العدد 350 -

السنة الثلاثون ربيع الأول 1437هـ – كانون الثاني 2016م

والعاقبة للمتقين(4) الحياة الطيبة لأهل الإيمان..

بسم الله الرحمن الرحيم

والعاقبة للمتقين(4)

 الحياة الطيبة لأهل الإيمان..

حمد طبيب – بيت المقدس

ذكرنا في الحلقة السابقة الجائزة الأولى -في الحياة الدنيا – لأهل الإيمان والتقوى والصبر والمصابرة على هذا الإيمان؛ وهي تمكينٌ واستخلافٌ في الأرض، وغلبةٌ ونصرٌ من الله القوي العزيز، وفي هذه الحلقة سنتحدث عن الجائزة الثانية في الحياة الدنيا؛ ألا وهي (الحياة الطيبة( في ظلّ نظامٍ عادل صحيح مستقيم…

وقبل أن نتحدث عن هذه الجائزة العظيمة نقول: الإنسان ضعيفٌ بنفسه، قويٌ بخالقه جل جلاله، قال تعالى:( يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا )، وقال: ( وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) وقال:( يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ)، وقال أيضاً: ( وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً )… وضعف الإنسان آتٍ بالدرجة الأولى من عدم إحاطته ومعرفته لحقيقة نفسه، وما يسعدها وما يشقيها، وآتٍ كذلك من تركيبة جسمه الضعيفة التي تُمرضها جرثومة صغيرة؛ لا تُرى بالعين، وضعيف بحاجته إلى غيره، وعدم قدرته أن يستغني بنفسه عن الآخرين في أي أمر من أمور الحياة.. فهو عاجزٌ ناقصٌ محتاجٌ إلى غيره في كل شيء!!..

فلو نظرنا إلى أبسط الأمور المتعلقة بهذا الإنسان (الضعيف)؛ وهي النظم والقوانين، وطريقة العيش التي تنظم حياته الشخصية (علاقته بنفسه) لرأينا أن هذا الإنسان يقف عاجزاً عن تنظيمها تنظيماً صحيحاً يحقّق الاستقامة والطمأنينة والراحة الشخصية في النفس والجسد… فهو يضع القانون قبل ساعة من الزمان، ثم تراه يفكر مرة أخرى في تغييره وتبديله بقانون آخر نتيجة عدم راحته وعدم طمأنينته إلى هذا الوضع الجديد… ثم يغيّر ويبدلُ مراتٍ ومرات، ولا يستقر الأمر أبداً!!.. وهذا بعكس النظام الرباني العظيم الذي أنزله (العليم الحكيم( على هذا الإنسان عن طريق الرسل والرسالات!!..

فهذا النظام (الرباني العظيم( لا يشقى به الإنسان أبداً، ولا يضطر مستقبلاً لتغيير أيِّ جزئية منه؛ لأن كل شيء فيه قد وضع في مكانه الصحيح- الذي لا يصلح شيءٌ غيره إذا استبدل به- فهو نظام مستقيمٌ صحيح، يحقّق العدل والاستقامة والطمأنينة في حياة الإنسان وفي كافة الأمور: (الغيبية منها، والمشاهدة المحسوسة الملموسة في أرض الواقع(. ففي أمور الغيب التي تشغل فكره وعقله، وتوجد عنده عقدة الحيرة والشك بسبب جهله عن حقيقة نفسه ومصيره… فإن الإسلام قد أجاب عن كل الأسئلة التي تسبب هذا القلق، وتوجد هذه العقدة الدائمة؛ فعرّفه الإسلام على نفسه: من أين جاءت؟ وكيف؟ ولماذا؟ وما الهدف والغاية من ذلك؟ وما مصيره؟ أي إلى أين ينتهي بعد الحياة الدنيا… فكل هذه الأمور أجاب عنها الإسلام إجاباتٍ يقيّنيةٍ جازمةٍ؛ تُذهب الحيرة والشك، وتوجد الطمأنينة والراحة النفسية…

  أما في الأحكام التي تنظم علاقاته مع نفسه، ومع غيره في العلاقات والمعاملات، وشؤون الحياة المتفرعة عنها في كافة النظم؛ (السياسية والاجتماعية والاقتصادية(، فإن هذا الدين العظيم قد حقّق للمسلمين الاستقامة والعدل في كل شأنٍ من هذه الأحكام… والسبب هو أن الله عز وجل عليمٌ بأحوال الإنسان كلها، فلم يترك أمراً من شؤون الإنسان إلا وأنزل له الحكم المناسب له؛ لأنه هو الذي خلقه، ويعلم كل أمر يتعلق بحياته الخاصة والعامة، ويعلم ما يسعده وما يشقيه، قال تعالى( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ 89 إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)، وقال( أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ )، وقال كذلك(قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى 123 وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى).

لقد كان لهذا النظام الرباني العظيم الأثر الطيب العظيم في حياة المسلمين، في كل ميادين حياة الإنسان؛ الاجتماعية والسياسية والاقتصادية… وفي علاقته مع نفسه، ومع غيره، ومع خالقه جل جلاله… ففي علاقة الإنسان مع خالقه فإنه عبد الله – خالقه – على بصيرة ونورٍ وهداية؛ فتحققت بسبب هذه العبادة الطمأنينة الكاملة؛ لأن هذه العبادة شاملة كاملة عامة في كل أمر، يحقق معنى الصلة مع هذا الخالق العظيم؛ (فهي الخضوع المطلق لله عز وجل في كل شأن من شؤون حياته ما جلَّ منها وما صغر( وليست محصورةً في المسجد فقط. فالمسلم حين يعمل يعبد الله. وحين يتعامل مع الناس يعبد الله، ويحقق معنى العبودية. وحين يفعل أي فعل من أمور الدنيا أو الآخرة، فإنه يحقق معنى العبودية… وفي العلاقات والمعاملات فإن المسلم يتعامل في كل معاملاته بنظام وأحكام ربانية، تحقق ما يسعد الإنسان وما يحقق العدل والاستقامة؛ فحرمت الربا وإنشاء المؤسسات العملاقة المتحكمة في حياة الناس الاقتصادية، ومنعت الغش ظاهراً وباطناً، ومنعت التحكمات النقدية، وحرمت الأسهم والسندات الناتجة عن الشركات الخاطئة، وحرمت الأسواق المالية القائمة على المعاملات المحرمة.. وفي الوقت نفسه فإنها حققت معنى الرعاية الكاملة الشاملة لهذا الإنسان: اقتصادياً (في توفير حاجاته الأساسية لكل فرد، فرداً فرداً، وعملت على رفع مستواه في الحاجات الكمالية بقدر استطاعتها( وجسمياً )في أمور الطب والمحافظة على الجسد( وجعلت هذه الرعاية مجانية لكل فرد من الرعية، كما رعت أمور العلم والتعلم مجاناً للجميع في المدارس والجامعات، مهما كانت هذه الدرجة العلمية، ورعت الإنسان في ظل هذا النظام رعاية كاملة في حال عجزه، وعدم قدرته على تحقيق ذلك بنفسه، وجعلت مسؤولية الأسرة والعائلة والمجتمع والدولة كلها تصب في دائرة رعاية شؤون الفرد والمحافظة عليه!!..
وإذا نظرنا إلى علاقة الإنسان بنفسه في الأمور الشخصية، فإننا نرى إن الإنسان ليس حرّاً في نفسه ولا في متعته الشخصية؛ لأن الإنسان بذلك (أي بجعل الأمر موكولاً إلى عقله وحريته(؛ فإنه يدمر نفسه دون وعي ولا إدراك لعواقب هذا الأمر… إنما جعل الإسلام كل هذه الأمور منضبطة بأحكام نورانية هادية، حرمت الزنا وشرب الخمر واللواط… وأمرت بالعفة، وستر العورة والحياء، والمحافظة على الآداب والأخلاق العامة والخاصة…
إن هذا النظام- بحق- قد حقق الطمأنينة والاستقامة والعدالة في الأرض عندما طُبق في حياة المسلمين، وعندما غاب هذا النظام عن حياتهم بسبب مؤامرات الكفار، وعملاء الكفار من الحكام؛ فإن حياتهم انعكس عليها فكر الغرب وشروره وآفاته…

ففي ظل هذا النظام السامي ساد التراحم والتآخي والعلاقات الطيبة بين الناس، وأصبح الناس في ظله آمنين مطمئنين، وصار الإيثار والعطاء سجية من سجايا الناس، يؤثر المسلم أخاه على نفسه ولو كان به خصاصة، وصار الناس ينعمون في ظل هذا النظام بحياة اقتصادية رائعة فيها الاطمئنان وبحبوحة العيش ووفرة المال حتى لم تجد الزكاة من يأخذها، وفي ظل هذا النظام الرباني المستقيم قويت الرابطة الأسرية بين الرجل وزوجته، وبين الآباء والأبناء، فأصبحت الأسرة لبنة قوية في مجتمع قويِّ متراصِّ كالبنيان المرصوص، يشدُّ بعضه بعضاً، وغابت في ظل هذا النظام الهادي الأنانية والغش والفحش والعادات الساقطة والرذيلة والأخلاق الهابطة، وصار الناس متساوين في ظل عدل الإسلام، لا فرق لعربي على عجمي، ولا لأسود على أبيض؛ فالناس سواسية كأسنان المشط!!..

وفي ظل هذا النظام السامي المستقيم فإن الدولة الإسلامية تكون هي الدولة الأولى في كافة الأمور؛ من حيث القوة العسكرية والتقدم العلمي والقوة الاقتصادية، وتكون هذه الدولة دولة متميزة بلا منازع لهذه الميزة، وتحمل رسالة الإسلام رسالة خير وهدى إلى كل البشر!!..

لقد أصبحت الحياة الطيبة هي السائدة في هذا المجتمع الإسلامي، فنتج عن ذلك الأمن والراحة النفسية والاستقرار والرقي في كل مجالات الحياة… هذا في دار الدنيا. أما في الدار الآخرة- وهي الجانب المهم في رحلة حياة الإنسان- فان الإنسان يطمئن إلى مصيره بعد الموت، ولا يفكر بقلق وحيرة ويظل في دائرة مفرغة، ولا تسبب هذه المسألة عقدة في حياته الأبدية التي لا تفنى ولا تبلى… فالمسلم يعلم أن حياته ستكون حياته -بعد الموت- طيبة أيضاً في جنات عدن في مرضاة ربه جل جلاله في الأبدية التي لا تفنى ولا تنتهي. قال تعالى: ( قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ)، وقال: (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ    ) ولكننا- في الجانب الآخر-  لو ألقينا نظرة سريعة على حياة الغرب- على سبيل المثال –  في ظلّ هذه النظم الوضعية الوضيعة – إلى أي أمر من حياتهم؛ في علاقاتهم ومعاملاتهم وعباداتهم ومعتقداتهم لرأيناها معوجة لا تحقق استقراراً، ولا وعدلاً ولا طمأنينة في الحياة…

ففي العلاقات الشخصية – على سبيل المثال –  وضع الغرب قوانين انبثقت من فكرة الحريات؛ يستطيع بها الإنسان أن يمارس -مع نفسه- أي أمر لا يعتدي فيه على حرية إنسان آخر؛ فقاد هذا الأمر الإنسان لأن يهبط بنفسه إلى أمور هي أدنى بكثير من مستوى البهائم العجماء… قال تعالى: ( أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا  ) فأباح لنفسه الزنا باسم الحرية الشخصية، وأباح اللواط، وصار يشكل نوادي وجمعيات لهؤلاء اللواطيين -كما هو الحال اليوم في أميركا ومعظم دول أوروبا- ويسن قوانين تحميهم في المجتمع، وتسهل لهم أعمالهم وشهواتهم الهابطة، وصار يخرج في الأماكن العامة عارياً بلا لباس يستر عورته… وقد نتج عن هذه الأمور الهابطة شقاءٌ وتعاسة وأمراض مستشرية قاتلة، مثل الجرائم الناتجة عن السكر وتغييب العقل، ومثل الأمراض الفتاكة كالإيدز وغيرها مما لا علاج له… وأضحت هذه الأحكام وما نتج عنها من علاقات تتسبب بتفكك الحياة الزوجية، وتسبب الانحلال والانهدام الأسري والمجتمعي… أما في العلاقات والمعاملات فحدّث ولا حرج. فالقوانين التي تنظم العلاقات كلها مبنية على الظاهر، وليس للباطن والتقوى أي رادع ولا وازع فيها… فيستطيع الإنسان أن يسرق، وأن يغش إذا لم يراقبه القانون… هذا عدا عن طريقة تأسيس المؤسسات والمصانع والشركات والنظام السقيم الذي يحكمها، ويجعل طائفة من الناس – من خلالها – تتحكم بأموال الناس وحياتهم الاقتصادية في البورصات والأسعار، والأسواق المالية وأسعار السلع الحيوية؛ كالوقود والقمح والقطن والسيارات وغير ذلك من مآس اقتصادية يجلبها هؤلاء الناس…

أما في مجال العبادات والعقائد (علاقة الإنسان مع خالقه جل جلاله( فإن الإنسان (في بلاد الغرب( قد فصل نفسه تماماً عن الخالق؛ فلم يترك أي أمرٍ من هذه العلاقة مع خالقه سوى زاوية مشوهة منقوصة، تتعلق بالكنائس ورجال الدين؛ يضعون ما يشاؤون من أمور كهنوتية لا تمت إلى دين الله بأية صلة…

وفي الختام نقول: إن العاقبة هي للمتقين في دار الدنيا وفي الآخرة، في كل أمرٍ من  أمور الحياة الدنيوية؛ بسبب هذا النظام الرباني العظيم.

نسأله تعالى أن يكرم أمة الإسلام عما قريب بحياة الإسلام، وأن يكرمهم بالجنان الخالدة في الدار الآخرة… اللهم آمين يا رب العالمين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *