العدد 340 -

السنة التاسعة والعشرون جمادى الأولى 1436هـ – آذار 2015م

الأعمال السياسية

بسم الله الرحمن الرحيم

الأعمال السياسية

أسعد منصور

إن الأعمال السياسية، ونخص منها هنا الخارجية، لهي من أهم الأعمال التي تقوم بها الدولة، وهي تتعلق بمصيرها وبمصير الأمة وبمصير مبدئها إن كانت مبدئية، فبالأعمال السياسية ربما تنهزم الدولة ولو كان لديها قوة عسكرية كافية لردع الخصوم أو الأعداء، وبهذه الأعمال ربما تستطيع أن تحقق الدولة أهدافاً أكثر مما تحققه بالقوة العسكرية المجردة وبأقل كلفة وأقل خسارة وأكثر نجاعة. بل إن ما تحققه بالقوة العسكرية لا يدوم إذا لم تصحبها أعمال سياسة، ولا يتركز ما حققته بالقوة العسكرية إلا بالأعمال السياسية. حتى إن الأعمال العسكرية أصبح يُقام بها لتحقيق أهداف سياسية أو تكون آخر حل، فلا يقام بها لذاتها، لأن المسألة هي ليست استخدام القوة ولا القتل ولا التدمير، وإنما هي تحقيق الانتصار على الخصم، وذلك إما أن تخضعه الدولة لها مباشرة أي يصبح تحت حكمها، أو غير مباشرة فيصبح تابعاً لها، أو يدور في فلكها يؤمن لها مصالحها أو يسهلها، أو تحيِّده لتتفرغ لمقارعة خصم آخر أو لتحقيق حسابات أخرى من ورائه.

ونحن هنا لا نريد أن نقوم بالتعريفات ولا بوضع النظريات أو شرحها، وإنما نريد أن نهتم بالأعمال أو نقوم بها بالفعل وكأننا على وشك تنفيذها فوراً، ولو كنا نخط ذلك على الورق، ولكن ذلك للقيام بالعمل السياسي وللتنفيذ. كالمهندس الذي يرسم مخططاً لتطبيقه على أرض الواقع؛ ولذلك كان موضوعنا هو موضوع عملي يتطلب القيام بالعمل.

إن الدولة الإسلامية تقوم بالأعمال السياسية في الخارج بهدف حمل الدعوة الإسلامية للناس كافة وسيادة مبدئها في العالم وحماية نفسها من الأخطار والمؤامرات، وهي تقتضي نشر الأفكار الإسلامية والقيام بكل الأعمال التي تتطلبها الدعوة الإسلامية؛ ولهذا وهي تقوم بالأعمال السياسية تقوم بتحويل الرأي العام العالمي لصالح الإسلام ليحبب الناس بدخول الإسلام أفواجاً ولتكون الدولة الإسلامية هي المؤثرة عالمياً؛ فتقوم بنشر الأفكار الإسلامية وتثقيف الناس بها على كافة الأصعدة وبكل الوسائل والأساليب، وتجعل مفاهيم الإسلام هي السائدة دولياً وتحويلها إلى أعراف دولية، فكل ذلك أعمال سياسية.

والجهاد ابتداءً من اتخاذ القرار إلى الإعداد والإشراف على العمليات حتى إعلان الهدن ووقف إطلاق النار والمصالحة وتبادل الأسرى وغير ذلك من الأعمال المتعلقة به تسير حسب سياسة معينة يشرف عليها السياسيون، وعلى رأسهم الخليفة، ولا تترك للعسكريين. وقد جُعلت أول خطوة في الجهاد هي دعوة الناس إلى الإسلام قبل بدء القتال معهم، وهذا يشمل العمل السياسي والعمل الفكري الذي يسير حسب سياسة معينة، ويُقام بأعمال سياسية وبإشراف من السياسيين على رأسهم الخليفة، وترصد له ميزانية وتحدد الأساليب والوسائل وتحدد البلاد التي سيجري التركيز عليها أكثر ويرسل السفراء وحملة الدعوة. وقد جُعل القتال آخر خطوة، وقد سبقه عمل سياسي آخر؛ وهو مصالحة القوم لتحويل دارهم إلى دار الإسلام وحكمهم به وهم على دينهم؛  فجعل القتال آخر خطوة لتنفيذ سياسة معينة وهي سيادة الإسلام والحكم به.

ولذلك جعل الله إعداد ما استطعنا من قوة ليس للقتال في الدرجة الأولى، بل هو لإخافة الأعداء حتى يكفوا أيديهم عن قتالنا بدون قتال، أو أن يستسلموا لنا، أو أن يسهلوا لنا الطريق للوصول إلى عدو آخر، ولتحقيق أمر كبير لنصبح دولة كبرى مهابة الجانب. فلا يمكن أن تصبح دولة كبرى إذا لم تكن ذات مكانة عالية يقدرها الناس ومرهوبة ومهابة تستطيع أن تفرض إرادتها على الآخرين. فكان إعداد القوة يصب في خانة العمل السياسي. فهذه الآية التي قال الله سبحانه وتعالى فيها( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ) ذكر فيها أعداء الإسلام الظاهرين وهم في الخارج، فالمطلوب هنا إخافة الأعداء الذين هم في الخارج وجعلهم يخضعون أو يستسلمون للدولة أو على الأقل ألا يقوموا بأعمال عدائية لنا ولا يتصدون لنا وأن يصبح لنا قوة مهابة تتمكن من فرض إرادتها على الأعداء. وقد ذكر الأعداء الآخرين وهم في الداخل من المنافقين، وهؤلاء لا يحاربون بالسلاح؛ لأنهم يتظاهرون بالإسلام ويعدون أنفسهم مسلمين، ولكن يتم إخافتهم عندما يرون قوة الدولة فيخشونها فيخنسون ويختبئون في جحورهم. فكان ذلك عملاً يصب في قناة العمل السياسي لتقوية الداخل. والآية التي وردت عقبها تشير إلى أن المسالة ليست هي القتال في الدرجة الأولى وإنما لتصب في قناة العمل السياسي، فقال تعالى: : (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي إذا أرادوا المصالحة والاستسلام للدولة الإسلامية من دون قتال يقبل منهم، ويخضعون لسيادة الإسلام لتحكمهم به وتساويهم بالمسلمين في المعاملة وإعطاء الحقوق.

وقد رأينا أن الله سبحانه وتعالى يبشر المؤمنين بالانتصار بدون قتال في أكثر من واقعة، فقال في آية (وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ) وذلك بخصوص واقعة الخندق. وكذلك سماح رسول الله في هذه الواقعة لنُعَيم بن مسعود ليقوم بالإيقاع بين قريش وحلفائها من يهود خيبر فانفرط حلفهم وتفرقوا. وكذلك في فتح مكة حيث قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ) وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم زعيم قريش أبا سفيان يستسلم ومن ثم تركه يذهب إلى قومه ليبلغهم قرار رئيس الدولة الإسلامية بأنهم سيصبحون آمنين إذا دخلوا بيت زعيمهم أو بيت الله الحرام أو بيوتهم، أي ليطلب منهم الاستسلام حتى لا يقاوموا ويدخلوا في قتال مع المسلمين، فهذا عمل سياسي عظيم. وكذلك قبل ذلك في العمل السياسي الكبير عندما عقد رسول الله صلح الحديبية بناء على وحي من الله، فحقق منه أهدافاً كبيرة، وقد اعتبره الله فتحاً ونصراً للمسلمين من دون قتال، فقال: (وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20)) وكذلك في استسلام يهود بني النضير من دون قتال عندما أدخل في قلوبهم الرعب والخوف من المسلمين؛ وقد قبل الرسول الكريم منهم الاستسلام لأنه قد حقق الهدف، ومن ثم أجلاهم عن ديارهم، كما ورد في سورة الحشر: (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ… فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ * وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ)  فطبق الرسول صلى الله عليه وسلم سياسة معينة عليهم بجعلهم يستسلمون ويجليهم عن أرضهم ويجعلها وأموالهم فيئاً للمسلمين. وكذلك دعوة الرسول المسلمين لقتال الروم في تبوك رغم قلة الإمكانيات وصعوبة الظروف لاختبار استعدادهم للقتال في أشد الظروف ولفضح المنافقين، ومن ثم التأكيد على استمرار الأعمال من قبل دولة الإسلام من بعده تجاه الروم للقضاء على كيانهم وفتح البلاد التي يسيطرون عليها، وقد انسحبوا من أمام المسلمين رغم قوة الإمكانيات التي لديهم، وربما أدرك الروم أن الدولة الإسلامية تريد أن تشتغل بهم وهذا سيكلفهم الشيء الكثير ويقوي من مكانة هذه الدولة الفتية على حسابهم؛ ولذلك فضلوا الانسحاب حتى لا يعطوا ذريعة لها في الاستمرار في قتالهم. وكذلك عندما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم رئيس الدولة الإسلامية بعمل سياسي آخر ضمن هذه الحملة على الروم؛ وهو الاتصال بالقبائل المحاذية للروم حيث صالحهم ليكونوا على الحياد كما يقال في هذا العصر، ولئلا يعرقلوا مرور جيوش المسلمين مستقبلاً نحو الروم وليحولوا دون عبور الروم نحو دولة الإسلام من خلال تلك القبائل أو بمعاونتها.

والبشرى تحمل معنى المدح، أي أن العمل على تحقيق الانتصار من دون قتال هو المطلوب، وقد أُكد في كثير من المواقع، ولا يكون ذلك إلا بالقيام بالأعمال السياسية كما رأينا من أعمال رئيس الدولة الإسلامية رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الوقائع التي بشر الله بها المؤمنين، وأن يعالج الأمر سياسياً، ويستعمل التهديد باستخدام القوة لتنفيذ هذه السياسة، ولا يستخدمها إلا إذا لم تتحقق النتيجة من دونها. وقد قال رسول صلى الله عليه وسلم: „لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية فإذا لقيتموه فاصبروا“.(البخاري) وهنا توجد إشارة للقيام بالأعمال السياسية للانتصار على العدو؛ لأنه لا يجوز أن نتوقف عن حمل الدعوة الإسلامية للعالم من أجل العافية، وحمل الدعوة الإسلامية يجعل كثيراً من الدول تناصبنا العداء وتتصدى لنا لتحول دون سيادة الإسلام عليها وانتشاره في ربوعها، فتصبح عدواً لنا. فيكون معنى الحديث أن نقوم ونعمل على تحقيق أهدافنا وعلى رأسها سيادة الإسلام في العالم بالأعمال غير القتالية، وعلى رأسها الأعمال السياسية مع الاستعداد للقاء العدو أي للقتال. ولهذا استأنف الرسول صلى الله عليه وسلم قوله بعبارة : „واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف“ أي لإظهار الاستعداد للقتال حتى لا يظن العدو أننا غير مستعدين للقتال فنهون في نظره ويتمرد علينا ومن ثم يهاجمنا؛ ولهذا يجب أن يكون بجانب القيام بالأعمال السياسية إعداد قوة عسكرية تخيف الخصم مع إظهار الاستعداد لاستعمالها وللقتال حتى يهابنا العدو، فذلك يسهّل القيام بالأعمال السياسية وتحقيق الأهداف بها.

 وهناك أمثلة كثيرة في سيرة قائد الأمة ومؤسس دولتها وقدوتها الحسنة رسولها الكريم صلى الله عليه وسلم يجب تتبعها ودراستها وتعلمها. وقد رأينا كيف اقتدى به الخلفاء الراشدون من بعده. فقد أصرَّ الخليفة الراشد الأول أبو بكر على أن يرسل جيش أسامة، فإذا لم يرسله فإن الروم والمنافقون سوف ينظرون إلى المسلمين أنهم قد ضعفوا ولا يقوون على قتال فيطمعون بهم فيبدأون بمهاجمة دولتهم للقضاء عليها وعليهم. ولذلك أرسل هذا الجيش نحو وجهته إلى الروم وجعله يسير بين القبائل التي ارتدت أو التي امتنعت عن أداء الزكاة حتى يظهر قوة الدولة واستعدادها للقتال، في الوقت الذي هيأ جيشاً آخر لمحاربة المرتدين ومانعي الزكاة. فهذا عمل سياسي عظيم ونظرة سياسية مستقبلية ثاقبة. وقد لبَّى الخليفة الراشد الثاني عمر رضي الله عنه طلب بطريرك نصارى القدس بأن يجيء إليهم من مسافات بعيدة ليستسلموا له مباشرة من دون قتال، مع العلم أن الجيوش الإسلامية كانت قادرة على مدينة القدس واقتحامها عسكرياً وكانت تحاصرها. وهناك أمثلة كثيرة من تاريخ دولة الإسلام للخلفاء والقادة كيف كانوا يتقنون فن القيام بالأعمال السياسية. وآخرهم كان الخليفة عبد الحميد الثاني عندما رأى تآمر الدول الغربية على الدولة الإسلامية من أول يوم نصب فيه خليفة وقد عقدوا مؤتمر برلين عام 1878م بهذا الخصوص، فصار يعمل على دفعهم عن دولته بجعلهم يتصارعون بينهم، وفي الوقت نفسه يعمل على إنقاذ الدولة وتقويتها بعدما أصابها الهزال والضعف الذي جعل تلك الدول تطمع فيها وتتآمر عليها وتجتمع من أجل تقاسمها بينها في ذلك المؤتمر وتطلق عليها اسم الرجل المريض الذي فقد القوة وأصبح من السهل السيطرة عليه وسلب ممتلكاته ومن ثم القضاء عليه. ولكن عندما وصلت طغمة عسكرية فاسدة من حزب الاتحاد والترقي إلى الحكم بعدما قامت بالانقلاب على عبد الحميد وبدأت تدير شؤون الدولة، وهي لا تفهم السياسة الدولية ومؤامرات الدول الكبرى ولا أهمية القيام بالأعمال السياسية، ولا تفهم إلا استخدام القوة العسكرية والقتال، فاستطاعت ألمانيا أن تخدع هذه الطغمة العسكرية الحاكمة وتدخلها بجانبها في أتون الحرب العالمية الأولى، وذلك ما كان يتجنب فعله الخليفة عبد الحميد صاحب العقلية السياسية. فدمرت تلك الطغمة ذات العقلية العسكرية الدولة لعمالتها ولحماقتها وعدم إدراكها للخدع السياسية وفن القيام بالعمل السياسي.

ولهذا وجب أن يركز على القيام بالأعمال السياسية بشكل كبير جداً والاهتمام بها اهتماماً بالغاً. فالدولة لو كانت إمكانياتها قليلة وقدراتها ضعيفة ولكنها تتقن فن القيام بالأعمال السياسية فإنها سوف تحقق الكثير الكثير، أكثر مما تحققه دولة لديها إمكانيات ضخمة وقدرات عسكرية قوية ولكنها لا تتقن فن القيام بالأعمال السياسية. وقد رأينا الدولة الإسلامية وهي دولة ناشئة وإمكانياتها قليلة وقدراتها ضعيفة على عهد الرسول الكريم، رأيناها كيف كانت تتقن فن القيام بالأعمال السياسية مع عدم إغفال إعداد القوة واستخدامها عند اللزوم، واقتدى به الخلفاء الراشدون من بعده، فحققت انتصارات كبيرة وفتوحات عظيمة بأقل تكلفة وبأقل خسائر في الأرواح والأموال حتى أصبحت دولة كبرى، بل الدولة الأولى في العالم خلال مدة قصيرة أقل من ثلاثة عقود، وهذا دليل شرعي على وجوب القيام بالأعمال السياسية وإتقانها.

وليس هناك مانع من أن نضرب أمثلة من الدول الكافرة الحاضرة حتى تتضح الصورة، فبريطانيا رغم أن إمكانياتها العسكرية والمادية والبشرية قليلة بالنسبة للصين، ولكنها بسبب قيامها بالأعمال السياسية ومحاولة إتقانها فإنها تتفوق على الصين بالتأثير في الموقف الدولي وأن الأخيرة فهمها السياسي أضعف بكثير من الأولى وهي لا تتقن فن القيام بالأعمال السياسية. وقد استطاعت بريطانيا وهي جزيرة صغيرة أن تصبح دولة كبرى وتسخر أميركا صاحبة الإمكانيات الضخمة والقدرات الهائلة لسياستها بفضل قيامها بالأعمال السياسية ومحاولة إتقانها إلى أن أدركت أميركا أعمال بريطانيا السياسية وقررت فصل أعمالها السياسية عنها منذ منتصف القرن الماضي. وقد أصبحت بريطانيا دولة أولى منذ الحرب العالمية الأولى حتى الحرب العالمية الثانية بفضل قيامها بالأعمال السياسية، وقد خدعت فرنسا بفكرة نزع السلاح قبل الحرب العالمية وغضت البصر عن تسلح ألمانيا حتى يصبح توازن بين هاتين الدولتين. وهي تسخر الآخرين لتحقيق مآربها بدون أن تشعرهم بذلك، بل تجعل الآخرين يحاربون من أجلها وتحقيق سيادتها ومصالحها. واستطاعت بذلك أيضاً أن تسيطر على مناطق كثيرة في العالم حتى سميت بالأمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس. وما زالت تعتبر دولة كبرى رغم فقدها للكثير من مناطق نفوذها ولضعف إمكانياتها المادية والعسكرية، إلا أنها بفضل إدراكها للسياسة ولقيمة العمل السياسي واستمرارها بالأعمال السياسية بلا ملل ولا كلل ولا يأس ولا إحباط، رغم وجود عوامل ذاتية تتعلق بإمكانياتها وعوامل دولية تجعلها تحبط وتيأس من القيام بتلك الأعمال وتسير في ذيل أميركا كأغلب الدول الأوروبية؛ فبفضل ذلك حافظت على نفسها دولة كبرى عالمياً لتبقى مؤثرة في الموقف الدولي وتعمل لتعيد غابر أمجادها.

والاتحاد السوفياتي كانت لديه إمكانيات ضخمة وقدرات عسكرية هائلة ولكنه سقط بفضل الأعمال السياسية التي قام بها الغير تجاهه، وهو في أوج قوته العسكرية. وقد بدأ ذلك منذ أن جعلته أميركا يوقع على اتفاقية فيينَّا عام 1961م ويتبع سياسة الوفاق الدولي معها ويتخلى عن مقارعتها مبدئياً ثم يبدأ تدريجياً بالتنازل عن مبدئه في الداخل والخارج، ومن ثم تقوم أميركا وتخدعه ليوقع معها عدة معاهدات للحد من نشر الصواريخ ذات الرؤوس النووية والأسلحة الاستراتيجية، إلى أن حاكت له خديعة حرب النجوم الخيالية حتى تجعله يخوض معها سباق تسلح ترهقه وتنهك اقتصاده، ومن ثم أوقعته في فخ حرب أفغانستان لتجعل المسلمين يلقنونه درساً قاسياً وهي تمدهم بكافة الأسلحة حتى يضطر للخروج منها مهزوماً وتحل محله في هذا البلد. وبجانب ذلك قامت باستخدام شعار حقوق الإنسان والحريات لتحرض الناس عليه أي على الاتحاد السوفياتي وتؤلب الرأي العام ضده؛ فأحدث ذلك أثراً ليس بسيطاً، حتى إن قادته تأثروا بذلك، فصاروا يعملون على الانفتاح وإطلاق الحريات تحت فكرة إعادة البناء فتخلوا عن مبدئهم، وأسقطوه بأيديهم وأسقطوا دولتهم عام 1991م.

فالعمل السياسي هو عبارة عن رعاية للشؤون أي القيام بهذه الرعاية فعلاً، ونحن هنا نركز على العمل السياسي الذي يتعلق برعاية الشؤون الخارجية للأمة، أي بالسياسة الخارجية للدولة التي تقيم علاقات مع الدول الأخرى لتحقيق مصالح الأمة وأهدافها. وهو ليس عبارة عن تنظير وإلقاء دروس نظرية وخطب ومواعظ، وإنما هو عبارة عن تصرفات فعلية وقولية محسوسة ومحسوبة لتحقيق أهداف معينة للدولة في الخارج، فهي ممارسة عملية من قبل رجال يتقنون فنّها. أما العمل السياسي الداخلي فهو عمل يتعلق بتحقيق مصالح الناس وهم رعية الدولة والقيام بخدمتهم وحل مشاكلهم والعمل على رقيهم ورفع مستواهم، ويتطلب الرأفة بهم والأخذ بمعاذيرهم ومراعاة ظروفهم وما يحصل من تقصير وإهمال منهم. هذا العمل يختلف كثيراً عن العمل السياسي الخارجي الموجه للتعامل مع القوى الخارجية؛ منها التي نحن في حرب فعلية معها، ومنها التي تطمع في غزونا واحتلال بلادنا، أو تعمل على استعمارنا، أو تريد أن تفرض هيمنتها وسيادتها علينا، ومنها التي تتآمر علينا وتكيد لنا للقضاء على كياننا كدولة وكأمة، وعلى مبدئنا كما فعلت من قبل وما زالت تفعل. وهذه القوى لا ترحم، وهي مستعدة لأن تقوم بكل عمل خبيث وأن تكذب وتخدع وتخالف كل القوانين والأعراف. وقد تبنت النفعية أساساً لحياتها ومقياساً لأعمالها، كما تبنت المكيافللية القائلة بأن الغاية تبرر الوسيلة بجانب البرغماتية أساساً لسياستها التي تركز على تحقيق المصالح فقط، وتعتبر السياسة كلها كذب وخداع ونفاق، والديبلوماسية عبارة عن مداهنة ولف ودوران، وهي تقول لا أخلاق في السياسية، ولا تعترف بالناحية الروحية فيها ولا في غيرها، وهي مستعدة أن تغدر بمن عاهدته إذا رأت ذلك ممكناً ويحقق مصالحها. وصدق الله فيهم عندما قال: (كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ) فهم يتقنون الكذب والخداع، ويتفنَّنون في ذلك، ولكن قلوبهم مليئة بالغيظ علينا والكيد لنا، ولذلك حذرنا الله منهم في قاعدة سياسية أخرى قائلاً: (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ)  أي إذا أحسسنا منهم خيانة فيجب علينا أن نتخذ الإجراء اللازم ونتحرك بسرعة ولا ننتظر مباغتتهم لنا، أي يجب أن نكون يقظين ونقوم بالأعمال التى تكشف مؤامراتهم وتفضح ألاعيبهم وخططهم، ولا يكون ذلك إلا بتتبع الأحداث السياسية وتحليلها وفهمها فهماً صحيحاً.

وقد أصبحت الأعمال السياسية في العصر الحديث تأخذ الدور الأول في العلاقات الدولية وفي أخذ زمام الأمور وللتأثير في الموقف الدولي ولتبوُّء مركز الدولة الكبرى. فصارت الدول الطموحة الواعية تحرص على القيام بالأعمال السياسية وتركز عليها وما يلزم لذلك من أعمال تقتضيها لأنها أدركت قيمتها وما تحققه لها من مكاسب بكلفة قليلة، ويكفي لذلك أن تحسن القيام بها وتتقن صنعتها وما يلزم لإنجاحها.

إن الأعمال السياسية الخارجية كثيرة جداً ومتعددة ومتنوعة، فهي تشمل الدبلوماسية والمفاوضات وكيفية إدارتها وكسبها والاتصالات وعقد المؤتمرات والتحالفات والصداقات والتعهدات وعلاقات حسن الجوار وتنظيم الاجتماعات والنقاشات، واستخدام أساليب الإقناع، والمكر مثل الإيقاع بين الأعداء المتحالفين، أو نصب فخ للآخرين أو صرفهم لجهة أخرى، والبحث عن حيلة للخروج من مآزق ما، والمناورة مثل تغيير الاتجاه لخداع الخصم، والقيام بالأعمال مع إخفاء الأهداف، وجمع المعلومات عن الأعداء وكشف أسرارهم ومواطن ضعفهم ومدى تماسك بنيتهم الداخلية والصراعات الموجودة في داخلها والاستفادة من ذلك، وإغراء الأعداء أو تحييد بعضهم والاشتغال بواحد منهم، وإظهار الاهتمام بواحد وعدم الاكتراث بآخر، والعمل على كسب الدول والشعوب الأخرى، وضرب تحالفات الآخرين وفضحهم وإفشال مؤامراتهم ومخططاتهم وإدراك أساليبهم وإسقاطها، وفضح كذبهم ومراوغاتهم وقلبهم للحقائق أو إخفائها أو إظهار أنصافها. ولتسهيل الحصول على النتائج تستخدم وسائل التأثير الفكرية والإعلامية والدعائية وما يسمى بالحرب النفسية للتأثير على معنويات الخصوم وجعلهم يشعرون بالضعف والانهزام، والقيام بالضغوط وأنواع الحصار وتضييق الخناق، وإظهار التفوق، وتقييم ظروف الدول الأخرى وعلاقاتها مع بعضها والتحرك للاستفادة من ذلك، وإيجاد الرأي العام العالمي أو إثارته ضد الآخر، وإثارة الداخل والمشاكل للدولة المستهدفة، واستعمال أنواع التهديد، والتلويح باستخدام القوة، وكذلك استعراضها، وإظهار عظمة الدولة وانجازاتها وتلميع صورتها والترويج لسياساتها وحنكتها السياسية وحنكة سياسييها، وتشمل معرفة الدولة متى تقوم بالأعمال العسكرية ومتى لا تقوم بها ولأي غرض ستستخدمها.

ولذلك يجب أن يكون السياسيون الذين سيديرون السياسة الخارجية والذين سيساعدون رئيس الدولة أو الخليفة في إدارة هذه السياسة وينفذون الأهداف المحددة والخطط المرسومة يجب أن يكونوا حقاً بمعنى الكلمة سياسيين مبدعين حاذقين، يتحلون بصفات تمكنهم من أن يقوموا بهذه الأعمال الكثيرة والمتنوعة وأن يدركوا أعمال الخصم ويسقطوها. فلا يمكن أن يكونوا من السذج أو من أصحاب النيات أو القلوب الطيبة كما يقال، لأنهم سوف يتعاملون مع أنداد أو نظراء لهم ربما يكونون على درجة عالية من الخبث والدهاء، وخاصة من الدول الاستعمارية، فهم من نوع الثعالب والذئاب لا يرأفون ولا يرحمون، لا يفكرون إلا في كيفية هزيمة خصومهم والسيطرة عليهم، ويبحثون عن كيفية إيقاعهم في الشرك، ولا يعرفون إلا مصالح دولهم. ومن يتابع السياسة ومن درس التاريخ السياسي يدرك ذلك ويعرف كيف هزمت دول دولاً أخرى بألاعيب سياسية انطلت على الآخرين؛ ولهذا يجب أن يتمتع الساسة بالدهاء السياسي والحنكة السياسة وأن يكونوا أصحاب فكر ثاقب ورؤية بعيدة يرون ما وراء الجدار ويستشرفون المستقبل ويتصورون الأمور وعواقبها، لو فعلوا كذا لكان كذا، ولو فعلوا كذا فماذا تكون النتيجة، وماذا سيستفيدون من ذلك وماذا سيخسرون، وما سيستفيده الخصم أو الطرف الآخر. فهم أصحاب فطنة وحذر وعندهم سرعة البديهة وسرعة الملاحظة فيدركون ماذا يريد الطرف الآخر ويعرفون بماذا سيجيبونه وكيف سيتصرفون تجاهه بإسلوب مناسب، فلديهم الوعي التام فيحذرون من الوقوع في الفخ، وهم لا يتسرعون، ينتبهون إلى تصرفاتهم القولية والفعلية حتى لا يضطروا إلى التراجع فيقعوا في حرج أو يصبح موقفهم ضعيفاً، فهم لا يتهورون، ولا يظهرون غضبهم، يضبطون أعصابهم ويكتمون أنفاسهم حتى يصلوا إلى مرادهم إلا إذا لزم إظهار الغضب للتأثير على الخصم واستعمال التهديد، ولكنهم بعيدون عن الحماقة والتهور، يجمعون بين القوة والحكمة، يعرفون كيف يأتون الأمور، فعندهم حسن التأتي وحسن التصرف وبُعد النظر.

والدولة في سياستها الخارجية تقيِّم الأوضاع وتعمل على استغلال الفرص السانحة وتوظيف الأحداث للأهداف، وأحياناً تقتضي التأني وانتظار الفرص والنظر في الظروف. فتقوم بعمل التقديرات والحسابات السياسية حتى تقلل من أخطائها إلى آخر حد، وتعمل على رسم الخطط واستعمال الأساليب حسب ذلك، وتستخدم كل أوراقها التي بيدها وتحشد كل قواها حتى تحقق أهدافها.

ولا يمكن أن يصبح المرء سياسياً إلا إذا تمتَّع بحس سياسي، وهذا يتأتَّى بالتفكير السياسي ومتابعة الأحداث السياسية أولاً بأول وبدون انقطاع وربط ما يتعلق بها ببعضها البعض مع ربطها بالموقف الدولي، فيصبح لدى الإنسان فهماً سياسياً يجعله يدرك الأمور فوراً، ويدرك من يقف وراءها وما أهدافه، ويدرك أن هذا ممكن وذاك غير ممكن، أو أن هذا الأمر يسير في هذا الاتجاه أو في ذلك الاتجاه، وعندما يبدأ بالتحليل السياسي يتبلور له ذلك. فالأعمال السياسية تقتضي فهم الأوضاع السياسية والموقف الدولي ومتابعة تقلباته، وذلك يتطلب التحليل السياسي. فيتناول السياسي الحدث ويبدأ بدراسته من كل جوانبه وما يتعلق به وربطه بالموقف الدولي.

وأثناء التحليل يجب التمييز بين من يعمل على توظيف الحدث أو استغلاله وبين من يقف وراء الحدث أو صانعه، فيجب أولاً تحليل الخبر بالنظر إلى مجريات الأحداث ومن يقف وراءها وما يهدف منها وربما تحصل النتيجة ليست كما أراد صانع الحدث، أو أن يأتي آخر ويوظفها لصالحه، فمثلاً؛ لقد طبخت إنجلترا اتفاقية أوسلو ووادي عربة مع عملائها في السلطة الفلسطينية وفي الأردن، فجاءت أميركا وخطفت ذلك منها ووظفتها لصالحها. والثورات في البلاد العربية قامت بشكل عفوي فلم تصنعها أية دولة كبرى، ولكن جاءت كل دولة كبرى لتعمل على أن تحتويها أو تحرفها عن مسارها بسبب وجود نفوذ لها في البلد وقوى تابعة لها تعمل على الحفاظ على مكتسباتها وقد ربطت مصيرها بالدول الكبرى وأبت أن تنحاز إلى أمتها. فمثلاً لا يقال أن أميركا كانت من وراء الثورة المصرية، ولكن أميركا عملت على أن تحتويها وأن تحرفها عن مسارها وتحول دون خروج مصر من قبضتها. وينطبق الأمر على تونس حيث إن لبريطانيا قوى فيها عملت بواسطتها على أن تحتوي الثورة لتفرغها من مضمونها وتحافظ على النظام القديم، وينطبق الأمر على ليبيا وعلى اليمن حيث يجري الصراع بين بريطانيا صاحبة النفوذ فيهما وأميركا القادمة إليهما، ويتصارع الطرفان عن طريق عملائهم في البلدين وفي المنطقة. وسبب كل ذلك أن الوعي لم يكتمل تماماً لدى الناس الثائرين عامة ولدى الذين تصدروا قيادتهم خاصة، وسبب ذلك أيضاً تصدّر قيادات لا تتمتع بالإرادة الصادقة للمشهد ولا تعمل على التغيير الجذري فوصلت إلى الحكم وخذلت الناس المطالبين بإسقاط النظام وإحداث التغيير الذي ينتج لهم حياة كريمة وعز وسؤدد. ولكن أميركا وغيرها من الدول الكبرى لم تنجح في سوريا حتى الآن بالرغم من تآمرها على ثورتها وعلى شعبها والتضييق عليه من كل الجهات وضربه بحجة وجود المتطرفين والمتشددين والإرهابيين، وجعل بشار أسد وإيران وحزبها في لبنان يمعنون قتلاً وذبحاً في هذا الشعب على مدى أربع سنوات، وسبب عدم نجاح هذه القوى كلها في حرف الثورة أو القضاء عليها هو أن وعي الثوار والناس في سوريا وصل إلى درجة عالية مع وجود قيادات مخلصة وحزب سياسي مخلص ولفظهم للذين يحاولون أن يتصدروا القيادة من العملاء سواء في الائتلاف الوطني أو في غيره.

فهذا التمييز بين من يوظف الحدث ويستغل الوضع وبين من يصنع الحدث ومن يقف وراءه مهم جداً حتى يدرك الإنسان الأمور على حقيقتها وألا يقع في التضليل، ويعرف كيف يتعامل معها ومع من يقف وراءها. فعندما يدرك المرء أن الثورات في البلاد العربية كانت عفوية والدول الكبرى عملت على حرفها واحتوائها بواسطة عملائها عندئذ يبقى يعمل بين الناس الذين قاموا بالثورة في محاولة جادة لتوعيتهم ولأخذ قيادتهم؛ لأنهم قاموا بثورتهم من أنفسهم بإخلاص منهم، فهو يؤيد انطلاقتهم ويسير مع الناس الثائرين. ولكن لو قامت الثورات بواسطة عملاء من البداية واستطاعوا أن يتحكموا بها فالتعامل يختلف كلياً؛ لأن الناس لم يتحركوا ذاتياً وإنما ساروا وراء عملاء لدول كبرى متصارعة وسيكونون صرعى غفلة لحسابها، فلا يؤيد سيرها ولا يسير مع الناس السائرين وراء العملاء، ولكنه يعمل على توعية الناس ونصحهم بعدم السير وراء هؤلاء العملاء، فعندئذ سيصطدم الواعون المخلصون وحزبهم بالناس السائرين وراء العملاء بدون وعي. ومثال ذلك المظاهرات والاحتجاجات التي كانت تحدث في الضفة الغربية قبل عام 1967م، حيث كان من ورائها عبد الناصر عميل أميركا لتحقيق مشروعها القاضي بفصل الضفة الغربية عن الأردن ومن ثم إقامة دولة فلسطينية فيها بالإضافة إلى غزة، وهي التي كان عبد الناصر جاعلاً لها وضعاً خاصاً تحت إشرافه ولم يدمجها بمصر وكانت شبه مفصولة عن مصر؛ ولذلك أسست منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964م وأعلن ما يسمى بالثورة الفلسطينية وانساق الناس وراءها بدون وعي إلى حتفهم رغم المحاولات الدؤوبة والجادة من قبل المخلصين الواعين وحزبهم توعية الناس وتوجيههم الوجهة الصحيحة. وكذلك المظاهرات التي حصلت عام 1998م في إندونيسيا وأسقطت سوهارتو حيث كانت أميركا وأدواتها مثل صندوق النقد الدولي وراءها.

وهكذا يجب الاهتمام بالأعمال السياسية اهتماماً بالغاً، وأن تركز الدولة الطموحة على القيام بها بإتقان وحنكة ودهاء مع إعداد القوة والاستعداد لاستخدامها والبحث عن كل وسائل التأثير، ويجب عليها أن تعد السياسيين الدهاة لذلك، وكذلك واجب الأحزاب السياسية العقائدية التي تهتم بهذه الأعمال وتحللها وتقدم الفهم الصحيح لها وتخرج السياسيين الحاذقين المبدعين ليكونوا رجال دولة ورجال حكم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *