العدد 420 -

السنة السادسة والثلاثون – محرم 1443هـ – آب 2021م

زَيْدٌ بْنُ عَمْرُو بْنُ نَفِيْلٍ توفي على الحنيفية السمحة قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم

زَيْدٌ بْنُ عَمْرُو بْنُ نَفِيْلٍ

  توفي على الحنيفية السمحة

 قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم

زيد بن نفيل من أهل مكة، ولد وتوفي قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم بخمس سنوات؛ ولكنه لم يكن كغيره ممن ورثوا ديانة الوثنية وعبد أحجارها، بل كان من أصحاب العقول النيِّرة والنفوس الخيِّرة، أنِفتْ فطرته أن تهوي به إلى باطل اليهودية أو النصرانية، فكانت خير مثال لفطرة الله التي فطر الناس عليها، ولشدة ما استمالته فطرته إلى العبادة الحقَّة فقد عبر الهضاب والروابي باحثًا عن الدين الحق… ولما لم يجده عند أحد وطَّن نفسه على أن لا يعبد إلا الله، وكان يقول «أنا على ملة أبينا إبراهيم وإن كنت لا أعرفها»… فمن هو هذا الذي وصفه الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه أمة؟! 

إنه والد سعيد بن زيد رضي الله عنه (أحد العشرة المبشرين بالجنة) وابن عم عمر بن الخطاب ،رضي الله عنه وكان حنيفيًا على دين الخليل إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام، قبل أن يبعث النبي برسالة الإسلام، فقد كان يرى في الأصنام المنصوبة في بيت الله الحرام أنها لا تسمع ولا تبصر ولا تغني من الحق شيئًا، ويرى أن وراء عبادتها ضلالًا ما بعده ضلال، ويرى أنها أورثت معتنقيها عادات وتقاليد تافهة ظالمة أدت فيما أدت إلى وأد البنات… فخرج من مكة راغبًا في الحق، يفتِّش عنه في الصوامع والبِيَع والصلوات فلا يجده، ويسأل عنه الرهبان والعبَّاد والأحبار فلا يقتنع بما عرضوا عليه… روى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنه: «خَرَجَ زَيْدُ بْنُ نَفِيْلٍ إِلَى الشام يَسْأَلُ عَنْ الدِّينِ وَيَتْبَعُهُ، فَلَقِيَ عَالِمًا مِنْ الْيَهُودِ، فَسَأَلَهُ عَنْ دِينِهِمْ. فَقَالَ: إِنِّي لَعَلِّي أَنْ أَدِينَ دِينَكُمْ فَأَخْبِرْنِي. فَقَالَ: لَا تَكُونُ عَلَى دِينِنَا حَتَّى تَأْخُذَ بِنَصِيبِكَ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ. قَالَ زَيْدٌ: مَا أَفِرُّ إِلَّا مِنْ غَضَبِ اللَّهِ، وَلَا أَحْمِلُ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ شَيْئًا أَبَدًا، وَأَنَّى أَسْتَطِيعُهُ. فَهَلْ تَدُلُّنِي عَلَى غَيْرِهِ. قَالَ: مَا أَعْلَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ حَنِيفًا. قَالَ زَيْدٌ: وَمَا الْحَنِيفُ. قَالَ: دِينُ إِبْرَاهِيمَ، لَمْ يَكُنْ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَا يَعْبُدُ إِلَّا اللَّهَ. فَخَرَجَ زَيْدٌ فَلَقِيَ عَالِمًا مِنْ النَّصَارَى، فَذَكَرَ مِثْلَهُ، فَقَالَ: لَنْ تَكُونَ عَلَى دِينِنَا حَتَّى تَأْخُذَ بِنَصِيبِكَ مِنْ لَعْنَةِ اللَّهِ. قَالَ: مَا أَفِرُّ إِلَّا مِنْ لَعْنَةِ اللَّهِ، وَلَا أَحْمِلُ مِنْ لَعْنَةِ اللَّهِ وَلَا مِنْ غَضَبِهِ شَيْئًا أَبَدًا، وَأَنَّى أَسْتَطِيعُ، فَهَلْ تَدُلُّنِي عَلَى غَيْرِهِ. قَالَ: مَا أَعْلَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ حَنِيفًا. قَالَ: وَمَا الْحَنِيفُ. قَالَ: دِينُ إِبْرَاهِيمَ، لَمْ يَكُنْ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَا يَعْبُدُ إِلَّا اللَّهَ. فَلَمَّا رَأَى زَيْدٌ قَوْلَهُمْ فِي إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَام خَرَجَ، فَلَمَّا بَرَزَ رَفَعَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَشْهَدُ أَنِّي عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ». وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنه قالت: رأيت زيد بن عمرو بن نفيل قائماً مسنداً ظهره إلى الكعبة، يقول: يا معاشر قريش، واللهِ ما منكم على دين إبراهيم غيري، ثم يقول: اللَّهم لو أعلم أحبَّ الوجوه إليك عبدتك به، ولكني لا أعلم». وتذكر أسماء: وكان يسجد على راحته، وكان يصلي إلى الكعبة ويقول: «إلهي إله إبراهيم، وديني دين إبراهيم» [البخاري]

ولم يكن مكث عمرو في مكة إلا انتظارًا للنبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم، فلقد أرشده بعض الرهبان إلى قرب مخرج نبي مرسل، في أرض الحجاز، يقول زيد نفسه: «شَامَمْتُ النَّصْرَانِيَّةَ وَالْيَهُودِيَّةَ فَكَرِهْتُهُمَا، فَكُنْتُ بِالشَّامِ وَمَا وَالَاهُ حَتَّى أَتَيْتُ رَاهِبًا فِي صَوْمَعَةٍ، فَوَقَفْتُ عَلَيْهِ، فَذَكَرْتُ لَهُ اغْتِرَابِي عَنْ قَوْمِي وَكَرَاهَتِي عِبَادَةَ الْأَوْثَانِ وَالْيَهُودِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيَّةَ، فَقَالَ لِي: أَرَاكَ تُرِيدُ دِينَ إِبْرَاهِيمَ يَا أَخَا أَهْلِ مَكَّةَ، إِنَّكَ لَتَطْلُبُ دِينًا مَا يُؤْخَذُ الْيَوْمَ بِهِ، وَهُوَ دِينُ أَبِيكَ إِبْرَاهِيمَ كَانَ حَنِيفًا لَمْ يَكُنْ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا كَانَ يُصَلِّي وَيَسْجُدُ إِلَى هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي بِبِلَادِكَ فَالْحَقْ بِبَلَدِكَ، فَإِنَّ نَبِيًّا يُبْعَثُ مِنْ قَوْمِكَ فِي بَلَدِكَ يَأْتِي بِدِينِ إِبْرَاهِيمَ بِالْحَنِيفِيَّةِ، وَهُوَ أَكْرَمُ الْخَلْقِ عَلَى اللَّهِ». قال ابن إسحاق: «وَأَمَّا زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ فَوَقَفَ، فَلَمْ يَدْخُلْ فِي يَهُودِيَّةٍ وَلَا نَصْرَانِيَّةٍ، وَفَارَقَ دِينَ قَوْمِهِ، فَاعْتَزَلَ الْأَوْثَانَ وَالْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَالذَّبَائِحَ الَّتِي»تُذْبَحُ عَلَى الْأَوْثَانِ وَنَهَى عَنْ قَتْلِ الْمَوْءُودَةِ، وَقَالَ: أَعْبُدُ رَبَّ إبْرَاهِيمَ، وَبَادَى قَوْمَهُ بِعَيْبِ مَا هُمْ عَلَيْهِ».وهو صاحب البيت المشهور، الذي قاله يعيب على قومه  عبادة الأصنام:

أَرَبًّا وَاحِدًا أَمْ أَلْفَ رَبٍّ      أَدِينُ إذَا تُقُسِّمَتْ الْأُمُورُ

وجاهر بعداء الأوثان، فتألَّب عليه جمع من قريش، فأخرجوه من مكة، فانصرف إلى حراء، فسلّط عليه عمه الخطاب شبانًا لا يدعونه يدخل مكة، فكان لا يدخلها إلا سرَّا.

روى البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح (اسم موضع بالحجاز قرب مكة)، قبل أن ينزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم الوحي، فقدمت إلى النبي صلى الله عليه وسلم سفرة فأبى أن يأكل منها، ثم قال زيد: «إني لست آكل مما تذبحون على أنصابكم ولا آكل إلا ما ذكر اسم الله عليه». وأن زيد بن عمرو كان يعيب على قريش ذبائحهم ويقول: «الشاة خلقها الله وأنزل لها من السماء الماء وأنبت لها من الأرض، ثم تذبحونها على غير اسم الله» إنكارًا لذلك وإعظامًا له.

وكان يحيى الموؤودة، يقول للرجل إذا أراد أن يقتل ابنته: لا تقتلها أنا أكفيك مؤنتها، فلقد كان يرى الرجل يحمل ابنته الصغيرة على ذراعيه مسرعًا بها نحو حفرة تلتهب بالرمضاء ليدسَّها فيها، فينهضُ مسرعًا ويعترضُ طريقه، ويتوسَّل إليه ألا يفعل، فإذا أصرَّ «أن يقتل ابنته قال له: لا تقتلها ادفعها إليَّ أكفلها، فإذا ترعرعت فخذها، وإن شئت فادفعها» رواه البخاري. ثم يأخذ تلك البريئة الضعيفة، يحملها إلى بيته يرعاها ويحنو عليها؛ لأنه يعلم أن الله أرحم من عباده، وأنه لم يخلقها لتدفن بعد مولدها. وكان وأد البنات عندهم يتم بطريقتين:

الطريقة الأولى: أن تأتي المرأة الحامل على وشك الوضع إلى حفرة تحفر، فتكون عند الحفرة، وتأتي القابلة التي تستلم المولود، فتولد المرأة، فإذا خرج ذكراً أبقته، وإذا خرجت أنثى ألقيت في الحفرة مباشرة.

والطريقة الثاني: أن بعضهم كان يستأني بها، وينتظر، فلم يدفنها مباشرة، فإذا بلغت سبع سنين، قال لأمها: زينيها؛ لأزور بها أقاربها، فإذا زينتها وجملتها أخذها في الطريق إلى بئر، ثم قال: انظري فيه، فإذا نظرت، دفعها من خلف، فوقعت على رأسها، وطمَّ عليها الحجارة والتراب، وتموت قال تعالى: ( وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِٱلۡأُنثَىٰ ظَلَّ وَجۡهُهُۥ مُسۡوَدّٗا وَهُوَ كَظِيمٞ ٥٨ يَتَوَٰرَىٰ مِنَ ٱلۡقَوۡمِ مِن سُوٓءِ مَا بُشِّرَ بِهِۦٓۚ أَيُمۡسِكُهُۥ عَلَىٰ هُونٍ أَمۡ يَدُسُّهُۥ فِي ٱلتُّرَابِۗ أَلَا سَآءَ مَا يَحۡكُمُونَ ٥٩) [النحل:58-59].

أما عن وفاته، فقد كان زيد بن عمرو بن نفيل أمةً وحده، وسيبعث عندما تبعث الأمم «أمة وحده يوم القيامة»، وقد توفي قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم بخمس سنوات. وقد جاء ابنه سعيد بن زيد رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن أبي كان كما رأيتَ وكما بلغك، فاستغفر له، قال: «نعم، فإنه يكون يوم القيامة أمة وحده» [8]. وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ أَنَّهُ كَانَ يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَيَقُولُ: إِلَهِي إِلَهُ إِبْرَاهِيمَ وَدِينِي دِينُ إِبْرَاهِيمَ وَيَسْجُدُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُحْشَرُ ذَاكَ أُمَّةً وَحْدَهُ بَيْنِي وَبَين عِيسَى بن مَرْيَم». وكان سعيد بن المسيب يذكر زيد بن عمرو بن نفيل، فقال: توفى وقريش تَبْنِي الْكَعْبَةَ، قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ الْوَحْيُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَمْسِ سِنِينَ، وَلَقَدْ نَزَلَ بِهِ (الموت) وَإِنَّهُ لَيَقُولُ: أَنَا عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ

قال عامر بن ربيعة حليف بني عدي بن كعب: قال لي زيد بن عمرو: «إني خالفت قومي، واتبعت ملة إبراهيم وإسماعيل، وما كانا يعبدان، وكانا يصليان إلى هذه القبلة، وأنا انتظر نبيًّا من بني إسماعيل يبعث، ولا أراني أدركه” هذا إحساسه «وأنا أومن به، وأصدقه، وأشهد أنه نبي» من قبل البعثة شهد أنه نبي؛ لأنه قد علم أنه سيبعث؛ ولكنه لم يبعث بعد، ولم يظهر، ولم يخرج. فأشهد الله والناس أنه يؤمن ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يعرفه.
يقول زيد بن عمرو لعامر بن ربيعة: «وإن طالت بك حياة، فاقرئه مني السلام». قال عامر: «فلما أسلمت أعلمت النبي صلى الله عليه وسلم بخبره، قال: فرد صلى الله عليه وسلم وترحَّم عليه، وقال: ولقد رأيته في الجنة يسحب ذيولًا (مما أسبغ الله عليه من الثياب والنعيم)» فتح الباري  .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *