العدد351 -

السنة الثلاثون ربيع الثاني 1437هـ – ك2 / شباط 2016م

مقتطفات من كتاب التيسير في أصول التفسير للعالم الجليل عطاء بن خليل أبو الرشته

مقتطفات من كتاب  التيسير  في أصول التفسير للعالم الجليل عطاء بن خليل أبو الرشته

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) ).

بعد أن بين الله سبحانه في الآيات السابقة موضوع الإيمان والكفر والنفاق ثم موضوع جحود يهود لما أنعم الله عليهم، وكذلك اختلاف أهل الكتاب فيما جاء في كتبهم من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتنازعهم في أفضلية دينهم وقبلتهم على بعضهم الآخر، وغير ذلك من أصول الدين وقواعده، شرع الله سبحانه بعد ذلك في ذكر بعض الأحكام الشرعية التي تنظم العلاقات بين الناس.

يبين الله سبحانه في هاتين الآيتين ما يلي:

  1. المساواة في القصاص في القتلى بلا تفاضل في ذلك، فالقاتل يُقتل، فإذا قتل عبد عبداً فإنه يقتل به ولا يقال عبد هؤلاء أفضل، فيُقْتَل به حرٌّ من أولئك، ولا يُكتفى بقاتله العبد. وكذلك إذا قتل حرٌّ حراًّ فإنه يُقتَل به، ولا يقال: حُرُّكم أدنى مرتبةً من حرنا، فيُكتفى بقتل عبدٍ بدلاً من حرِّكم المقتول. وكذلك إذا قتلت امرأةٌ امرأةً فإنها تُقتَل بها، ولا يقال إن المرأة من هذه القبيلة تساوي رَجُلاً من قبيلة أخرى وبالتالي لا يُكتفى بقتل المرأة القاتلة بل يُقتَل رَجُلٌ بدلها.

وقد نزلت هذه الآية لبيان مثل هذه الوقائع، فقد روي أنه كان بين حيين من أحياء العرب دماء في الجاهلية وكان لأحدهم طَوْلٌ على الآخَر، فأقسموا لنقتلن الحر منكم بالعبد، والذكر بالأنثى، فلما جاء الإسلام تحاكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت.

هذا هو منطوق الآية، وهذا هو موضوعها، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولكن في الموضوع نفسه وهو قتل القاتل بقتيله مهما كان القتيل ومهما كان القاتل، فالحر يقتل بالحر، والعبد بالعبد، والأنثى بالأنثى. لكن هل يقتل الحر بالعبد والذكر بالأنثى؟ أي إن قَتَل حر عبداً أو إن قَتَل ذكر أنثى هل يقتل القاتل في هذه الحالة بقتيله؟

والجواب على ذلك: نعم، فالقاتل يقتل بقتيله مهما كان للدلالة التالية:

أ. إن الآية عامة في القصاص بالنسبة للقتلى ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ( ) أي فرض عليكم، فالقصاص قرينة على أن (كُتِبَ) تفيد الطلب الجازم، وبالتالي فالقصاص فرض في القتلى، والقتلى لفظ عام يَصْدُق على كلّ نفس مقتولة بأن يُقْتَصَّ من قاتلها أي يُفعَل به مثل ما فعل. وهذا يبقى عاماً إلا إذا خُصِّصَ بنصٍّ مثل قوله صلى الله عليه وسلم: “لا يُقتَل والد بولده[1] فإذا قتل الوالدُ ولدَه لا يُقتَل به. ومثل قوله صلى الله عليه وسلم: “لا يُقتَل مسلم بكافر[2] فلو قتل مسلمٌ كافراً حربياً فإنه لا يقتل به. وقلنا كافر حربي لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخرج الكافر الذمي والمعاهد من ذلك، فنَصَّ على القصاص بهما في القتل كما جاء في رواية أخرى “لا يُقتَل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده[3] فقد عطف “ذو عهد” على “مسلم” فما مرفوعان، أي لا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده بكافر. فالكافر المذكور في الحديث هو غير الكافر ذي العهد ومن باب أولى غير الكافر ذي الذمـة فيكون “الكافر” الذي في الحـديث هو الكافـر الحـربي؛ فهو الذي لا يُقتل المسلم به إن قتله.

ب. إن المنطوق هنا هو قتل الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى، وأما المفهوم فلا يُعمل به هنا أي لا يقال الحرُّ لا يُقتَل بالعبد لو قتله الحرُّ، ولا يقال كذلك الذكر لا يُقتَل بالأنثى لو قتلها الذكرُ، لأن المفهوم هنا معطل بقوله صلى الله عليه وسلم: “المسلمون تتكافأ دماؤهم[4] وهو يشمل الرجل والمرأة والعبد والحر. وكذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: “من قتل عبده قتلناه[5] وكذلك ما صنعه عمر على ملأ من الصحابة وهو أن يقتل الجماعة بالواحد إذا قتلوه. وقال عمر في غلام قتله سبعة فقتلهم وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم. وهو يعني أن القاتل يقتل بقتيله مهما كان نوعه وعدده.

  1. (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ )في هذه الآية أمران:

أ. إطلاق لفظ ( أَخِيهِ ) على أولياء القتيل فيه تشجيع على العفو فكأن أولياء القتيل أخوة القاتل، وفي هذا بعث للولي على العطف والعفو.

ب. (شَيْءٌ) فيه دلالة على أن حدوث شيء من العفو يُسقط القصاص أي بعض العفو يسقط القصاص، وهذا يعني أن أياً من أولياء المقتول لو عفا فإن القصاص يسقط، فلو عفا بعض الورثة ولم يعفُ الآخرون أخذ بهذا العفو – وهو شيء من العفو، فإن العفو لم يتم من جميع الورثة أولياء المقتول – وسقط القصاص، وفي هذا رحمة من الله وفضل وتخفيف ( ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ).

  1. إنه إن تمّ العفو أو شيء من العفو فإن لأولياء القتيل مطالبة القاتل بما يترتب عليه – الدية – بالمعروف، وعلى القاتل أن يؤدي ما ترتب عليه بإحسان فتطيب النفوس وتهدأ القلوب.

وإذا عفا أولياء القتيل؛ فإن لهم الدية إن أرادوها أو أن يعفوا بدون دية. وفي جميع الحالات فإنهم لا يُجبَرون على شيء مما لهم سواءٌ أكان القود أم الدية أم العفو، ولا يزيدون عليها كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم “من أصيب بقتل أو خَبَل فإنه يختار إحدى ثلاث: إما أن يقتص، أو أن يعفو، وإما أن يأخذ الدية؛ فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه، ومن اعتدى بعد ذلك فله نار جهنم خالدا فيها[6].

وعليه فمن قتل غير القاتل بعد ذلك أو قتل القاتل بعد العفو أو أخذ الدية، فإن له عذابا أليماً، إما الاقتصاص منه بما قتله في الدنيا، أو نار جهنم في الآخرة.

  1. ثم يبين الله سبحانه في الآية الأخيرة أن لنا في القصاص حياة (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ )وهي تعني إما:

أ. إن في مشروعية القصاص حياة للقاتل والقتيل؛ لأن القاتل إذا عَلم أنه سيُقتل لو قَتل فإن هذا سيدفعه إلى الامتناع عن القتل حتى لا يُقتَل، فكأن حياة تحققت للقاتل وللقتيل الذي كان سيقتله، وفي هذه الحالة يكون هناك إضمار (مشـروعية) قبل القصاص أي أن تشريع القصاص فيه حياة للقاتل ومن كان سيقتل.

ب: إن في القصاص – أي قتل القاتل – حياة لجزء من الناس كانوا سيقتلون لو بقي القاتل طليقاً دون قصاص لأن شره سيصيب أعداداً منهم، وفي هذا تخصيص (للقصاص)، وهو لفظ عام ليصبح خاصاً في قتل القاتل دون غيره فيكون في قتله حياة لجزء من الناس كان يمكن أن يقتلهم القاتل لو بقي طليقاً دون أن يقتص منه فيقتل، ويكون عموم (القصاص) في هذه الحالة مخصَّصاً في القاتل، أي معنى القصاص هنا يكون (حقيقة) في القتل، وليس إضماراً بمعنى التشريع بل هو قتل على الحقيقة، ولكنها حقيقة مخصَّصة في قتل القاتل.

ولأن الحـقيقة المخصصة مقدمة على الإضمار وهو نوع من المجاز، ولأن القصاص المخصص في القاتل على الحقيقة بمعنى قتله يقدَّم على القصاص بالمعنى المجازي بإضمار (تشريع أو مشروعية) قبل كلمة قصاص كما هو معروف في أصول الفقه في باب ترجيح دلالات الألفاظ في الدليل الواحد، فإن المعنى الثاني هو الأَوْلى والأرجح للآية الكريمة، أي إن قتل القاتل فيه حياة لجزء من الناس كانوا سيقتلون لو بقي القاتل حراً طليقاً.

ج. إن الذي يدرك عظمة الحياة التي تترتب على القصاص هم أولو الألباب أصحاب العقول المفكرة المتدبرة لآيات الله، فخصهم الله سبحانه بالخطاب فهم أهله الذين يدركون معناه لعلهم بذلك يتقون الوقوع فيما يوجب القصاص بخاصة أو ما يوجب غضب الله بعامة.

236ص

[1] الترمذي: 1321، أحمد: 1/49

[2] البخاري: 6394، الترمذي: 1332

[3] النسائي: 4653، 4654

[4] أبو داوود: 3758، النسائي: 6952، أحمد: 1/119، 122، 192

[5] الترمذي: 1334، النسائي: 4655، أبو داوود: 3914، ابن ماجه: 2653، أحمد: 5/10، 11، 12

[6] أبو داوود: 3898، ابن ماجه: 2613، الدارمي: 2245، أحمد: 4/31

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *