العدد 342 - 343 -

السنة التاسعة والعشرون رجب وشعبان 1436هـ – أيار وحزيران 2015م

هل علماء الدين في زماننا ربانيون أم سلطانيون؟

بسم الله الرحمن الرحيم

هل علماء الدين في زماننا ربانيون أم سلطانيون؟

بقلم: الشيخ عصام عميرة

إمام مسجد الرحمن وخطيبه

بيت صفافا/بيت المقدس

فـــــــلســـطـــيــــــن الأســــــــــــــــــــيرة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد،

لقد آن الأوان لوضع النقاط على الحروف بخصوص علماء الدين الإسلامي الأفاضل في زماننا، والذين رفعهم الله سبحانه وتعالى درجات في قوله ]يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ[. ووضع النقاط على الحروف ليس متعلقاً بفحص قدراتهم الدينية ومعلوماتهم الفقهية والتاريخية، ولا بالبحث عن أحوالهم الاجتماعية وأرصدتهم البنكية، ولكن بالتثبت من مواقفهم حيال أمور الشريعة الإسلامية دعوة وتطبيقاً، وهل يقفون الموقف الصحيح من الدين الإسلامي الذي ينتسبون إليه عقيدة وشريعة، ويقترن اسم أحدهم به اقتراناً دائمياً، فما أن يُذكر الشيخ الفلاني أو العالم العلاني فإنه لا يتبادر إلى الذهن إلا أنه من حملة الشهادات الشرعية التي جعلته يتحلى بالمنصب الذي يشغله، والمنبر الذي يتحدث منه، وأن ذلك من أعظم المؤهلات التي يتمتع بها كي يُسمع قوله، ويخطب وده، ويحترم رأيه. وبناءً عليه فإننا سننظر في هذا المقال في أحوال علماء الدين اليوم من زاوية محددة وهي: هل هم ربانيون أم سلطانيون؟ وبعبارة أخرى، هل علماء الدين الإسلامي في زماننا فعلاً ضباط شرعيون، وحكام فقهيون، وشيوخ مدرسون يعلِّمون الأجيال أمور دينهم العقائدية والعملية، ويأخذون على يد الظالم، ويأطرونه على الحق أطراً، ويقصرونه عليه قصراً، ويقفون بين الناس ليوجهوهم إلى الصراط المستقيم الموصل إلى رفعة هذا الدين وأمة الإسلام في الدنيا، وإلى جنة النعيم في الآخرة، فبذلك يكونون ربانيين، أم أنهم مطايا لحكام الجبر والجور يقومون في الناس ليسوِّقوا باطل الحكام تحت غطاء الشريعة والدين، ولا يعبؤون بذهاب الناس إلى هاوية الجحيم بفتاواهم المغلوطة، وتصريحاتهم المريبة، ومواقفهم المخزية الجبانة التي آنست الحكام الظالمين وسهلت لهم طريق الغي، وجعلوا أنفسهم قطباً تدور رحى باطل الحكام عليه، وجسراً يعبرون به إلى بلائهم، وسُلّماً إلى ضلالهم، وداعياً إلى غيّهم؛ فيكونون بذلك سلطانيين لا ربانيين.

وسننطلق في تحقيق هذه المسألة من محورين:

1- محور مخالفة علماء الدين اليوم لمنهج العلماء الربانيين السابقين في الاستنباط والسلوك.

2- محور الفرصة التاريخية المتاحة اليوم، وهي العمل مع العاملين لإقامة دولة خلافة المسلمين الثانية الراشدة على منهاج النبوة.

أما المحور الأول، فقد كان العلماء الربانيون السابقون يعتمدون على الأدلة القطعية عند الاجتهاد لاستنباط الأحكام الشرعية، ولا يعبؤون بالآراء العقلية، ولا يعوِّلون كثيراً على شبهة الدليل، ويعتبرون ذلك من الاستدلال الساقط والغلط الظاهر؛ لأنهم موقِّعون عن الله، فلم يكن أحد منهم يجرؤ على أن يفتي دون أن يتثبت من أن القول الذي سيقوله مستند إلى الكتاب والسنة وما أرشدا إليه من أدلة قطعية، وأنهم قالوه بعد أن بذلوا وسعهم في استنباطه ليكون أقرب شيء إلى ما جاء به الوحي. بينما علماء اليوم – إلا من رحم الله – صاروا يعتمدون على أدلة ظنية عند الاجتهاد لاستنباط الأحكام الشرعية؛ وقاموا بأخذ الواقع مصدراً للأحكام، فخرجت فتاواهم مفصلة على مقاس الحكام الذين لا يحكمون بشرع الله، وصار العلماء يجدِّفون في قارب الحكام، فتاهت سفينتُهم في بحار السياسة الخاطئة الكاذبة، وخلع عليهم الكفار الخلع السنية وقرَّبوهم، وأدخلوهم في أنفاق حوار الأديان وشرعنة دويلات الضرار وتبرير قتل الثوار والعاملين للتغيير على أساس الإسلام.

وأما المحور الثاني، فإن العلماء قد أخفقوا في استغلال الفرصة التاريخية التي أتيحت لهم بعد هدم الخلافة الإسلامية العثمانية بالعمل لإعادتها واستئناف الحياة الإسلامية، تلكم الفرصة التي لم تحصل إلا مرة واحدة في الماضي زمن النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام من المهاجرين والأنصار، ولن تتكرر مرة أخرى بعد إقامة الخلافة الثانية الراشدة على منهاج النبوة، إذ قد سكت النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك، ولا يسكت في معرض البيان. والحديث بتمامه أخرجه صاحب مشكاة المصابيح بسند حسن عن النعمان بن بشير رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تكونُ النُّبُوَّةُ فيكم ما شاء اللهُ أن تكونَ، ثم يَرْفَعُها اللهُ -تعالى-، ثم تكونُ خلافةٌ على مِنهاجِ النُّبُوَّةِ ما شاء اللهُ أن تكونَ، ثم يَرْفَعُها اللهُ -تعالى-، ثم تكونُ مُلْكًا عاضًّا، فتكونُ ما شاء اللهُ أن تكونَ، ثم يَرْفَعُها اللهُ -تعالى-، ثم تكونُ مُلْكًا جَبْرِيَّةً فيكونُ ما شاء اللهُ أن يكونَ، ثم يَرْفَعُها اللهُ -تعالى-، ثم تكونُ خلافةً على مِنهاجِ نُبُوَّةٍ، ثم سكت» .

هذا وإن الهزال الفقهي والضعف الفكري والجمود السياسي الذي أصاب علماءنا اليوم قد ظهرت بوادره قبيل سقوط الخلافة بوقت ليس بقصير، حتى إنهم عند سقوطها قد تأخَّروا في إدانة إلغائها بعض الوقت، ولو كان أياماً، ولكنه تأخير مذموم وتقصير كبير فوَّت الفرصة عليهم لحشد الأمة لمحاولة منع حصول الكارثة والزلزال العظيم الذي جعل الأمة الإسلامية بعده كالرَّميم. وإليكم صورةٌ لمواقف العلماء في تلكم الفترة العصيبة من تاريخ المسلمين:

((بيان الهيئة العلمية الدينية بالديار المصرية لبحث شأن الخلافة والدعوة للمؤتمر الإسلامي العام الصادر في القاهرة في يوم الثلاثاء 19 شعبان 1342 – 25 مارس سنة 1924 (بعد إعلان إلغاء نظام الخلافة بـ 21 يوماً!!). نقلاً عن المجلّة التاريخيّة، الكاتب: محمد رشيد رضا (الخلافة والمؤتمر الإسلامي) قرار كبار العلماء الرسميين في القاهرة/بلاغ رسمي للصحف. وعن مقال بعنوان: إعادة ترتيب أوراق سقوط الخلافة، الكاتب: د. عجيل النشمي. مجلة الغرباء: العدد رقم 125 السنه الحادية عشرة، الصادر في لندن22  جمادى الآخرة 1436ه، 12 نيسان 2015م)).

((اجتمعت بالإدارة العامة للمعاهد الدينية هيئة علمية دينية كبرى تحت رياسة حضرة صاحب الفضيلة الشيخ أكبر شيخ الجامع الأزهر ورئيس المعاهد الدينية العلمية الإسلامية الشيخ محمود أبو الفضل الجيزاوي، وبعضوية أصحاب الفضيلة رئيس المحكمة العليا الشرعية الشيخ محمد المراغي، ومفتي الديار المصرية الشيخ عبد الرحمن قراعة، ووكيل الجامع الأزهر ومدير المعاهد الدينية الشيخ أحمد هارون السكرتير العام لمجلس الأزهر الأعلى والمعاهد الدينية الشيخ حسين والي، وشيوخ المعاهد الدينية الكبرى الشيخ محمد الأحمدي الظواهري، والشيخ محمد عبد اللطيف الفحَّام والشيخ عبد الغني محمود والشيخ إبراهيم الجبالي ومشايخ الأقسام بالجامع الأزهر والكثير من هيئة كبار العلماء منهم الشيخ بخيت والشيخ محمد شاكر والشيخ النجدي وشيخ الشافعية والشيخ أحمد نصر وكيل المالكية والشيخ سبيع الذهبي شيخ الحنابلة والشيخ عبد المعطي الشرشيمي وغيرهم من العلماء والمفتشين بالمعاهد الدينية، وقرّ قرارهم بعد بحث طويل على ما يأتي:

كثر تحدُّث الناس في أمر الخلافة بعد خروج الأمير عبد المجيد من الآستانة، واهتم المسلمون بالبحث والتفكير فيما يجب عليهم عمله قياماً بما يفرضه عليهم دينهم الحنيف؛ لذلك رأينا أن نعلق رأينا في خلافة عبد المجيد وفيما يجب على المسلمين اتِّباعه الآن وفيما بعد.

الخلافة – وتسمى الإمامة – رياسة عامة في الدين قوامها النظر في مصالح الملة وتدبير الأمة. والإمام نائب عن صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم في الدين وتنفيذ أحكامه، وفي تدبير شؤون الخلق الدنيوية على مقتضى النظر الشرعي.

الإمام يصير إماماً بالبيعة من أهل الحل والعقد، أو استخلاف إمام قبله، لا بد مع هذا من نفاذ حكمه في رعيته خوفاً من قهره وسلطانه. فإن بايع الناسُ الإمامَ ولم ينفذ حكمه فيهم لعجزه عن قهرهم، أو استخلفه إمام قبله ولم ينفذ حكمه في الرعية لعجزه، لا يصير إماماً بالبيعة أو الاستخلاف. وتستفيد الإمامة أيضاً بطريق التغلب وحده، فإذا تغلب شخص على الخليفة واغتصب مكانه وانعزل الأول، وقد يوجد التغلب مع البيعة والاستخلاف كما حصل لأكثر الخلفاء في العصور الماضية، وهذا كله مستفاد صراحة من السادة الحنفية.

ولما كان الإمام صاحب التصرف التام في شؤون الرعية وجب أن تكون جميع الولايات مستمدة منه وصادرة عنه، كولاية الوزراء، وولاية أمراء الأقاليم وولاية القضاء، وولاية نقباء الجيوش وحماة الثغور.

وينحلُّ عقد الإمامة بما يزول به المقصور منها كأسره بحيث لا يرجى خلاصه وعجزه عن تدبير مصالح الملة والأمة، ومتى وجد منه ما يوجب اختلال أحوال المسلمين وانتكاس أمور الدين جاز للأمة خلعه ما لم يؤدِّ ذلك إلى فتنة، فإن أدى إليها احتمل أخف الضررين.

رضي المسلمون الذين كانوا يدينون لخلافة الأمير وحيد الدين عن خلعه للأسباب التي علموها عنه، واعتقدوا أنها مبرِّرة للخلع، ثم قدَّم الأتراك للخلافة الأمير عبد المجيد معلنين فصل السلطة جميعها عن الخليفة، ووكلوا أمرها إلى مجلسهم الوطني وجعلوا الأمير عبد المجيد خليفة روحياً فقط.

وقد أحدث الأتراك بعملهم هذا بدعة ما كان يعرفها المسلمون من قبل، ثم أضافوا إليها بدعة أخرى وهي إلغاء مقام الخلافة.

لم تكن خلافة الأمير عبد المجيد والحالة هذه خلافة شرعية، فإن الدين الإسلامي لا يعرف الخلافة بهذا المعنى الذي حدد له ورضيه، ولم تكن بيعة المسلمين له بيعة صحيحة شرعاً.

وإذا غضضنا النظر عن هذا وقلنا إن البيعة صحت له، فإنه لم يتمَّ له نفوذ الحكم الذي هو شرط شرعي لتحقيق معنى خلافته.

وإذا فرض أن تم له وصف الخلافة بمعناها الشرعي، فقد انحلَّ عنه ذلك الوصف بعجزه حقيقة عن القيام بتدبير أمور الدين والدنيا، وعجزه عن الإقامة في بلده ومملكته، وعن حماية نفسه وأسرته بعد أن تم للأتراك تغلبهم عليه.

والنتيجة لهذا كله أنه ليس للأمير عبد المجيد بيعة في أعناق المسلمين لزوال المقصود من الإمامة شرعاً، وأنه ليس من الحكمة ولا مما يلائم شرف الإسلام والمسلمين أن ينادوا ببقاء بيعة في أعناقهم لشخص لا يملك الإقامة في بلده ولا يملكون هم تمكينه منها.

ولما كان مركز الخلافة في نظر الدين الإسلامي ونظر جميع المسلمين له من الأهمية ما يعدله شيء آخر يترتب عليه من إعلاء شأن الدين وأهله، ومن توحيد جامعة المسلمين وربطهم برباط قوي ومتين، وجب على المسلمين أن يفكروا بنظام خلافتهم، وبوضع أسسه على قواعد تتفق مع أحكام الدين الإسلامي، ولا تتجافى مع النظم الإسلامية التي رضيها المسلمون نظماً لحكمهم.

غير أن الضجة العنيفة التي أحدثها الأتراك بإلغاء مقام الخلافة والتغلب على الأمير عبد المجيد جعلت العالم الإسلامي في اضطراب لا يتمكن المسلمون معه من البتّ في هذه النظم، وتكوين رأي ناضج فيها، وفي من يصح أن يختار خليفة لهم إلا بعد الهدوء وبعد الإمعان والروية، وبعد معرفة وجهات النظر في مختلف الجهات.

لهذه الأسباب نرى أنه لا بد من عقد مؤتمر ديني إسلامي يدعى إليه ممثلو جميع الأمم الإسلامية للبتِّ فيمن يجب أن تسند إليه الخلافة الإسلامية، ويكون بمدينة القاهرة تحت رياسة شيخ الإسلام بالديار المصرية، وذلك نظراً لمكانة مصر الممتازة بين الأمم الإسلامية، وأن يكون عقد المؤتمر في شهر شعبان سنة 1343هـجري/مارس 1925 ميلادي.

ولا بد لنا من إعلان الشكر لكل من أبدى غيرة دينية إسلامية في أمر الخلافة وأظهر اهتماماً بهذا الواجب.

ونعلن كذلك شكرنا للأمم التي تدين بأديان أخرى غير الدين الإسلامي ولدول تلك الأمم على ما أظهروه إلى الآن من ابتعادهم عن التدخل في شؤون الخلافة الإسلامية، ونرجو منهم أن يلاحظوا أن مسألة الخلافة مسألة إسلامية محضة لا يجوز أن تتعدى دائرتها ولا أن يهتم بها أحد من غير أهلها، والعالم الإسلامي جميعه يريد أن يعيش بسلام مع الأمم الأخرى وأن يحافظ على قواعد دينه الحقة ونظمه البريئة بطبعها من روح العدوان.

هذا ما رأينا من الواجب الديني علينا إذاعته إلى العالم الإسلامي في مختلف البقاع وإلى الأمم الأخرى ليكون الجميع على بينة من الأمر. ويلي ذلك الإمضاءات))

((موافقة علماء الإسكندرية على قرار علماء الأزهر: اجتمع جمهور علماء الإسكندرية، ووضعوا البيان التالي بعد أن كثر القول في مخالفتهم لعلماء الأزهر. نحن علماء معهد إسكندرية نظرنا في القرار الذي وضعه أصحاب الفضيلة العلماء، الذين اجتمعوا في الإدارة العامة للمعاهد برئاسة صاحب الفضيلة مولانا شيخ الجامع الأزهر ورئيس المعاهد الدينية، فوجدناه مشتملاً على موضعين:

أحدهما الحكم الشرعي في خلافة الأمير عبد المجيد.

وثانيهما لزوم عقد مؤتمر إسلامي عام للنظر فيمن تسند إليه الخلافة بعدما تنحى الأتراك عنها.

أما الأول فقد راجعنا بشأنه قرارات الجمعية الوطنية بأنقرة، واطلعنا على قرارها الصادر بتاريخ 1 نوفمبر سنة 1922م المندرج بجريدة المقطَّم الصادر بتاريخ 16 نوفمبر سنة 1922م القاضي بسحب السلطة بنوعيها التشريعية والتنفيذية من الخليفة، وجعلها حقّاً خاصّاً بالجمعية المذكورة، وجعل الخلافة في آل عثمان، وجعل حماية الخلافة راجعة للجمعية، والذي يقضي بتجريد الخليفة من كل اشتراك أو تدخل في تدبير شؤون الرعية وحراسة المسلمين بما يقتضيه النظر الشرعي في مصالحهم. واطَّلعنا أيضاً على قرار الجمعية المذكورة الصادر في 18 نوفمبر سنة 1922م  المندرج بجريدة الأهرام عدد 13917 الصادر في 8 ديسمبر سنة 1922م القاضي بخلع الأمير وحيد الدين وتولية الأمير عبد المجيد خليفة مع مراعاة الأصول المرعية في قرار أول نوفمبر السالف الذكر. واطَّلعنا على صورة التلغراف الصادر من الأمير عبد المجيد إلى رياسة مجلس الأمة الكبير المنشور بجريدة المقطم عدد 10262 الصادر بتاريخ 9 ديسمبر سنة م1922 ردًّا على التلغراف الصادر من مجلس الأمة الكبير بتاريخ 18 نوفمبر سنة م1922 الذي جاء فيه: إن الأمة قد احتفظت لنفسها بالسيادة في تركيا بلا قيد ولا شرط طبقًا لأحكام دستورها الذي يوحد بين القوتين التشريعية والتنفيذية، ويجمعهما في مجلس الأمة الكبير شاكراً المجلس على انتخابه لمقام الخلافة، مع تجريده عن السلطتين التشريعية والتنفيذية. وحيث إن انتخابه لمقام الخلافة كان على شرط أنه ليس له من الأمر شيء، وقد أقرَّهم على ذلك وشكرهم عليه، فقد تبيَّن أنه وقع انتخابه لوظيفة لم يبقَ فيها لأعمال الخلافة الشرعية شيء، فلا تعدُّ البيعة التي حصلت من المسلمين له بيعة بالخلافة. نعم إن المسلمين ما كانوا في غفلة عن هذا حينما بايعوه، ولكن دعاهم إلى البيعة بل إلى الإسراع بها ذلك الظرف العصيب، والمحنة التي تجهمت للمسلمين إذ ذاك بفرار وحيد الدين على ظهر مركب أجنبي منادياً بأنه لا يزال خليفة المسلمين، فلم يشكَّ أحد في أنه بعد أيام سيكون في الهند مثلاً بهذا اللقب. وهذا مما يفتُّ في عضد الإسلام وأهله، ويحدث صدعاً خطراً في بناء الهيئة الإسلامية، ثم في الوقت نفسه انهالت الطلبات على كبار حكام الترك لتعيين امتيازات الخليفة الجديد؛ لتحقيق مبدأ الخلافة في حدود الشورى، فكانت أجوبتهم متَّحدة بأن الخليفة الآن محصور بجيوش الحلفاء بالآستانة، فلا نأمن أن يتخذوا مقام الخلافة سلاحاً للنكاية بالترك، وبعد جلاء الجيوش تعيّن له الامتيازات. فهذا طمأن المسلمين على أنها ستكون خلافة شرعية، وأن تجريدها مؤقت، وذاك ما أوجب سرعتهم في البيعة حتى يقطعوا السبل في وجه الغادر بالمسلمين وحيد الدين. وحيث إن الأمير عبد المجيد بويع في هذه الظروف، وليس له من رئاسة المسلمين شيء، ولم يحقق الأتراك وعدهم بشأنه للمسلمين بل شردوه من بلاده- فإنا نوافق على القرار القاضي بأنه لا بيعة له في رقاب المسلمين، وأن مقام الخلافة الآن خالٍ لا يشغله إمام.

وأما الثاني، وهو لزوم الدعوة للمؤتمر الإسلامي العام، فإنا نحبذه كل التحبيذ؛ لأن الحالة التي أصبح فيها المسلمون توجب عليهم شرعاً التذرع بجميع الوسائل النافعة لخلاصهم من هذه الورطة الشديدة التي وقعوا فيها، وليس أمامهم منها إلا عقد مؤتمر إسلامي عام يعالج حل هذه المعضلة وكشف هذه البلية. والله سبحانه يتولى المسلمين بعنايته، ويوفقهم لجمع الكلمة على ما به سعادتهم في الدنيا والآخرة… اهـ.))

((وضع هذا البيان أصحاب الفضيلة علماء الإسكندرية في 27 رمضان الماضي2  أبريل، وقدموه ممضيّاً منهم إلى مشيخة الإسكندرية، وأرسله مراسل جريدة الأهرام في الإسكندرية إليها في 19 أبريل فنشرته على الناس)).

((تأثير قرار كبار العلماء، وفوضى العلم والدين في هذه الديار)): ((لما أذاعت الجرائد تسمية منح حكومة أنقرة لعبد المجيد أفندي نجل السلطان عبد المجيد لقب خليفة لموافقته إياها على الفصل بين الدين والدولة، وبين الخلافة والحكومة؛ بادر كثير من علماء الأزهر وعلماء سائر المعاهد الدينية التابعة له إلى مبايعة عبد المجيد بالخلافة الإسلامية النبوية، ونشروا نصوص مبايعتهم في الصحف اليومية كغيرهم من الطبقات التي لا تعرف أحكام الإمامة الإسلامية وشروطها، بل اغترَّ بهم أكثر الذين بايعوا واتبعوهم. وإننا على علمنا بأن مبايعتهم هذه لغو لا يترتب عليها حكم، ولا تجعل الرجل خليفة مطلقاً ولا إماماً متبعاً في الدولة التركية ولا في غيرها بالأَولى؛ لأنهم ليسوا أهل الحل والعقد هنالك ولا هنا – إننا على علمنا بهذا، تألمنا لوقوع هذه المبايعة ضنّاً بكرامة علماء مصر أن يصدر عن الجماعات الكثيرة العدد منهم مبايعة باطلة شرعاً، ولما يترتب على ذلك من تأييد جماعة أنقرة العابثين بهذا المقام الأعلى في الأمة الإسلامية. وقد عجبنا أشد العجب من إقدامهم على هذا العمل، ولم نجد له إلا أحد تعليلين لا مانع من اجتماعهما للبعض:

          1- الغفلة المطلقة عن أحكام الخلافة ونسيانها لعدم وضعها موضع البحث والعمل.

          2- أو الجريان في تيار السياسة ومجاراة العوام فيها.

وإنا لنكره لهم كلاًّ منهما، ونودُّ تكريمهما وتنزيههما عنه، وإنما أخطر ببالنا التعليل الأول ما كان وقع لنا مع عالمين من أذكى علماء الأزهر: أحدهما من قضاة الشرع، والآخر من المدرسين، كانا قد زارانا قبل حادثة الخلافة بسنين، فكان من شجون الحديث بيننا أن ذكرت مسألة الخلافة وشرط النسب القرشي فيها، فقال الشيخان: إن مذهبنا الحنفي لا يشترط هذا الشرط. قلت: لا خلاف في هذه المسألة بين مذاهب أهل السنة الأربعة ولا غيرهم بل هي إجماعية عندهم؛ فأنكرا ذلك، فجئتهم بالنص عليه من شرح البخاري والمواقف والمقاصد وغيرها، وقد بيَّنا مسائل الخلافة مفصلة تفصيلاً، ونشرناها في المنار وكلمنا بعض الأزهريين في خطئهم، وأقمنا لهم الحجج على بطلان ما فعلوه فأصرُّوا عليه. ثم بطشت أنقرة بطشتها الكبرى، فألغت خلافتها أصلاً وفرعاً، وطردت صاحب لقب الخلافة من بلادها وسائر الأسرة السلطانية فرادى وجمعاً، ولكن علماءنا المبايعين ثبتوا على بيعتهم، وزعموا أن عبد المجيد أفندي المنفي في سويسرا من بلاد أوروبا لا يزال كما لقبوه هم وأمثالهم من غير قومه: إمام المسلمين، وخليفة رسول رب العالمين، وأن بيعته لا تزال في الأعناق، وطاعته واجبة على الشعوب والأفراد، ونصرته على حكومة بلاده محتمة ولو بالقتال، فعدنا إلى الكتابة في المسألة، ونشرنا بعض المقالات في جريدة الأهرام، ورغبنا إلى شيخ الأزهر في تلافي هذه الفوضى وحفظ كرامة العلماء. ثم اجتمع كبار العلماء تحت رياسته، عند وجود الباعث، ووضعوا قرارهم ونشروه في الصحف اليومية كلها، وأيدهم فيه كبار علماء الإسكندرية، واعتذر هؤلاء عن مبايعة جمهور العلماء بما هو صريح تعليلنا الثاني، وهو اعتذار يصدق في بعض أولئك المبايعين دون بعض، ويؤيد هذا ما حدث بعد، وهو إنكار الكثيرين منهم لقرار كبار العلماء، ثم إن هؤلاء ألفوا لجنة المؤتمر ودعَوا إليها بعض أولئك المصرِّين فرجعوا عن رأيهم وقولهم، وأصرَّ آخرون وأنشأوا ينشرون المقالات في الجرائد في الرد على القرار، وشايعهم على ذلك آخرون من سائر الطبقات، ولا سيما الذين سبقوا إلى تأليف لجنة أو لجان لأجل المؤتمر المقترح. ساءتنا هذه الفوضى، وساءنا تصدي بعض الأزهريين أنفسهم للرد على شيوخهم وكبار مُعِدِّيهم حتى بالباطل، وبالخروج عن الأدب اللائق، حتى إننا كنا في أواخر رمضان شرعنا في كتابة مقالة في تأييد كبار العلماء، والدفاع عنهم من غير أدنى طعن في غيرهم، فأمسكنا عن إتمامها قرفاً من هذه الفوضى التي أحدثتها حرية النشر في البلاد. ومن يضلل الله فما له من هاد.))

وختاماً، فإني أضع هذه القضية المصيرية بين يدي أصحاب الفضيلة العلماء في زماننا كي يولوها ما تستحقه من أهمية، من أجل تبني موقف واضح لا لبس فيه يعيد الأمور إلى نصابها، ويرجع البحث فيها إلى صعيده الشرعي وهو حرمة بقاء المسلمين بلا خلافة أو خليفة يحكمهم بشرع الله أكثر من يومين اثنين وليال ثلاث وإلا أثم الكل، ولا داعي للاستفاضة في الأدلة بخصوص هذا الحكم الشرعي وغيره من الأحكام التي ترغب في قول الحق وخصوصاً عند السلطان الجائر، فالمعروف لا يعرّف أيها العلماء الأفاضل. فإن أنتم وقفتم الموقف الصحيح الذي تشتغل بعده المعاهد الشرعية والجامعات بالبحث والتنقيب في هذه المسألة الحساسة، ثم تشتعل طاقات الأمة كاملة وقوداً للعمل الجاد الهادف مع العاملين الجادين الهادفين لإعادة الخلافة، وإقامة دولة الإسلام على أنقاض عروش الظالمين، وتوحيد بلاد المسلمين تحت راية واحدة وهي راية العقاب بعد حرق أعلام سايكس/بيكو، وحمل دعوة رب العالمين إلى العالم أجمع عن طريق الجهاد في سبيل الله بعد أن عطَّلها الحكام عقوداً طويلة بل قروناً! فإن أنتم فعلتم ذلك فإنكم إذاً علماء ربانيين. وإن أخذتكم العزة بالإثم، وأغرقتم في تجاهل هذا الطلب الشرعي العظيم، فأنتم إذاً علماء سلطانيون، وستفوتكم الفرصة التاريخية، وستندمون، ولات ساعة مندم، وسنختصم وإياكم عند الواحد الديَّان الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات والأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر. أما دين الله فله رجاله الذين عاهدوا الله أن يعيشوا ويموتوا على هدف واضح ومحدد وهو: رفع راية لا إله إلا الله محمد رسول الله، ليقيموا دولة الخلافة الثانية الراشدة على منهاج النبوة، وإنهم منهمكون في هذا العمل التاريخي الشريف النظيف حتى يقضي الله أمرا كان مفعولاً. وإن الخلافة قائمة بأمر ربنا عز وجل ووعده، وبشارة نبيّه صلى الله عليه وسلم، والذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي. وبشائرها اليوم تلوح في الأفق. قال تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *