العدد 337 -

السنة التاسعة والعشرون صفر 1436هـ – كانون الأول 2014 م

هل انهيار أميركا حقيقة أم خيال؟

بسم الله الرحمن الرحيم

هل انهيار أميركا حقيقة أم خيال؟

(الجزء الثاني)

عابد مصطفى

في المقالة الثانية من سلسلة تتكون من ثلاث مقالات، يناقش عابد مصطفى بإيجاز بعض الأفكار التي يستخدمها المفكرون لبناء تصوراتهم أو حتى تنبؤاتهم بزوال القوى العظمى وخاصة أميركا، ثم يحدّد مصطفى طريقة جديدة لفهم نهوض القوى الكبرى وتراجعها.

إن موضوع تراجع أميركا كقوة عظمى يثير تساؤلات عديدة، مثل: كيف يكون تراجع القوى العظمى؟ وهل تراجع أميركا يقتصر على المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، أم يتعدى ذلك ليشمل الشعب الأميركي وحضارته؟ وما هو معدل تراجع أميركا عن مركزها؟ وهل يعتبر تراجع أميركا تراجعاً شديداً جداً بحيث إنها أصبحت على وشك الانهيار؟ وإذا كانت أميركا على وشك الانهيار، فهل هذا الانهيار مؤقت أم دائم؟ هذه الأسئلة، والعديد مثلها، قد شغلت عقول المؤرخين في الماضي والحاضر.

لقد اقترح بعض الكتّاب فيما يتعلق بزوال القوى العظمى بعض الأفكار المثيرة للاهتمام. فمثلاً يقول بول كندي في كتابه «صعود وسقوط القوى العظمى»: «إن صعود القوى الكبرى وهبوطها يُعرف استناداً إلى معدلات نمو قواعدها الصناعية وتكاليف التزاماتها الاستعمارية بالنسبة إلى نواتجها المحلية الإجمالية»، ويؤكد كندي على أنه: «إذا قامت الدولة بتوسيع خططها بعيدة المدى بشكل يفوق قدرتها فإنها ستواجه خطراً يكمن في أن تكلفة تنفيذها قد تزيد عن المنافع التي تجنيها من التوسع الخارجي». وجاريد دياموند (أحد الكتّاب المعاصرين) يقول في كتابه «الانهيار»: «كيف تختار المجتمعات النجاح أو الفشل؟… إنّ المجتمعات تدمر نفسها لأنها تسيء إلى بيئاتها الطبيعية».

ويدّعي جورج باكر – في معرض حديثه عن تراجع أميركا- أن تراجع أميركا يرجع إلى عدم المساواة بين الأغنياء، حيث يقول: «إن عدم المساواة يحوّل المجتمع إلى نظام طبقي، ويجعل الشعب أسير الظروف التي ولد فيها (نقد لفكرة الحلم الأميركي)… إن عدم المساواة يفسد الثقة بين المواطنين مما يجعل الأمر يبدو كما لو أنه تم التلاعب بهم، ويستنزف الرغبة في تصور حلول طموحة لمشاكل جماعية كبيرة؛ لأن هذه المشاكل لا ينظر إليها بعد ذلك على أنها مشاكل جماعية… وعدم المساواة يقوّض الديمقراطية». ويرى نيال فيرغسون أنه لن يكون هناك تراجع بطيء وثابت في صدارة أميركا للعالم، فهو يقول: «…بدلاً من ذلك، فإن الإمبراطوريات مثلها مثل جميع الأنظمة المعقدة التي توازن نفسها، تظهر في حالة توازن واضح لفترة غير معروفة، ثم تنهار فجأة دون سابق إنذار».

وعلى الرغم من أن هذه الأفكار تقدم نظرة ثاقبة حول ماهية التراجع، إلا أنها ليست مفيدة جداً لرسم خطوط عريضة عن تراجع القوى الكبرى. إن المطلوب هو نموذج لا يساعد فقط في وضع تعريف للتراجع، بل وأيضاً يستخدم في رسم تصور واضح عن تراجع القوى الكبرى.

إن التراجع لا يمكن فهمه بمعزل عن النهوض؛ ولذلك فإنه من المهم أن نحدد ما الذي نقصده بالنهضة. جاء في قاموس أكسفورد على شبكة الإنترنت أن معنى النهوض هو «التحسن في قوة وحالة أو ثروة شخص ما أو شيء ما»، وفي النصرانية يعرف النهوض على أنه «عندما يستجيب مجتمع من المؤمنين لرسالة الله». ولكن في سياق دراسة نهضة الدول، فإن التعاريف اللغوية والنصرانية للنهضة غير كاملة وغير كافية.

لقد جاء الإسلام بتعريف محدد للنهضة؛ فهو يعرفها بأنها «الارتفاع الفكري القائم على أساس روحي»، وهذا التعريف يقتضي تحقق شرطين قبل أن تعتبر نهضة الدولة نهضة صحيحة وكاملة. الأول هو أن يكون أساسها عقدياً، بمعنى أنها لا بدّ أن تقوم على فكرة كلية عن الكون والإنسان والحياة، وعن علاقتها بما قبل الحياة وما بعدها، وهذه الفكرة الكلية تؤدي إلى نهضة الأفكار والأنظمة المتعلقة بجميع نواحي الحياة، إلا أن الفكرة الكلية، وكذلك الأفكار والأنظمة، تظلّ فقط في بطون الكتب ما لم تكن هناك طريقة لتنفيذها في واقع الحياة، وهذا الأمر لا يتأتى إلا إذا كانت الطريقة من جنس الفكرة الكلية، أي أنها يجب أن تنبثق عنها، فعلى سبيل المثال، لا يمكن تطبيق الشريعة الإسلامية من خلال الديمقراطية. وأية نهضة لا تقوم على أساس فكرة وطريقة مبدئيتين فستقتصر على جانب واحد، فعلى سبيل المثال، تعتبر سنغافورة مركزاً رائداً للنقل والإمداد، وكوريا الجنوبية رائدة في مجال التكنولوجيا الرقمية، وكينيا رائدة عندما يتعلق الأمر بعدائي المسافات الطويلة، ومع ذلك لا تعتبر هذه البلدان الثلاثة بلاداً ناهضة تماماً، لأن نهضتها تقتصر على جانب واحد فقط؛ ويرجع ذلك في المقام الأول إلى عدم تبنّي هذه الدول لمبدأ كأساس لنهضتها. والشرط الثاني هو أن تكون قائمة على أساس روحي، أي لا بد أن تعترف بوجود الخالق. وبعبارة أخرى فإن الفكرة الشاملة يجب أن تعترف بالخالق، وهذا يضمن نهضة صحيحة روحياً.

إن المبادئ الموجودة في العالم اليوم هي ثلاثة: الإسلام، والرأسمالية الغربية (الديمقراطية الليبرالية)، والاشتراكية. والإسلام هو المبدأ الوحيد الذي تتوفر فيه شروط النهضة الصحيحة المذكورة أعلاه، وهذا لا يعني أن الدول التي تطبق الرأسمالية الغربية والاشتراكية هي دول غير ناهضة، بل على العكس من ذلك فإن تلك البلاد تعتبر ناهضة بالمبدأ الذي تطبقه، إلا أن نهضتها لا تعتبر نهضة صحيحة؛ لأن الرأسمالية الغربية والاشتراكية تنكران الجانب الروحي، فالرأسمالية الغربية تنفي أن يكون للخالق أي دور في الحياة، والاشتراكية تنكر وجود الخالق تماماً.

والمبدأ الوحيد الصحيح هو الإسلام، فالإسلام ينصّ على أن الله سبحانه وتعالى قد خلق الكون والإنسان والحياة، وأن الله سبحانه وتعالى قد بعث رسوله محمداً  صلى الله عليه وسلم  بالدين الصحيح للبشرية جمعاء، ومن هنا، فإن المسلمين الذين يتطلعون إلى استئناف الحياة الإسلامية في جميع أنحاء العالم الإسلامي يجب أن يتبنّوا بكل إخلاص المبدأ الإسلامي فكرة وطريقة على حد سواء. وعندئذٍ فقط يكلّل سعيهم نحو إنهاض الأمة الإسلامية بالنجاح.

واستناداً إلى المناقشة السابقة، فإن للنهضة ثلاث مراحل مختلفة للتفكير: المرحلة الفكرية، والمرحلة السياسية، والمرحلة التشريعية. وفي مرحلة التفكير الفكري، يستخدم التفكير الفكري لتكوين الفكرة الكلية، والتي تستخدم بعد ذلك كأساس لإنتاج الأفكار التي تعالج مشاكل البشرية من وجهة نظر محددة، وكذلك طريقة تطبيقها. وخلال هذه المرحلة، تتصادم الأفكار الجديدة مع الأفكار المنحطة السائدة في المجتمع، فلا بد من الحرص على إظهار مناقضتها وتفوقها عليها. وبعد ذلك تأتي مرحلة التفكير السياسي، حيث يتم استخدامه لإقناع المجتمع بالأفكار الجديدة، وفي الصراع مع السلطة السياسية القائمة من أجل إظهار عدم قدرتها على رعاية شؤون الناس. وفي هذه المرحلة يتم الانقلاب على القيادة السياسية الموجودة في المجتمع والإتيان بقيادة جديدة تشرف على تطبيق الفكرة الجديدة. وأخيراً في المرحلة الثالثة، وبمجرد أن تصل الفكرة الجديدة للحكم وتكون قوة التشريع بيدها، يصبح التفكير التشريعي هو المحور الرئيسي، ومن خلاله يتم التوصل إلى عدد كبير من الحلول التي تُستنبط لمعالجة مشاكل الحياة التي لا حصر لها.

وما إن تنهض الأمة حتى يصبح ضرورياً بالنسبة لها المحافظة على نهضتها، وهذا يمكن تحقيقه فقط من خلال جعل التفكير السياسي هو أساس جميع أنواع التفكير الأخرى، مثل التفكير الفكري، والتشريعي، واللغوي، والعلمي… وغيرها.

وهكذا يمكننا القول إن عملية النهضة تنضوي على ثلاث مراحل للتفكير، وهي الفكري والسياسي والتشريعي. وهذا لا يعني أن أنماط التفكير هذه متباعدة منفصلة ولا يمكن أن تتقدم معاً، بل على العكس، ففي مرحلة التفكير السياسي، يمكن للتفكير التشريعي والفكري أن يتواجدا إلى جانبه، ولكن التفكير السياسي يكون الأكثر بروزاً؛ هذا لأن التركيز منصب على فرض فكرة جديدة على المجتمع، وهذا لا يمكن تحقيقه إلا إذا تم الاضطلاع بالعمل السياسي، وبطبيعة الحال يبرز التفكير السياسي جراء ذلك، والشيء نفسه ينطبق على المراحل الأخرى. والشكل التوضيحي رقم (1) يبين العلاقة بين مراحل التفكير التي تشكل النهضة.

الشكل التوضيحي رقم (1)

وبعد التوصل إلى هذا النموذج، فإن تصور نهضة الشعوب وتمثيلها يصبح أسهل. وسنعطي ثلاثة أمثلة على ضوء هذا النموذج:

1- إن حياة رسول الله  صلى الله عليه وسلم  بفترتيها المكية والمدنية يمكن تقسيمها إلى ثلاث مراحل مختلفة للتفكير. ففي البداية، كانت الناحية الفكرية تطغى على الدعوة في مكة، وكان التفكير الفكري هو الأبرز في الأعمال التي قام بها رسول الله  صلى الله عليه وسلم . وأعقب ذلك مرحلة الأعمال السياسية المركزة التي وجهت ضد زعماء قريش، وقد طغى التفكير السياسي في هذه المرحلة. وما إن أقام رسول الله  صلى الله عليه وسلم  أول دولة إسلامية في المدينة حتى أصبح التفكير التشريعي هو الأبرز؛ لأن الوحي كان يتنزل بالأحكام لمعالجة مشاكل الحياة.

2- وفي أوروبا تميزت النهضة بصحوة فكرية أوروبية ضد ممارسات الكنيسة، وأعقب ذلك مرحلة تشكّل آذنت ببداية نشاط سياسي مركز حتى تم فصل سلطة الكنيسة عن الدولة، وعندها نشأت العلمانية. وقد جاء بعد ذلك عصر التنوير الذي ظهر فيه كل من التفكير الفكري والتشريعي، وخلال هذه الفترة نشأ تقليدان أساسيان للقانون الأوروبي الحديث: تقنين الأنظمة القانونية التي استخدمت في معظم دول القارة الأوروبية، والتقاليد الإنجليزية التي بنيت على السوابق القضائية.

3- وفي أوائل القرن التاسع عشر، طوّر كارل ماركس النظرية الأساسية لرأس المال الشيوعي، وعندها ولدت فكرة جديدة. وقد جاءت بعد ذلك مرحلة قصيرة طغى عليها النشاط السياسي، ونتج عنها الثورة البلشفية في روسيا في تشرين أول/أكتوبر عام 1917م. وقد ورث البلاشفة دولة راكدة كانت تعاني من مشاكل كثيرة، وهذا يتطلب وجود التفكير التشريعي لتقديم الحلول.

وفي الأمثلة الثلاثة السابقة، يظهر أن الشعب ما إن ينهض حتى يسيطر التفكير السياسي، ليس فقط من أجل تسيير العلاقات بين الناس، ولكن أيضاً من أجل رعاية أنواع التفكير الأخرى في المجتمع، وبالتالي فإن مستوى رعاية التفكير الفكري والتشريعي في المجتمع يعتمد كلياً على القرارات السياسية التي تقوم بها الدولة.

وهذا يقودنا إلى الحديث عن كيفية حصول التراجع (الانحطاط). وبعبارة بسيطة، فإن التراجع هو عكس النهضة أي إنه الانحراف ومخالفة المبدأ، والانحراف الكبير عن المبدأ هو مخالفة شديدة يشعر بها جل المجتمع. ومثل النهضة، فإن التراجع ترتبط به كذلك ثلاث مراحل للتفكير، لكن ترتيبها الزمني يختلف. وبالنسبة لمجتمع ناهض فإن التراجع يبدأ بوجود ضعف في التفكير السياسي، الأمر الذي يؤدي إلى ضعف في التفكير الفكري، ومن ثم يليه ضعف في التفكير التشريعي. والشكل التوضيحي رقم (2) يوضّح طبيعة التراجع.

الشكل التوضيحي رقم (2)

صحيح أن أنواع التفكير المختلفة تتداخل في كل مرحلة من المراحل، لكن بروز التراجع في نوع واحد من أنواع التفكير بالنسبة للنوعين الآخرين هو ما يحدد طبيعة مرحلة التفكير. وبعبارة أخرى، فإن الضعف في نوع واحد من أنواع التفكير هو السبب الحقيقي في وجود ضعف واضح في أنواع التفكير الأخرى؛ ولذلك فإن الضعف في التفكير السياسي في مرحلة التفكير السياسي، يؤثر تلقائياً على التفكير الفكري والتشريعي. وعلى سبيل المثال، إذا لم توفر الدولة أموالاً كافية من أجل تثقيف مواطنيها، أو لم تحرس الأفكار بشكل صحيح من غزو الثقافة الأجنبية، فإن مستوى التفكير الفكري في المجتمع سيعاني ويتراجع. ومثل ذلك، إذا كانت الدولة تتدخل بانتظام في تعيين القضاة، أو ترعى فقط مذهباً فكرياً معيناً لكي يهيمن على المجتمع، وتضطهد أتباع المذاهب الفكرية المشروعة الأخرى، فإن التفكير التشريعي سيتأثر. في هذه الأمثلة يظهر أن الضعف في التفكير الفكري والتشريعي هو نتيجة مباشرة لقرارات سياسية غير صحيحة تنفذها الدولة.

إن هناك خاصية أخرى لكل من الانحطاط والنهضة وهي أنها دورية. وبعبارة أخرى إن عصور النهضة التي تعيشها الأمم تتخللها فترات انتكاس وتراجع، فعلى سبيل المثال، عندما احتل الصليبيون القدس لمئة عام كانت الخلافة في ذلك الوقت تعيش حالة من التراجع، وبعد ذلك عاشت في فترة نهضة قصيرة عندما طرد صلاح الدين الصليبيين، وظل الأمر كذلك حتى غزا هولاكو خان بغداد، ثم أصبحت قادرة على النهوض والعودة إلى مجدها الحقيقي بعد أن هزمت المماليك جحافل المغول.

ولكن الأمر ليس كذلك عندما يتعلق الأمر بالتراجع، فالأمة التي تعيش حالة من التراجع لا تمر عليها دائماً فترات من النهضة الكاملة، أي نهضة في جميع نواحي التفكير الفكري والسياسي والتشريعي. إن هذه المسألة تنطبق على التراجع أي الانحطاط الكامل في التفكير السياسي والفكري والتشريعي بعد أن تكون الأمة قد عاشت فترة طويلة من الانحطاط.

إلا أنه من الممكن قياس الانحطاط الكامل والنهضة إلى حد ما، وذلك بناء على حياة كاملة لأمة وواقع دولتها. فعلى سبيل المثال، إن ذروة الخلافة الراشدة تزامنت مع نهاية حكم عمر، وتلا ذلك تراجع قصير حتى انتقلت الخلافة من الخلافة الراشدة إلى الخلافة الأموية، ومن ثم انتقلت الخلافة إلى الخلافة العباسية حتى الخلافة الأخيرة (الخلافة العثمانية).

ويمكن استنتاج صورة أوضح حول واقع النهضة أو الانحطاط لأمة ما إذا تم دراسة فترة أطول من حياتها. وبالتالي، فإن المثال الذي ضربناه عن الخلافة يظهر بشكل واضح جداً أن النهضة في التفكير السياسي والفكري والتشريعي قد بلغت ذروتها في عصر الخلافة الراشدة وبلغت أدنى مستوياتها خلال الأيام الأخيرة من حياة الدولة العثمانية.

وعلى الرغم من أن الدراسة المفصلة حول تطبيق فهم التراجع على دولة الخلافة التي تم ذكرها والدول الأخرى هي خارج نطاق هذا المقال، إلا أنه من المهم تسليط الضوء على ضعف التفكير السياسي وتأثيره على الدول.

وعلى سبيل المثال، فقد استمرت الخلافة لمدة تزيد على 1300 عام حتى تم القضاء عليها في عام 1924م، إلا أن ضعف التفكير السياسي قد بدأ قبل ذلك بعدة قرون على مستوى الحكام والأمة على حد سواء. ففي عهد الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه، سُمح للكثير من الصحابة بترك المدينة والسفر إلى أجزاء مختلفة من الدولة، وكان قرار عثمان بن عفان على النقيض من قرارات سلفيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما بالحفاظ على بقاء الصحابة بالقرب منهما. وبهذا الشكل، فقد تم حل حزب رسول الله السياسي، والذي كان أول حزب سياسي إسلامي، وكان من شأن ذلك تعزيز الروح المعنوية لأعداء الإسلام، فقد كانوا يعارضون بشدة حكم عثمان بن عفان، وقد عملوا على إثارة الناس في ولايات مختلفة لكي يثوروا على الخلافة، وقد انتقلوا في نهاية المطاف إلى المدينة. لقد أدّى رفض عثمان لسحق التمرد وتفضيله الحوار مع قادة المتمردين إلى اغتياله، وسقطت بعدها الخلافة في حالة من الاضطرابات التي حاول الخليفة علي بن أبي طالب رضي الله عنه معالجتها. إن الخطأ الذي ارتكب في حل حزب الصحابة كحزب سياسي وعدم قيامه بالقضاء على المتمردين، قد فتح المجال أمام الاستيلاء على السلطة في دولة الخلافة بالقوة.

ومسألة أخرى قد صاحبت السيطرة على السلطة من خلال القوة، وهي الإساءة في أخذ البيعة (وهي العقد الشرعي الذي يتولى بموجبه الخليفة الحكم)، ففي فترة حكم معاوية بن أبي سفيان تمت الإساءة في أخذ البيعة، إذ أجبر معاوية في حياته أهل الحل والعقد على إعطاء البيعة لابنه يزيد؛ ولذلك فإن هذه القرارات السياسية الثلاثة قد أثرت بشكل خطير على الأمة الإسلامية لعدة قرون حتى ألغيت الخلافة عام 1924م، وضعفت بشدة بعض المفاهيم الإسلامية المتعلقة بالحكم، ووضع الحكم التشريعي الصحيح في غير موضعه بسبب الفهم الخاطئ. وقد وجدت كذلك قرارات سياسية أخرى سقيمة اشتملت على التوفيق بين الإسلام والفلسفات الأجنبية، وتجاهل أهمية اللغة العربية، وإغلاق أبواب الاجتهاد، والتخلي الكامل عن الجهاد، وساهمت هذه القرارات السياسية في تراجع الخلافة وإضعاف الفكر الإسلامي في عقول الناس.

دعونا نضرب مثالاً آخر على قوة كبرى قد قامت بخطأ في التقدير السياسي بخصوص مسألة سياسة خارجية مما أثر سلباً على مكانتها في العالم وعلى قدرتها على نشر ثقافتها، ألا وهي بريطانيا، فسقوطها عن مركز الدولة الأولى في العالم أصبح واضحاً بعد استقلال الهند ومن ثم فضيحة أزمة قناة السويس، فقد أثبت كلا الحدثين ليس فقط محدودية القوة البريطانية خارج حدودها، بل أيضاً أعطى الانطباع بأن بريطانيا كقوة عالمية أصبحت تتلاشى، إلا أن هذه الأحداث وغيرها – حيث إن بريطانيا قد تخلت عن استعمارها بسبب موجة مناهضة الاستعمار التي اجتاحت العالم – كانت في الحقيقة بسبب رغبة بريطانيا في إشراك أميركا في الحرب العالمة الثانية. وبسبب تقليل رئيس الوزراء البريطاني (ونستون تشرشل) ومستشاريه بشكل فاضح من قوة أميركا وتطلعاتها لتصبح الدولة الأولى، دفعت بريطانيا ثمناً باهظاً نتيجة هذا القرار السياسي في السنوات التي تلت ذلك؛ فقد فقدت العديد من مستعمراتها لصالح أميركا، وفقدت قدرتها على نشر ثقافتها وأفكارها في الخارج، وتلاشت بسبب شعبية الثقافة الأميركية وتزايد الهيمنة الأميركية، وكذلك بسبب الدور الذي تقوم به المؤسسات الدولية مثل الأمم المتحدة ومؤسسة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وغيرها، والتي تعمل فقط ضمن السيطرة الأميركية.

وفي مثالنا الأخير، سنعلق على مساومة الاتحاد السوفياتي على مبدئه عند التعامل مع الدول الأجنبية، فقد سعى الاتحاد السوفياتي في عام 1961م إلى التعايش والوفاق مع أميركا (الدولة الرأسمالية الأولى في العالم) في مخالفة صريحة لعقيدته الشيوعية. والاتفاق الذي عقد بين خروشوف وكنيدي قد ساعد في زوال الاتحاد السوفياتي من منظور فكري؛ لأن الشيوعية تقول برفض كل أشكال التعايش مع الرأسمالية. ومن خلال استبدال الوفاق مع الرأسمالية بالقضاء عليها، أدرك كثير من الناس عدم قدرة الشيوعية على تنظيم العلاقات الخارجية بين الدول.

في المقال الثالث، سيناقش الكاتب مكانة أميركا في العالم، وإذا ما كانت تتراجع حقيقةً أم أنها مجرد انتكاسة بسيطة سرعان ما تستعيد بعدها عافيتها التامة.q

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *