الرحمن الرحيم

{كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُون * يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُون * وَإِذْ يَعِدُكُمْ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} [سورة الأنفال: 5 ـ 8].

هذه الآيات الكريمة نزلت في خروج الرسول صلى الله عليه وسلم- إلى بدر لعله يغنم تجارة قريش التي كان أبو سفيان عائداً بها إلى مكة من الشام. وعلم أبو سفيان بخروج المسلمين لأخذ العير فغيّر الطريق واستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري وبعثه يستنفر قريشاً لحماية أموالهم. ولما وصل الرسول صلى الله عليه وسلم-  إلى وادي ذَفِران علم أن العير قد أفلتت منه وأن قريشاً قد جاءت بجيشها لقتاله. جاء في تفسير ابن كثير: (عن أبي أيوب الأنصاري بقوله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم-  ونحن في المدنية «إني أُخبرتُ عن عير أبي سفيان أنها مقبلة فهل لكم أن نخرج قِبَلَ هذه العير لعل اللهَ أن يغنمناها»؟ فقلنا: نعم. فخرج وخرجنا، فلما سرنا يوماً (أو يومين) قال لنا: «ما تروْنَ في قتال القوم فإنهم قد أخبروا بخروجكم»؟ فقلنا: لا والله، ما لنا طاقة بقتال العدو ولكنا أردنا العير. ثم قال: «ما ترون في قتال القوم»؟ فقلنا مثل ذلك. فقال المقداد بن عمرو: إذاً لا نقول لك يا رسول اله كما قال قوم موسى لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} قال: فتمنينا معشر الأنصار أن لو قلنا كما قال المقداد أحب إلينا من أن يكون لنا مال عظيم، قال: فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ}.

{كَمَا} اختلف المفسرون في السبب الجالب لهذه الكاف، والأرجح هو التشبيه بين كره فريق من المؤمنين للقتال كما كرهوا أصلاً الخروج لأخذ العير.

{أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ} الله سبحانه ينسب خروج (إخراج) الرسول صلى الله عليه وسلم-  من المدينة بقصد أخذ عير قريش لذاته سبحانه. وهكذا نرى أنه يمكن نسبة العمل الاختياري الذي يقوم به الإنسان باختياره والذي يحبه الله، يمكن نسبته إلى الله ويمكن نسبته إلى الإنسان، وفي كلتا الحالتين تكون النسبة حقيقية وليست على سبيل المجاز، وكل نسبة تذهب إلى جانب. وهذا نظير قوله تعالى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى}.

{وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} أي أن فريقاً من المؤمنين كانوا كارهين الخروج لأخذ العير، والأرجح أنهم كانوا يتوقعون أن أخذ الغير (حتى لو تم أخذها) سيجرّ إلى القتال وهم لا يريدونه.

{يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ} الحق هنا تعني: القتال. أي: حتى بعد أن تبيّن أن لا مفرّ من القتال بقي فريق من المؤمنين يجادلون رافضين القتال.

{كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ} هذا الفريق من المؤمنين كانوا يظنون أن الغلبة ستكون للكفار وأن المؤمنين سيُهزَمون ويُقتَلون. لأنهم لم يخرجوا بكامل عدتهم للقتال بل خرجوا لأخذ العير.

{وَإِذْ يَعِدُكُمْ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ} الطائفتان هما: العير والجيش. وكان الوحي جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم-  يعده إحدى هاتين الطائفتين أنها ستكون في قبضة المسلمين.

{وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} العير هي الطائفة غير ذات الشوكة، والجيش هو الطائفة ذات الشوكة، أي القوة والمنعة. وكان المسلمون يميلون إلى كسب العير والنجاة من القتال.

{وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} أي: في الوقت الذي تريدون أنتم تجنب القتال يريد الله سبحانه حصول القتال. وهذه طبيعة البشر أنهم يكرهون القتال والشدائد ويميلون إلى الدعة والراحة ولكن الاسترسال مع هذا الشعور عواقبه وخيمة. وهذا نظير قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}.

{لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} الله سبحانه يحب إحقاق الحق، وينصر أهل الحق حين ينصرونه، ويكره الباطل ويخذل أهله. وهذا يكون بربطنا للأسباب بالمسببات وإعداد العدة، ويكون حسب السنن التي أودعها الله في الكون. هناك شيء اسمه: توفيق الله، وهذا التوفيق رغم أنه يسير حسب سنن الله في خلقه ولكنه يعطي نتائج تشبه المعجزات. والمسلمون الآن يتطلعون إلى توفيق الله ونصر منه يشبه نصر بدرٍ يعز الإسلام وأهله ويذل الكفر وأهله. 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *