العدد 408 -

السنة الخامسة والثلاثون، محرم 1442هـ الموافق أيلول 2020م

مع القرآن الكريم

بسم الله الرحمن الرحيم

( يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيۡنٍ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗى فَٱكۡتُبُوهُۚ وَلۡيَكۡتُب بَّيۡنَكُمۡ كَاتِبُۢ بِٱلۡعَدۡلِۚ وَلَا يَأۡبَ كَاتِبٌ أَن يَكۡتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ ٱللَّهُۚ فَلۡيَكۡتُبۡ وَلۡيُمۡلِلِ ٱلَّذِي عَلَيۡهِ ٱلۡحَقُّ وَلۡيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُۥ وَلَا يَبۡخَسۡ مِنۡهُ شَيۡ‍ٔٗاۚ فَإِن كَانَ ٱلَّذِي عَلَيۡهِ ٱلۡحَقُّ سَفِيهًا أَوۡ ضَعِيفًا أَوۡ لَا يَسۡتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلۡيُمۡلِلۡ وَلِيُّهُۥ بِٱلۡعَدۡلِۚ وَٱسۡتَشۡهِدُواْ شَهِيدَيۡنِ مِن رِّجَالِكُمۡۖ فَإِن لَّمۡ يَكُونَا رَجُلَيۡنِ فَرَجُلٞ وَٱمۡرَأَتَانِ مِمَّن تَرۡضَوۡنَ مِنَ ٱلشُّهَدَآءِ أَن تَضِلَّ إِحۡدَىٰهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحۡدَىٰهُمَا ٱلۡأُخۡرَىٰۚ وَلَا يَأۡبَ ٱلشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُواْۚ وَلَا تَسۡ‍َٔمُوٓاْ أَن تَكۡتُبُوهُ صَغِيرًا أَوۡ كَبِيرًا إِلَىٰٓ أَجَلِهِۦۚ ذَٰلِكُمۡ أَقۡسَطُ عِندَ ٱللَّهِ وَأَقۡوَمُ لِلشَّهَٰدَةِ وَأَدۡنَىٰٓ أَلَّا تَرۡتَابُوٓاْ إِلَّآ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً حَاضِرَةٗ تُدِيرُونَهَا بَيۡنَكُمۡ فَلَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَلَّا تَكۡتُبُوهَاۗ وَأَشۡهِدُوٓاْ إِذَا تَبَايَعۡتُمۡۚ وَلَا يُضَآرَّ كَاتِبٞ وَلَا شَهِيدٞۚ وَإِن تَفۡعَلُواْ فَإِنَّهُۥ فُسُوقُۢ بِكُمۡۗ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱللَّهُۗ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ ٢٨٢).

جاء في كتاب التيسير في أصول التفسير لمؤلفه

عطاء بن خليل أبو الرشته أمير حزب التحرير حفظه الله ما يلي:

بعد أن ذكر الله سبحانه النفقة في سبيل الله، وأن لا يكون منٌّ ولا أذى فيها ولا رياء، وأن تكون من الحلال الطيب وليس من الخبيث، وبعد أن بيّن الله سبحانه الإخلاص في النفقة ابتغاء وجه الله وأجرها العظيم بالليل والنهار وفي السر وفي العلانية.

بعد ذلك ذكر الله الربا وعظم جريمته وتحريمه الشديد، وأن ليس لأهله إلا رؤوس أموالهم لا يظلمون غيرهم بالربا ولا يُظلمون بذهاب رأس مالهم.

ثم ذكر سبحانه بعد ذلك إمهال المدين والصدقة عليه بإعفائه من دينه كله أو بعضه.

بعد ذلك ذكر الله أحكامًا تتعلق بالدين في الحضر والسفر:

أمر الله سبحانه المؤمنين إذا تعاملوا بالدَين أن يكتبوا دينهم ويُشهدوا عليه رجلين، أو رجلًا وامرأتين طاعة لله وحفظًا لدَيْنهم، وحَثَّهم على ذلك مهما كان صغيرًا أو كبيرًا ما دام تعاملًا بالدين، ودفع عنهم الحرج إن كان بيعًا حاضرًا.

كما حرَّم الله سبحانه أن يؤذى الشهود، أو من يكتبون الدَّيْن، كأن يُضغط عليهم أو يكرهوا لتغيير الوقائع، وأمرهم الله سبحانه أن يلتزموا الشرع في ذلك، ويدركوا أن الله لا تخفى عليه خافية فهو سبحانه عالم الغيب والشهادة (وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ ٢٨٢).

(يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ ) خطاب للمؤمنين.

(إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيۡنٍ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗى) إذا تعاملتم بالدين.

و(الدَيْن) كل معاملة بيع يكون فيها أحـد العـوضـين حاضرًا والآخر غائبًا، وينطبق هذا على القرض كأن تعطي رجلًا مالًا ليسدده لك فيما بعد فهذا دين كذلك، وعلى كل بيع إن سُلِّمتِ السلعةُ وأُجِّل الثمنُ كدين على المشتري كما تشمل بيع السـلم كذلك بأن يعـجـل الثمن وتسـلم السـلعة بعد أجل، كل ذلك يدخل تحت مدلول (الدَين).

(بِدَيۡنٍ) تأكيد إلى (إِذَا تَدَايَنتُم) وفيه زيادة فائدة أن يرجع إليه الضمير في (فَٱكۡتُبُوهُۚ ) فلو لم يذكر (بِدَيۡنٍ) وقيل (إذا تداينتم إلى أجل مسمى) لذكر(فاكتبوا الدين) بدل(فَٱكۡتُبُوهُۚ  ) وهنا لا يكون النظم بذلك الحسن كما في الآية الكريمة عند ذوي الذوق العارف بأساليب الكلام.

(إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗى) أي إلى وقت معلوم.

وأخرج البخاري عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أنه قال: «أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى أن الله تعالى أحلَّه وأذن فيه. ثم قرأ الآية» والسلف والسلم بمعنى واحد.

وأخرج ابن جرير عن ابن عباس – رضي الله عنهما – (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيۡنٍ ) قال: نزلت في السلم في كيل معلوم إلى أجل معلوم.

ونزول الآية في السلم لا يمنع أن تنطبق على كلّ دين؛ لأن لفظ {دين} ورد في الآية مطلقًا دون قيد إلا تقييده بالأجل المسمى، فكل دين في بيع السلم أو غيرها يأمر الله سبحانه بكتابته.

(فَٱكۡتُبُوهُۚ ) أمر من الله سبحانه بكتابته، والأمر يفيد الطلب، وقد وردت أقوال في هذه الكتابة إنها للوجوب أو الندب أو الإباحة المتضمن معنى الإرشاد، وهذه الأخيرة تعني عند قائليها أن فيها مصلحة دنيوية راجحة أي أن هذا المباح (الكتابة) أولى من غيره لحفظ الدَين والابتعاد عن التنازع.

وحيث إنَّ الأصل في الأمر (الطلب) والقرينة هي التي تعين الحكم الشرعي للوجوب أو الندب أو الإباحة، فإنه بتدبر الآية الكريمة يتبين ما يلي:

أ‌. لا توجد قرينة تفيد الطلب الجازم من حيث ترتيب العقوبة على عدم الكتابة أو أية قرينة جازمة حسب ما هو معروف في الأصول، فلا تكون الكتابة فرضًا.

ب. هناك قرائن تفيد ترجيح الكتابة من عدمها:

= (وَلَا يَأۡبَ كَاتِبٌ أَن يَكۡتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ ٱللَّهُۚ ).

= (فَلۡيَكۡتُبۡ وَلۡيُمۡلِلِ ٱلَّذِي عَلَيۡهِ ٱلۡحَقُّ وَلۡيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُۥ وَلَا يَبۡخَسۡ مِنۡهُ شَيۡ‍ٔٗاۚ ).

= (وَلَا تَسۡ‍َٔمُوٓاْ أَن تَكۡتُبُوهُ صَغِيرًا أَوۡ كَبِيرًا).

= (ذَٰلِكُمۡ أَقۡسَطُ عِندَ ٱللَّهِ).

= (وَأَقۡوَمُ لِلشَّهَٰدَةِ وَأَدۡنَىٰٓ أَلَّا تَرۡتَابُوٓاْ).

وكل هذه تفيد أن الكتابة أرجح من عدمها.

إلا أن بعضها يفيد أن الترجيح لمصلحة دنيوية مثل: (وَأَقۡوَمُ لِلشَّهَٰدَةِ وَأَدۡنَىٰٓ أَلَّا تَرۡتَابُوٓاْ ) فهي لقطع التنازع في الحق، وأفضل لأنها تؤكد قول الشهداء وتيسر الأمر عليهم.

ولو اقتصرت على ذلك لأفادت الإباحة المتضمنة للإرشاد، غير أن بعضها يفيد أن الترجيح للثواب أي للندب مثل قوله سبحانه: (ذَٰلِكُمۡ أَقۡسَطُ عِندَ ٱللَّهِ).

وهذه قرينة على أن الأمر بالكتابة هو للندب، وبالتالي يكون المعنى:

الندب للمؤمنين أن يكتبوا الدين الواقع بينهم والمؤجل سداده إلى وقت محدد معلوم.

أما الدين المؤجل سداده إلى وقت غير محدد فليس مندوبًا كتابته بل هو على الإباحة؛ وذلك لأمرين:

الأول: إن الآية قيدت الدَين المندوب كتابته بأجل مسمى وهو وصف مفهم فله مفهوم ويعمل به، أي أن الأمر بالكتابة على الوجه المبين في الآية لا يشمل الدَين لأجل غير مسمى.

الثاني: إن الله في الآيـة التالية يـقـول:(فَإِنۡ أَمِنَ بَعۡضُكُم بَعۡضٗا فَلۡيُؤَدِّ ٱلَّذِي ٱؤۡتُمِنَ أَمَٰنَتَهُۥ ) أي أن هذه الحـالة وهي أن يأتمـن الدائـن والمدين بعضهما بعضًا مستثناة من الأمر بالكتابة على الوجه المبيَّن في الآية، بل على الإباحة: إن شاء كتب، وإن لم يشأ لم يكتب.

والذي يعامل غيره بالدَّين ولا يحدد له أجلًا للسداد أي يقول له: أدّ إلي الدين في الوقت الذي تريد يكون داخلًا تحت قوله سبحانه (فَإِنۡ أَمِنَ بَعۡضُكُم بَعۡضٗا) لأنه لا يترك للمَدين سداد الدين في أي وقت يشاء إلا أن يكون مؤتمنًا له.

وهكذا تكون الآية مبينة:

أ‌. أن الحكم الشرعي بكتابة الدين المؤقت سداده بوقت معلوم هو الندب.

ب. والحكم الشرعي بكتابة الدين في حالة كون كل من الدائن والمدين قد ائتمنوا بعضهم بعضًا، هو الإباحة: إن شاؤوا كتبوا، وإن لم يشاؤوا لا يكتبوا.

ويدخل في ذلك الدَين غير المؤقت سداده بوقت معلوم؛ حيث إن هذا يعني أنهم قد ائتمنوا بعضهم.

والآية لا تبيِّن حكم تسمية الأجل لسداد الدين، فهذه تتعلق بكل حالة من حالات الدين وتدرس نصوص كلّ حالة، فمثلًا في بيع السلم، فإن تعيين الأجل وتحديده شرط في صحة بيع السلم فيجب أن يكون الأجل معلومًا علمًا ينفي عنه الجهالة كأن يدفع الثمن عاجلًا ويقال: تسليم السلعة – القمح مثلًا – في تاريخ كذا بتحديد ينفي الجهالة، ذلك لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم المشار إليه سابقًا الذي أخرجه البخاري ومسلم عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وهم يستلِفون في الثمار السنتين والثلاث، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أسلف في ثمر فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم»)1( فجعله صلى الله عليه وسلم شرطًا في بيع السلم.

(وَلۡيَكۡتُب بَّيۡنَكُمۡ كَاتِبُۢ بِٱلۡعَدۡلِۚ ) (الباء) إمـا متـعـلـقـة بـ(وَلۡيَكۡتُب) أو بـ(كَاتِبُۢ ).

فإن كانت على الأول أي وليكتب بالعدل بينكم كاتب، أي أن المطلوب أن تكون الكتابة بالعدل وإن لم يكن الكاتب عدلًا، أي لو كان غير مسلم وكان جيدًا في الكتابة غير متحيز مأمونًا، فإن ندب الكتابة يتحقق به.

وإن كانت على الثاني – أي تعلقت الباء بالكاتب – فإن المعنى يكون: وليكتب بينكم كاتب عدل: أي أن يكون الكاتب عدلًا، وهذا يعني مسلمًا غير ظاهر الفسق، يتقي الله في كتابته، يفقه ما يكتب ويحسنه.

والراجح هو الثاني بقرينة ما جاء بعدها ( وَلَا يَأۡبَ كَاتِبٌ أَن يَكۡتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ ٱللَّهُۚ ) والذي لا يرفـض أن يكـتـب لأن الله علمه الكتابة ومَنَّ عليه من فضله هو المسلم العدل.

ولذلك يكون المعنى (وليكتب بينكم كاتب صفته أنه عدل، أي مسلم غير ظاهر الفسق فقيه لما يكتب مأمون فيه).

وأما ذكر ( بَّيۡنَكُمۡ) للدلالة على أن الكاتب مختار من الطرفين غير متحيز لأحدهما وأن يكون غيرهما، أي أن لا يكون الكاتب أحد الطرفين ولا مرتبطًا أو متحيزًا لأحد الطرفين، بل يكتب ( بَّيۡنَكُمۡ ) فهو كاتب محايد.

( وَلَا يَأۡبَ كَاتِبٌ أَن يَكۡتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ ٱللَّهُۚ ) لا يرفض الكاتب أن يكتب، والرفض هنا على الكراهة؛ لأن النهي عن رفض الكتابة لم تصحبه قرينة جازمة فهو نهي غير جازم أي مكروه.

(كَمَا عَلَّمَهُ ٱللَّهُۚ ) أي لا يرفض الكتابة بل يكتب بسبب أن الله مَنَّ عليه بتعليم الكتابة، فيساعد الآخرين بالكتابة لهم شكرًا لله على توفيقه له بتعلم الكتابة بعد أن لم يكن يعلمها، وهذه كما قلنا قرينة على أن الكاتب المخاطب مسلم عدل يدرك نعـمـة الله عليه بتعـليمه الكتابة؛ ولذلك فعلى الدائن والمدين أن يختارا كاتبًا عدلًا للكتابة بينهما.

( فَلۡيَكۡتُبۡ ) أمر بالكتابة، وهو على الندب بدلالة ذكر الله قبلها ( أَن يَكۡتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ ٱللَّهُۚ) أي كما علمه الله الكتابة بعد أن لم يكن يعلمها؛ فليحسن للآخرين بالكتابة إليهم إن كانوا في حاجة إليه.

(وَلۡيُمۡلِلِ ٱلَّذِي عَلَيۡهِ ٱلۡحَق) وهو كذلك مندوب لأن الكتابة بناء عليه.

(فَلۡيَكۡتُبۡ وَلۡيُمۡلِلِ ٱلَّذِي عَلَيۡهِ ٱلۡحَقُّ) وتذكيره بالتقوى يؤكد الندب كذلك (وَلۡيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُۥ وَلَا يَبۡخَسۡ مِنۡهُ شَيۡ‍ٔٗاۚ ).

(وَلۡيُمۡلِلِ) من الإملال أي الإلقاء على الكاتب ما يكتبه، وفعله أمللت.

( ٱلَّذِي عَلَيۡهِ ٱلۡحَقُّ ) أي المدين، فهو الذي يذكر للكاتب الدَين الذي عليه زيادة في التوثيق، فاعتراف المدين بالدين أقوى من ادّعاء الدائن أن له دينًا، فالمدين هو الذي يملل على الكاتب.

(وَلۡيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُۥ) تذكير له بتقوى الله وحثّ له على الصدق في القول وتحرِّي الحقّ فيما يقول.

(وَلَا يَبۡخَسۡ مِنۡهُ شَيۡ‍ٔٗاۚ ) أي لا ينقص من الحق شيئًا، وذكر (شَيۡ‍ٔٗاۚ ) وتنكيرها للدلالة على عدم تنقيص أي جزء من الحق مهما كان قليلًا.

(فَإِن كَانَ ٱلَّذِي عَلَيۡهِ ٱلۡحَقُّ سَفِيهًا) أي إذا كان الـمَدين (سَفِيهًا) والسفيه الجاهل خفيف العقل بذيء اللسان، وهي هنا (بذيء اللسان) وهو الذي إن ترك له الإملال على الكاتب سيأتي كلامه سيئًا.

يقول: سافهه: شاتمه، وفي المثل: سفيه لم يجد مسافهًا، فالسفيه بذيء اللسان.

(أَوۡ ضَعِيفًا) أي ضعيف الرأي لا يستطيع ترتيب الأمور أو إخراج الكلام على نسق، فإن ترك له الإملال فقد يقدم أو يؤخر أو يأتي بالكلام مضطربًا فيفسد المعنى.

(أَوۡ لَا يَسۡتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ) أي لا يمكنه الحديث الواضح لعيّ في لسانه أو خرس كما روي عن ابن عباس – رضي الله عنهما -.

وما قلناه سابقًا هو الراجح لدينا وذلك لأن الآية تفيد:

أ. إن الأصناف التي تمنع من الإملال لا يمنع تعاملها بالدَّين لأن الآية تبدأ ( َٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيۡنٍ ) فتعاملهم بالدَّين صحيح شرعًا، وعليه لا يصحّ أن يكون في تفسير (سَفِيهًا أَوۡ ضَعِيفًا أَوۡ لَا يَسۡتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ) مثل المجنون أو المحجور عليه أو الصغير الذي لا تصح عقوده أو أمثالهم.

ب. كذلك فإن تفسير هذه الأصناف بالغائب مرجوح كذلك لأن الآية ترجح وجود الـمَدين لكنه لا يستطيع الإملال (وَلۡيُمۡلِلِ ٱلَّذِي عَلَيۡهِ ٱلۡحَقُّ وَلۡيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُۥ وَلَا يَبۡخَسۡ مِنۡهُ شَيۡ‍ٔٗاۚ فَإِن كَانَ ٱلَّذِي عَلَيۡهِ ٱلۡحَقُّ سَفِيهًا أَوۡ ضَعِيفًا أَوۡ لَا يَسۡتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلۡيُمۡلِلۡ وَلِيُّهُۥ بِٱلۡعَدۡلِۚ).

ج. لا يصحّ تفسير الأصناف الثلاثة أو صنفين مثلًا بمعنى واحد لأن الآية تدل على أنهم أصناف ثلاثة، وكلّ صنف غير الآخر (سَفِيهًا أَوۡ ضَعِيفًا أَوۡ لَا يَسۡتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ ).

د. أن يكون للتفسير أصل في اللغة.

وبناء عليها أقول: إن ما ذكرته في التفسير هو الراجح فيها.

وهذه الأصناف الثلاثة تُمنع من الإملال على الكاتب وُيملي على الكاتب بدلًا منها وليهم.

وعلى الولي في هذه الحالة أن يُملي بالحق عمَّن ولاَّه فلا يغير شيئًا من الحق الذي على وليه لا بالزيادة ولا بالنقصان بل يملي بالحق، والحق وحده فهو قائم مقام المدين.

(هُوَ فَلۡيُمۡلِلۡ وَلِيُّهُۥ بِٱلۡعَدۡلِۚ ) الضمير هنا عائد إلى من عليه الحق أي المدين، فهو يعني (ولي المدين).

(بِٱلۡعَدۡلِۚ) يعود على الإملال لأن الولي وبخاصة الشرعي منه محدد في الشرع كأبيه أو ابنه أو أخيه أو ما يقرره الشرع، وحيث قد عُيِّن الولي فيصبح المطلوب أن يملل هذا الولي على الكاتب بالعدل أي بالحق والصدق.

(وَٱسۡتَشۡهِدُواْ شَهِيدَيۡنِ مِن رِّجَالِكُمۡۖ فَإِن لَّمۡ يَكُونَا رَجُلَيۡنِ فَرَجُلٞ وَٱمۡرَأَتَانِ مِمَّن تَرۡضَوۡنَ مِنَ ٱلشُّهَدَآءِ أَن تَضِلَّ إِحۡدَىٰهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحۡدَىٰهُمَا ٱلۡأُخۡرَىٰۚ).

يبين الله سبحانه أن يُشهد الطرفان على الكتابة رجلين أو رجلًا وامرأتين لتذكر إحداهما الأخرى إن نسيت بعض الوقائع.

وأن يكون الشهداء عدولًا وذلك بدلالة (مِن رِّجَالِكُمۡۖ) أي منكم وبدلالة (مِمَّن تَرۡضَوۡنَ مِنَ ٱلشُّهَدَآءِ) وحيث إنَّ الخطاب من بدايته للمؤمنين، أي أن يكون الشهداء ممن يرضاهم المؤمنون، وهذا يعني أن يكونوا عدولًا مسلمين أي أن الإسلام ظاهر عليهم في تصرفاتهم، وأن يكون الفسق – مخالفة أحكام الإسلام – غير ظاهر عليهم، فهم بذلك يكونون عدولًا تقبل شهادتهم.

(فَرَجُلٞ وَٱمۡرَأَتَانِ) رجل رفع على الابتداء (وَٱمۡرَأَتَانِ) معطوف عليه، والخبر محذوف أي إن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان يقومون مقامهما، وهي تفيد كذلك أن شهادة امرأتين مع رجل تقبل سواء كان هناك رجال أم لا، أي إن لم يأتِ الطالب برجلين فليأتِ برجل وامرأتين، فإن أتى بأي الحالتين جاز وليس المعنى أن جواز شهادة رجل وامرأتين لا تصح إلا مع عدم الرجال؛ لأنها لو كانت كذلك لكانت الآية (فإن لم يكن رجلان فرجل وامرأتان) وتكون (كان) تامة بمعنى إن لم يوجد لكن (فإن لم يكونا رجلين) أي إن لم يأتِ بشاهدين رجلين فله أن يأتي بشهود رجل وامرأتين.

(أَن تَضِلَّ إِحۡدَىٰهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحۡدَىٰهُمَا ٱلۡأُخۡرَىٰۚ) أي إن شهادة امرأتين مكان واحدة لأجل أن تذكر الواحدة الأخرى لو نسيت جزءًا من الوقائع.

(أَن تَضِلَّ) في محل نصب مفعول لأجله.

وتكرار (إحداهما) بدل القول (أن تضل إحداهما فتذكر الأخرى) وذلك للمبالغة في الاحتراز عن توهم اختصاص الضلال – بإحداهما – بعينها والتذكير بالأخرى بل المقصود أن التي تنسى تذكرها الأخرى وقد تكون هذه أو تلك.

(أَن تَضِلَّ) أي أن تنسى، والضلال عن الشهادة إنما هو نسيان جزء منها وذكـر جـزء ويبقى المرء حيران بين ذلك ضالًا، ومن نسي الشهادة جملة فليس يقال ضلّ فيها.

ومن الجدير ذكره أن قبول شهادة النساء في المعاملات المالية جعلها الله سبحانه بهذه الكيفية اثنتين مقام واحد من الرجال، ودلالة الآية (فَإِن لَّمۡ يَكُونَا رَجُلَيۡنِ فَرَجُلٞ وَٱمۡرَأَتَانِ مِمَّن تَرۡضَوۡنَ مِنَ ٱلشُّهَدَآءِ أَن تَضِلَّ إِحۡدَىٰهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحۡدَىٰهُمَا ٱلۡأُخۡرَىٰۚ) تفيد أن احتمال نسيان النساء كشاهدات في وقائع المعاملات المالية أكبر من احتمال نسيان الرجال ولعل ذلك بسبب قلة تواجد النساء في المعاملات المالية، فحضورهن لجميع الوقائع المالية أقل من تواجد الرجال وحضورهم، فكانت اثنتان تكملان شهادة بعضهما إن نسيت واحدة بعض الوقائع أو فاتها الحضور الكامل لها ذكرتها الأخرى وأكملت الشهادة، وهي في هذه الحالة كأنها بعدم متابعتها أحداث الواقعة المالية بحذافيرها تقوم مع أختها مقام رجل واحد لمتابعته أحداث الواقعة بدرجة أكبر وذلك بسبب اختلاف واقع حضور الرجال والنساء كشهود على الوقائع المالية الجارية، لأن الشهادة يجب أن تكون بناء على حضور واضح لا لبس فيه للواقعة.

ويؤكد ذلك أن شهادة النساء، واحدة أو أكثر، في الأمور التي توجد فيها النساء عادة كالولادة والإرضاع وأمثالها، هي المعتمدة.

(وَلَا يَأۡبَ ٱلشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُواْۚ) أي إذا دُعي الشهود ليشهدوا على كتابة الديـن فليلبوا ولا يرفضوا، والنهي هنا للكراهة لعدم وجود قرينة تفيد الجزم فهو نهي غير جازم.

أي يكره لمن دعي ليشهد على كتابة الدين فرفض ولم يذهب.

(وَلَا تَسۡ‍َٔمُوٓاْ أَن تَكۡتُبُوهُ صَغِيرًا أَوۡ كَبِيرًا) أي لا تضجروا من كتابة الدين إلى أجله مهما كانت قيمة الدين، وهذا ترغيب على الكتابة.

(ذَٰلِكُمۡ أَقۡسَطُ عِندَ ٱللَّهِ) أي أعدل.

(وَأَقۡوَمُ لِلشَّهَٰدَةِ ) أثبت لها.

(وَأَدۡنَىٰٓ أَلَّا تَرۡتَابُوٓاْ) أي أقرب إلى انتفاء الريب والشك.

وهذه كلها (ذَٰلِكُمۡ أَقۡسَطُ عِندَ ٱللَّهِ وَأَقۡوَمُ لِلشَّهَٰدَةِ وَأَدۡنَىٰٓ أَلَّا تَرۡتَابُوٓاْ ) قرينة – كما بيَّنا سابقًا -.

(إِلَّآ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً حَاضِرَةٗ تُدِيرُونَهَا بَيۡنَكُمۡ فَلَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَلَّا تَكۡتُبُوهَاۗ ) استثناء منقطع بمعنى (ولكن إذا كانت تجارةً حاضرةً بينكم يدًا بيدٍ لا دَين فيها ولا حرج عليكم ألا تكتبوها أي مباح لكم الكتابة وعدمها).

( وَأَشۡهِدُوٓاْ إِذَا تَبَايَعۡتُم) وهو عائد على التجارة الحاضرة والأمر هنا على الإباحة لأنه خلو من القرائن وليس قربة، فالشهادة على التجارة الحاضرة مباحة.

(وَلَا يُضَآرَّ كَاتِبٞ وَلَا شَهِيدٞۚ) أي لا يؤذى أي منهما سواء بإجبارهما عليها أو الضغط عليهما للكتابة والشهادة بغير الحقيقة أو إثقال كاهلهما بالحضور للشهادة بما يشق عليهما سواء من حيث النفقة أم المشقة، بل معاملتهما بالحسنى والتيسير عليهما.

ومضارة الكاتب والشهود هنا على التحريم بقرينة (وَإِن تَفۡعَلُواْ فَإِنَّهُۥ فُسُوقُۢ بِكُمۡۗ ) فهو وصف مفهم يفيد النهي الجازم عن المضارة أي أنها حرام.

(وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ ) أي قوا أنفسكم غضب الله وعقابه واخشوه سبحانه.

(وَيُعَلِّمُكُمُ ٱللَّهُۗ ) أي يعلمكم أحكام شرعه فالتزموها.

(وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ٢٨٢) فهو سبحانه لا تخفى عليه خافية فيعلم حقائق الأمور ويجزيكم بكل ما تعملون.

ولا يقال إن لفظ الجلالة (ٱللَّهُۗ ) قد ورد مكررًا (وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱللَّهُۗ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ ٢٨٢) فإن هذا ليس تكرارًا مجردًا، بل كلّ منهما بمعنى مستقل زيادة في تعظيم الله سبحانه وعلوّ شأنه، فهو سبحانه أهل التقوى، وهو الذي يستند العلم إليه. فكلّ علمٍ بما منَّهُ الله على عباده مما خلقه في الأشياء وفيهم من خصائص ومكونات وإمكانيات فطرية وعقلية لتعلم ما لم يكونوا يعلمونه، فهو سبحانه صاحب المنة بالعلم على مخلوقاته.

وفي ختام الآية اختصاص الله سبحانه بالعلم الأزلي الذي يحيط بكل شيء فلا يعزب عنه مثقال ذرة في السماء ولا في الأرض.

ولذلك فتكرار اسمه سبحانه (ٱللَّهُۗ ) – جل جلاله – ليس تكرارًا مجردًا، بل كلٌّ بمعنى مستقل، وهو في الوقت نفسه متصل بالمعاني الأخرى في نظم عظيم يأخذ بالألباب، فسبحان الله خالق الأرض والسماء وكل شيء عنده بمقدار!.

(1)           البخاري: 2085، مسلم: 3010، النسائي: 3004، ابن ماجه: 2271

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *