العدد السابع -

السنة الأولى – ربيع الآخر 1408هـ – الموافق كانون الأول 1987م

فكر إسلامي: الطريقة لازمَة ومُلزمَة

بقلم: عبد الرحمن أبو الهيجا

يعيش الإنسان في هذه الدنيا مع غيره من الناس، ويتبادل معهم المصالح ويقيم معهم العلاقات، فلا بد من تنظيم هذه العلاقات: اقتصادية كانت أو سياسية أو اجتماعية. وهذا النظام إذا لم يكن قابلاً للتطبيق، مشتملاً على طريقة لتنفيذه، كان فلسفة خيالية تبقى في بطون الكتب. فما هو النظام الأفضل لتنظيم علاقات الناس؟ وما هو السبيل لوضع هذا التنظيم موضع التنفيذ؟ وما هي الطريقة المناسبة لذلك؟

كيف نعيش؟

يشترك الناس في حياتهم في كثير من المصالح العامة، كما يتبادلون فيما بينهم كثيراً من المصالح الخاصة. وهذه المصالح – وهي ليست بالضرورة مصالح مادية – لا بد لها من تنظيم. ومن هنا تبدوا الحاجة ماسة لمبدأ يعتنقه الناس ويسيرون عليه.

والمبدأ مجموعة من الأفكار الكلية والجزئية والتكميلية. فالأفكار الكلية هي النظرة إلى الكون والإنسان والحياة وهي العقيدة التي تجيب على الأسئلة: من أين أتينا؟ ولماذا وكيف نعيش؟ وإلى أين المصير؟ والإجابة عليها تبين لنا كيف يجب أن نعيش.

والأفكار الجزئية تنبثق عن تلك العقيدة، وتتضمن معالجات ونظماً لعلاقات الناس. وأمَّا الأفكار التكميلية فهي الطريقة، وهي الأحكام التي لا تُقصد لذاتها، وإنما لتكمّل غيرها من الأفكار. فلا بد من الطريقة لبيان كيفية حمل المبدأ أو الدعوة إليه، وكيفية المحافظة عليه، وكيفية تنفيذ النظم والقوانين.

فلسفة خيالية!

فالأفكار إن كان ينقصها طريقة عملية فإنها تغدوا خيالاً يحلم به شخص أو أشخاص لا يحملونها على محمل الجد ليدعوا الناس إليها، وذلك مثل جمهورية أفلاطون التي افترض فيها أن هناك بلداً يحكمها الأذكياء، ويدافع عنها الشجعان، ويعمل فيها الصبورون كالعبيد… لكنه لم يبين كيفية الوصول إلى ذلك في الواقع العملي، فغدت ترفاً فكرياً لا طائل تحته إلا اللهو والتسلّي ومضيعة العمر في الأحلام: (بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ * حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ).

من هنا نصل إلى الحقيقة التالية: الطريقة لازمة لأي فكر حتى يصير مبدءاً يمكن تطبيقه على الناس وتنظيمهم به. وهذه الطريقة لا يعقل أن تكون كيفية، بمعنى أن تكون متروكة للآراء ولواقع الحال، بل لا بد أن تكون من جنس الفكرة والمبدأ.

والإسلام دين أنزله الله سبحانه ليسير عليه الناس في الدنيا، ويكون فيه خيرهم في الدنيا والآخرة. قال تعالى: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى). فإذا ردّه الناس خسروا الدنيا والآخرة، كما يفعلون اليوم.

فرض على الكفاية

وقد سار رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطوات متتابعة لبناء الدولة الإسلامية التي تطبّق مبدأ الإسلام ونُظُمه وأحكامه، حتى وصل إلى سدّة الحكم عشية مبايعة أهل الحل والعقد في المدينة – أي زعماء الناس ورؤسائهم – على النصرة ضدّ بقية الكيانات الكافرة، وعلى السمع والطاعة. جاء في حديث عبادة بن الصامت: «بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المَنْشَط والمَكره وعلى أثرة على أنفسنا، وعلى أن لا نُنازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان». وأهل الأمر هنا هم الخلفاء والولاة والأمراء.

ولا يخالف أحد من المسلمين في أن نصب خليفةٍ ومبايعته واجب، وأنه فرض على الكفاية، فإذا أقامه البعض سقط عن الآخرين، وإذا لم يقم لا يسقط عن أحد من المسلمين إلا من عمل منهم لإقامته. وهكذا كل فرض على الكفاية، يصبح فرض عين حتى يقوم، أو يرجح عند سائر المسلمين أن من يعمل على أدائه يستطيع أن يقيمه، وذلك مثل صلاة الجنازة والجهاد والعلم، فكلها فروض كفاية. فلو فرضنا أن المسلمين الآن يرجحون أن مسلمي فلسطين قادرون على قهر اليهود ودحرهم فلهم القعود عن الجهاد معهم، وإذا رجح لديهم العكس وجب عليهم الانضمام لهم في الجهاد، وإلا أثموا جميعاً. وما يصح على فلسطين يصح على جميع بلاد المسلمين التي يحتلها الكفار، من القرم إلى يوغوسلافيا ومن الأندلس إلى الهند والأفغان…الخ.

وأما طريقة إقامة الدولة الإسلامية فهي حكم شرعي كسائر الأحكام. والمسلمون اليوم منهم العاملون لإقامة الدولة الإسلامية ومنهم القاعدون، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية». والعاملون اليوم لم يستطيعوا أن ينصبوا خليفة ويؤدّوا هذا الفرض منذ العام 1924، ولذلك يأثم القاعدون بتركهم القيام بهذا الفرض، أسوة بسائر الفروض التي أمر الله تعالى بها كالصلاة والصوم وغيرها.

(لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا)!

ومن القاعدين من يعتذر لنفسه بأنه لا يستطيع ذلك، ويستند في ذلك إلى أدلة شرعية مثل قوله تعالى: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا)، وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا ينبغي لامرئ مسلم أن يذل نفسه. قالوا: وكيف يذلّ نفسه يا رسول الله؟ قال: يعرّض نفسه من البلاد لما لا يطيق». ومثل هذا يقول أنه عالِم يعلّم الناس الإسلام، ولا يعتني بالسياسة، ولا يعمل حزباً سياسياً أو تنظيماً.

أما الآية الكريمة: (وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ)، فهذا نص على أن الله تعالى لا يكلِّف أعمالاً إلا وهي في وُسع المكلَّف، وفي مقتضى إدراكه وبنيته، وهذا عكس المعنى الذي ألمح إليه العالِم.

والحديث الشريف يؤدّي نفس المعنى إذ يقول: «يكلّف نفسه»، وهذا خلاف أن يكلِّفه الله تعالى. ومثل ذلك أن ثلاثة من الصحابة تنافسوا في العبادة، فكان أحدهم يصوم أبداً، والثاني يقوم الليل أبداً، والثالث لا يتزوج النساء أبداً. فجاءوا بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألوا زوجه عن عبادته، فلما ذكرتها لهم فكأنهم تقالّوها وقالوا: أين نحن من رسول الله، فقد غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك غضب وخطب في الناس وقال: «أما والله إني لأتقاكم لله، وإني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنّتي فليس مني».

(حزب الرسول)

وأمّا السياسة فهي رعاية شؤون الناس، ونصب الخليفة عمل سياسي، إذ ما دور الخليفة إذا لم يكن رعايةً لشؤون الناس بالحق؟ وقد قال صلى الله عليه وسلم: «من أصبح ولم يهتمَّ بأمر المسلمين فليس منهم». وقد رعى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته طول حياته، ورعاهم الخلفاء من بعده. وقد أخبر عليه الصلاة والسلام أن الله سائلهم – أي الخلفاء – عما استرعاهم. ثم لماذا العلم إذا لم يكن للعمل به؟!

وأما أنه لم يشكل حزباً أو تنظيماً لنصب الخليفة، فالله سبحانه يقول: (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْمُفْلِحُون) ويقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ). وقد روى أبو داود والترمذي أن أبا بكر خطب بالناس فقال: إنكم تقرؤون هذه الآية فتتأوّلونها على غير تأويلها، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعذاب من عنده»، وهذا وصف للعمل الجماعي الحزبي المطلوب منّا لنؤدي فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ويقول تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ). وهذا أحد أفراد (حزب الرسول صلى الله عليه وسلم) مصعب بن عمير رضي الله عنه، فتح الله على يديه المدينة، وأقام صرح الدولة الإسلامية الأولى. وهذا أبو بكر رضي الله عنه هدى الله على يديه كثيراً من الصحابة رضوان الله عليهم، منهم أبو عبيدة وعثمان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم.

وينبغي التفريق بين فرض نصب الخليفة وفرض العلم، فكلاهما فرض على الكفاية ولا يجزئ أحدهما عن الآخر، كما لا تجزئ الصلاة عن الصوم، فالمطلوب من المكلّف كلاهما.

ماض إلى يوم القيامة

ومن العاملين من يرى الجهاد طريقة لإقامة الدولة الإسلامية. مع أن الجهاد قتال الكفار بالنفس والمال واللسان لضمّ بلادهم إلى بلاد المسلمين وفتح أبوابها أمام نور الإسلام، وكسر الحواجز المادية التي تحول دون حكم الناس بالعدل (وهو الإسلام)، وتحويل دارهم بذلك إلى دار إسلام، أو دفاعاً عن دار الإسلام كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه في غزوة الأحزاب، وكما يمكن أن يفعل المسلمون اليوم من قتال اليهود وغيرهم على ألاّ يتولوا الكافرين المستكبرين، لذلك، ورغم أن الجهاد فرض، ورغم أنه ماضٍ إلى قيام الساعة لا يعطّله عدل عادل ولا جور جائر، فإنه فرض آخر غير فرض نصب الخليفة الذي هو عمل يهدف لتغيير النظام الحاكم على المسلمين من نظام كفر إلى نظام إسلام بغضّ النظر عن شخص الحاكم، فهذا ليس عملاً شخصياً موجهاً ضد بعض الأشخاص، وإنما هو عمل تغيير القوانين والأنظمة المأخوذة من عقول البشر بقوانين وأنظمة مأخوذة من الشرع، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، حيث كانت تحتكم للطاغوت، ولما بايعوه صارت دولة إسلامية يحكمها الإسلام. ولما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابر خلفاؤه من بعده على أخذ البيعة ممن يمثلون الأمة على أن يحكموهم بالإسلام. ولا يوجد اليوم في العالم بلد يأخذ نظامه كله من الإسلام على أي من المذاهب الإسلامية، ولو ادّعى بعضهم ذلك فهم يخلطون بين الإسلام وغيره. والنظم الإسلامية والأحكام الشرعية تؤخذ من آراء الفقهاء والمجتهدين كالشافعي ومالك وأبي حنيفة وجعفر وزيد وابن حنبل وغيرهم، أو تؤخذ بدليلها باجتهاد صحيح. لذا يجب نصب خليفة يحكم المسلمين بما أنزل الله لا بما في الدستور الأميركي أو الفرنسي، ولا بشرعة هيئة الأمم أو الاشتراكية العلمية أو الدولية.

فالجهاد إذن عمل تقوم به الدولة الإسلامية ابتداءً أو المسلمون دون إذن إمام ( في حالة دفع الكفار)، وهذا غير نصب خليفة على المسلمين.

الدفاع عن الدعوة

ومن العاملين من يقول إذا تعرضت جماعتنا وهي تعمل لنصب خليفة للأذى من قبل الحكام، فلنا أن ندافع عن أنفسنا ونقاتل ونقتل من اعتدى علينا؛ واعتمدوا على أحاديث منها: «من مات دون نفسه فهو شهيد». وهذه الأحاديث موجودة في كتب الفقه في باب دفع الصائل، وقد وردت لترخص للناس أن يدفعوا الصائل على النفس والعرض والمال، ولو أدّى ذلك إلى قتله. والصائل من سفلة الناس والسارقين الذين يمتهنون القتل والسلب والنهب، وهؤلاء غير السلطان الذي يقول فيه تعالى: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا). فمن يقصد العلو والفساد كفرعون في الماضي هم الحكام المتسلطون اليوم، وهم غير الذي يقصد الفساد وحده، وهم سفلة الناس الذين لا يريدون الاستعلاء.

والدفاع عن النفس غير الدفاع عن الدعوة، فالسلطة لا تقصد حملة الدعوة لأشخاصهم ولكن لأنهم يحملون دعوة الإسلام، ولذلك لا يصلح هذا الدليل ليأخذوا منه حكماً شرعياً يأذن لهم بقتال الحاكم الظالم، بل على العكس من ذلك فقد واجه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه الأذى في مكة وقبل قيام الدول بالصبر والتحمل ورخص للضعفاء منهم بالهجرة إلى الحبشة ولم يؤمرا بالقتال.

تحكيم للعقل

ولما كان الإسلام كاملاً تامّاً: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا)، فلا يصلح قول بعض العاملين أن واقعنا غيرُ واقع الرسول صلى الله عليه وسلم، ولذلك نجتهد بعقلنا لما يناسب هذا الواقع. فالاختلاف في الواقع لا يكون في الفكرة والطريقة، ولكن في الوسائل والحوادث المتجدّدة، فقد كان الناس يسافرون على الجمال أو مشياً، وهم الآن يسافرون على متون الطائرات والسيارات، والله يعلم ذلك فعلمه محيط، وقد قال: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا)، وقد أخذ الفقهاء من ذلك أن الأصل في الأشياء الإباحة إلا إذا ورد دليل على التحريم، أما الحوادث والأعمال فالأصل فيها التقيد بالحكم الشرعي. وليس في الإسلام اجتهاد عقلي، فالاجتهاد: بذل الجهد في معرفة الأحكام الشرعية للمسائل العملية من الأدلة التفصيلية، والحكم الشرعي: خطاب الشارع المتعلق بأفعال العباد، وخطاب الشارع يؤخذ من الأدلة الشرعية وهي القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وما أرشدا إليه من إجماع الصحابة والقياس. وإصدار الأحكام بناءً على العقل وحده هو تحكيم للعقل وليس للشرع، وهو لا يختلف عن عمل الكفّار إذ يفعلون ما يرونه مناسباً، ولا يحمل معنى الإسلام الذي هو الطاعة والانقياد لله، والطاعة امتثال للأمر الذي أمر الله به: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ)، (بَلْ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي بغير دليل من الشرع يدّل عليه: (وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ). فالتحسين والتقبيح أمرٌ متروكٌ للشرع: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) والخير ليس ما يختاره الإنسان ويميل إليه، بل ما يختاره الشارع والخير والشر أو الحسن والقبح أو النفع والضرر أو الصلاح والفساد عند المسلم هو ما يدل الدليل الشرعي عليه، لا ما يميل إليه: (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ). وقد قال صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد»، أي مردود غير مقبول، وما جاء به إنسان من عقله حسب ميوله ورغباته غير ما جاء به الشرع، فلا بد من دليل على أنه جاء به الشرع. ولا يشتبهنَّ هذا بما ورد في الحديث: «من سنَّ سنَّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، لا يُنقص من أجورهم شيئاً، ومن سنَّ سنَّة سيِّئة فعليه وزرُها وَوزْرُ من عمل بها إلى يوم القيامة لا يُنقص من أوزارهم شيئاً». فالسنة العمل الذي يتبعه ويقلّده الآخرون، فإن كانت حسنة فلا بدّ من دليل من الشرع يدل على أنها حسنة، والسيِّئة كذلك تحتاج إلى دليل، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «إن على ابن آدم الأوّل كفلٌ من جريمة كلِّ قاتل إلى يوم القيامة»، فهذه سنَّة سيِّئة لأن الله حرّم القتل في كتابه. وسبب الحديث الأول يبيّن ذلك، فقد جاء بعض الناس إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في المسجد حبّاً في دخول الإسلام، وكانوا يرتدون أسمالاً بالية تُظهر عريّهم، فقام أبو بكر رضي الله عنه إلى بيته وجمع ما عنده من ثياب ووضعها أمامهم في المسجد، ففطن الصحابة لذلك ففعلوا مثله، فقال صلى الله عليه وسلم: «من سنَّ سنَّة حسنة…» الحديث. وهذا من عمل الصدقة التي ينتصب لها كثير من الأدلة.

(الغاية تبرر الواسطة)!

ومن العاملين من يقاتل مع فئة باغية ضدّ فئة باغية لأنه يرى في ذلك مصداقية للمسلمين، حيث يقوم بأعمال تجعل الناس تلتف حوله ولا يكتفي بالكلام. وهذا النوع يستعمل (الغاية تبرر الواسطة) وهي القاعدة الغربية التي جاء بها (ميكافيللي) – سيئ الذكر – وهو يقوم بعمل مبني على رأيه وظنّه ولا يدعم كلامه بدليل. مع أن الدليل يدل على عكس ذلك تماماً، حيث يقول تعالى: (فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي) والآية عامة في كل من يبغي، فلو كان الباغي فئة واحدة أو اثنتين أو عشرة، وجب على المسلمين قتالهم جميعاً وإن قاتلوا مع إحداها فإنهم يقاتلون فعلاً مع البغاة لا ضدّهم، كما طلب الله سبحانه وتعالى، وهذا عملٌ حرام.

بقيت طريقة واحدة لإقامة الدولة، وهي التي سار عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قدوتنا بوحي من الله تعالى، وهي ابتداؤه بالدعوة، ثم إعلانه ذلك لكسب الرأي العام وتغيير مفاهيم وقناعات المجتمع، ثم طلب المنعة من أهل الحل والعقد من المسلمين كما فعل مع أهل يثرب فآووه ونصروه وأقاموا دولة الإسلام الأولى.

وهذه الطريقة ملزمة للمسلمين لأنها حكم شرعي مأخوذ باجتهاد شرعي، فليبادروا إلى مرضاة الله سبحانه بتنفيذ أمره، ويتبينوا كيف لهم أن يؤدوا هذا الفرض، ولا يخلطون بينه وبين سائر الفروض المطلوبة الأخرى والحمد لله من قبل ومن بعد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *