العدد 237 -

العدد 237 – السنة الواحدة والعشرون، شوال 1427هـ، الموافق تشرين الثاني 2006 م

مع القرآن الكريم: الآثار الدينية للحكم بغير ما أنزل الله (1)

مع القرآن الكريم:

الآثار الدينية للحكم بغير ما أنزل الله (1)

 

إن أول ما يصاب الناس فيه -إذا حكموا وتحاكموا إلى غير ما أنزل الله- هو دينهم. وحقاً، إن المصاب من أُصيبَ في دينه. فكيف يسلم دين قوم لا يسلمون الوجه لله حكماً واحتكاماً؟.. إنهم ينحرفون عن الدين بقدر انحرافهم عن حكمه، فإذا انتهوا إلى تبديل الحكم، فقد وصلوا إلى تبديل الدين. وهم -والحالة هذه- غارقون في الضلال، واقعون في العصيان، معرضون أنفسهم لأنواع شتى من المهالك والأضرار التي لا يبقون معها على الصراط المستقيم أبداً. وهناك أمراض وأعراض تصيب دين الناس في الحياة البعيدة عن شرع الله، أشار القرآن إلى أهمها نستعرضها فيما يلي:

1- قسوة القلوب: فتحريف الشـــريعة أو الانحــراف عنها، يوقعان ولا شـك في قسـوة القلوب، وقد ضـرب الله لنا المثل باليهود الذين انحرفوا وحرفوا كلام الله، وكيف كانت عاقبة ذلك فيهم. قال تعالى: ( فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) [المائدة 13].

فهم لمَّا نقضوا ميثاق الله على السمع والطاعة وساء تصرفهم في آيات الله، وتأولوا كتاب الله على غير ما أنزله، وحملوه على غير مراده، وقالوا عليه ما لم يقل، ثم تركوا العمل به رغبة عنه، جعل الله قلوبهم قاسيةً فلا يتعظون بموعظة لغلظها وقساوتها.

وهكذا الشأن في كل من عدل عن شرع الله محكِّماً عقله وهواه، يُطبع على قلبه. قال تعالى: ( أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ) [الجاثية 23]، وإذا كان تقوى القلوب هي صفة من يعظم الشعائر والشرائع كما قال تعالى: ( وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الحج 32] فإن الطبع على القلوب هو سمة من يجادل في الشريعة متكبراً عنها ومتجبراً عليها. قال تعالى: ( الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي ءَايَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ ءَامَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ ) [غافر 35].

والله عز وجل يحذر هذه الأمة ويربأ بها عن أن تفسد قلوبها بعدم الاستجابة لشرعه، فيقول: ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) [الأنفال 24] فبالاستجابة يحول الله بين المرء وبين الكفر، حيث يملك عليه قلبه أو يحول بينه وبين الإيمان إذا لم يستجب لطاعة الله.

2- الضلال عن الحق: اتباع الأهواء وتقديمها على أحكام الله يوقع في الضلال عن سبيل الحق؛ ولهذا أمر الله نبيه داود بالحكم، بالحق المنزل من عنده سبحانه، ونهاه أن يتبع الأهواء المضلة عن سبيل الحق قال له: ( يَادَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ) [ص 26].

وقد حذر الله أهل الكــتاب أن يقلــدوا بعضـــهم في الأهـــواء المضلة الصادة عن الحق فقال: ( قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ) [المائدة 77] ولكن أهل الكتاب أوغلوا في الضلال بالإيغال في البعد عن شرع الله المنزل. وهم -بعد أن ضلوا- لا يحبون أن يروا هذه الأمة على هداية، وقد حذر الله نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) من نواياهم العدائية هذه، فقال: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ(44)وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا(45)مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ) [النساء 44-46].

ونبه القرآن الأمة إلى إرادة الإضلال تلك فقال: ( وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ) [آل عمران 69]. ولم تكن رغبة أهل الكتاب في إضلال الأمة يوماً إلا تطلعهم إلى ميلها عن الشريعة الحقة، فكان لزاماً على هذه الأمة -حتى لا تقع فيما وقعوا فيه- أن تنقاد لقضاء الله ورسوله في كل أمر حتى لا تهوي في غياهب الضلال مثلهم. قال تعالى: ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ) [الأحزاب 36].

3- الابتلاء بالنفاق والفضيحة به: يبتلى بالنفاق من يضمرون الكراهية لشرع الله، حتى تصير قلوبهم مريضة بهذا النفاق، فيحاولون جهدهم أن يخفوا نفاقهم ظانين أن ذلك أمر ممكن، ولكن يأبى الله إلا أن يفضح المنافقين بفلتات ألسنتهم وما يخرج من أحقادهم، قال تعالى: ( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ @ وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ ) [محمد 29-30]. وقد كان منهم من يستهزئ بالشريعة ويقول: لئن كان ما يقول محمد حقاً لنحن شر من الحمير. وآخر يقول: ما أرى قراءنا هؤلاء إلا أرغبنا بطوناً وأكذبنا ألسنةً وأجبننا عند اللقاء. وقد كانوا يشفقون من افتضاح نفاقهم بهذا التشكيك في الشريعة والاستهزاء بحملتها حتى قال قائلهم: «لوددت أني أقاضي على أن يضرب كل رجل منكم مائة على أن ننجو من أن ينزل فينا قرآن». فبلغ ذلك النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فجاءوا يعتذرون فأنزل الله تعالى فيهم: ( يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ * وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَءَايَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ ) [التوبة 64-66].

إن شأن المنافقين الدائم هو الإعراض عما أنزل الله والصد عن سبيل الله، ولهذا كان الله لهم بالمرصاد دائماً ينزل عليهم النوائب والمصائب بما يفضح نفاقهم ويكشفه. قال تعالى: ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا * فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا) [النساء 61-62] «أي: كيف حالهم وقت إصابة المصيبة إياهم بافتضاحهم بظهور نفاقهم بسبب ما عملوا من الجنايات التي من جملتها التحاكم إلى الطاغوت والإعراض عن حكمك».

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *