العدد 329 -

السنة الثامنة والعشرون جمادى الثاني 1435هـ – نيسان 2014م

«عدالة الإسلام في توزيع الثروة»

بسم الله الرحمن الرحيم

«عدالة الإسلام في توزيع الثروة»

حمد طبيب – بيت المقدس

قبل الحديث عن عدالة الأحكام الشرعية المتعلقة «بتوزيع الثروة بين الناس»، وما يقابلها من أحكام بشرية ظالمة نقول ابتداءً: بأن الله عز وجل قد قدر في الأرض أقواتها بما يكفي حاجة الإنسان ويزيد على ذلك أضعافاً كثيرة، قال تعالى: ( قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11)  فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) )

وهذا الأمر _ تقدير الأقوات _ مرتبط بموضوع مهم وهو: « تمكين الإنسان من تحقيق معنى العبودية بالشكل الصحيح» وهذا طلبه الحق تبارك وتعالى من الإنسان بقوله: ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ )

فالله سبحانه وتعالى قد خلق في هذه الأرض ما يعين الإنسان، ويمكنه من تحقيق هذه العبودية؛ فخلق له العقل والإدراك والسمع والبصر والقوة والحواس، وخلق له كذلك رزقه الذي يساعده على استمرارية العيش حتى يبلغ أجله الذي أجله له في هذه الحياة الدنيا، قال تعال: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33)  وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ )، وقال عليه الصلاة والسلام: «إن روح القدس نفث في روعي أن نفساً لن تموت حتى تستكمل أجلها وتستوعب رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملن أحدكم استبطاء الرزق أن يطلبه بمعصية الله، فإن الله تعالى لا يُنال ما عنده إلا بطاعته» صحيح الجامع…

والحقيقة أنه لو نظرنا في الثروات الموجودة على سطح الأرض أو في جوفها أو في البحار لوجدناها كثيرة، تكفي لهذا الإنسان وتزيد عن ذلك ملايين المرات، ونرى كذلك أن المستغل من هذه الثروات هو القليل القليل من حجمها العظيم _ قال تعالى ( أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ )

ولكن رغم كثرة الثروات وتنوعها وتعددها على ظهر المعمورة، وعظم حجمها إلا أن الإنسان لا يجد ما يقيته أحياناً، بل إن الآلاف من الناس يموتون جوعاً في كل عام على وجه البسيطة !!!،. فقد ذكرت العربية بتاريخ 26- 5-2012م : «إن عدد الجوعى في العالم يبلغ 925 مليون إنسان يعيش غالبيتهم في جنوب آسيا وأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى…» وفي تقرير لمنظمة الأغذية العالمية «تليفوود» التابع لـ«منظمة الفاو» في 23 -1 -2010م  أنه في كل دقيقة يموت عشرة أطفال، أي بمعدل طفل كل ست ثوان بسبب الجوع، وفي الوقت الذي يتم فيه التركيز بشكل مبالغ على الحديث عن إنفلوانزا الخنازير بينما هناك 17 مليون جائع يموتون كل عام. ونشر رئيس مجموعة البنك الدولي (جيم يونغ كيم) بياناً عن الفقر المدقع في العالم جاء فيه: «إنه مازال هناك 1.2 مليار شخص يعيشون في فقر مدقع، على أقل من 1.25 دولار في اليوم، ورغم ذلك التقدم المبهر فمازالت أفريقيا جنوب الصحراء تشكل أكثر من ثلث سكان العالم الذين تشملهم دائرة الفقر المدقع!!. وقال محللون في معهد بحوث كريدي سويس في تقرير «الثروة العالمية» إن متوسط الثروة العالمية بلغ الذروة عند 51600 دولار للفرد البالغ، لكنه موزع بتفاوت شديد، إذ يملك أغنى 10% ما نسبته 86% من تلك الثروة، ويملك أغنى 1% في العالم 46%، أي ما يقدر بحوالي 110.8 تريليون دولار من إجمالي الأصول العالمية. وقال التقرير إن الثروة العالمية ستقفز 40% بحلول 2018م إلى 334 تريليون دولار. وتتركز الدول الأكثر ثراء – التي يزيد فيها متوسط ثروة الفرد البالغ على 100 ألف دولار – في أميركا الشمالية وغرب أوروبا والمناطق الغنية في آسيا والمحيط الهادي والشرق الأوسط… وعلى صعيد إجمالي الثروة بمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، أشار تقرير كريدي سويس الذي نقلته “العربية نت” عن صحيفة اليوم السعودية، إلى أن الثروات العائلية بالسعودية احتلت المركز الأول بما يقدّر بـ 600 مليار دولار، تلتها مباشرة الإمارات بنحو نصف تريليون دولار. واحتلت مصر المركز الثالث بنحو 400 مليار دولار، يتضح من خلال التقرير أن 90% من شعوب العالم أجمع تدور كلها في فلك ثروة تقدر بنسبة 14% من ثروات العالم أجمع.

فما هو السبب وراء هذه الكوارث الكبيرة والمصائب العظيمة ؟! إنه بكل تأكيد ليس نقص الثروة ولا قلتها، فهي كثيرة كما قلنا، وإن السبب وراء ذلك هو الإنسان الذي خالف منهج ربه عز وجل في كيفية توزيع هذه الثروات العظيمة، فوضع قوانين من عقله فتسببت في استحواذ طائفة من الناس على معظم الثروات الطبيعية ، وتركت بعض الناس يأخذون بعض الفتات أو حتى لا يأخذون شيئاً في بعض المناطق!!

فلو نظرنا إلى واقع حياة الناس في عهد الكنيسة في أوروبا -في عصر الانحطاط والظلم-، لرأينا كيف كان قسم من رجال الدين والأباطرة والملوك يستحوذون على ثروات الناس، ويجعلون القسم الأغلب أو الأكثر من الناس عبارة عن عبيد في مزارعهم وفي أماكن أعمالهم. ومن كان يرفض أو يتصدى لهذا الأمر كان مصيره الموت؛ لأنه يعتبر متمرداً على قوانين الكنيسة… وهذا النظام من الظلم قد ساد أيضاً في مناطق كثيرة من العالم، قبل مجتمع الكنيسة في عهد الرومان والفراعنة المصريين وغيرهم..

 وبعد أن تخلص الناس في أوروبا من ظلم الكنيسة في العصور الوسطى، وبدأوا بالانعتاق من هذه العبودية المذلّة، والتحرر من شرورها وجهالتها، جاءوا بهذا النظام الشرير المسمى «بالنظام الرأسمالي» الناتج عن عقيدة فصل الدين عن الحياة» ومعها فكرة الحل الوسط»؛ ووضعوا أحكاماً من عقولهم تتعلق بالاقتصاد وشؤون المال والأعمال وجميع مناحي الحياة، وظنوا أنفسهم أنهم قد تخلصوا من الظلم، وانعتقوا من السيطرة الدينية وتحكّمها في لقمة عيشهم، وإذا بهم يجدون أنفسهم في وضع أسوأ مما كان، من جميع النواحي؛ السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها…

وتعدّى هذا الظلم الاقتصادي خارج حدود هذه الدول الرأسمالية لينشر فساده وظلمه في مناطق عديدة في العالم، وخاصة في بلاد الشعوب الضعيفة والفقيرة؛ فنهب ثرواتها الطبيعية وتحكم في أسواقها وأعمالها وأموالها من خلال النظرة الاستعمارية المبنية على النظرة المادية السقيمة، مما تسبب بكوارث اقتصادية ومجاعات في هذه البلاد.

والحقيقة أن السبب المباشر في هذا الظلم الاقتصادي الموجود في النظام الرأسمالي وغيره من نظم سقيمة هو أن هذا النظام قد انتجته عقول بشرية عاجزة ناقصة محتاجة، لا تعرف ما يحقق العدل ويصرف الظلم عن الإنسان؛ لأن الإنسان بعقله عاجز عن معرفة ما يسعده، وما يشقيه لأنه يجهل تركيبة نفسه، ويجهل أيضاً الأمور التي يمكن أن تجلب السعادة، والأمور التي يمكن أن تجلب الشقاء؛ وهذا مصداق لقوله تعالى:(كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ )، وقوله: ( أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15))

وهذا الموضوع الذي نحن بصدد الحديث عنه شاهد حاضر على ظلم الإنسان، وظلم قوانينة السقيمة في توزيع الثروة؛ سواء أكان ذلك في بلاد المسلمين، أو خارج بلاد المسلمين؛ من الدول الرأسمالية أو بقايا النظم الاشتراكية أو غيرها.

فمن ينظر إلى الناس وحالهم الاقتصادي من حيث حيازة الثروة يجد التفاوت الكبير بين الناس في هذا الأمر؛ حيث يجد  البعض من الناس يستحوذ على ثروة تقدر بالمليارات من الدولارات، ويستحوذ على الثروات الطبيعية؛ من بترول وغاز ومعادن، وعلى الأسواق الاقتصادية، ويجد في نفس الوقت في الجهة المقابلة الفقر والبؤس والحرمان، لدرجة أن بعض الناس لا يجدون قوت يومهم، أو حتى وجبتهم الحالية، -كما ذكرنا- ويحرمون من استغلال الثروات الطبيعية التي خلقها الله تعالى لجميع الناس، ولم يخصَّ بها أحداً من البشر؛ مثل شواطئ البحار، والغابات والأنهار وغير ذلك مما هو عام لا يخصُّ أحداً من الناس.

ولم يقف الأمر في مسألة الظلم عند حد التوزيع، بل تعداه إلى أمور أبعد من ذلك، إلى هذه الكوارث الاقتصادية التي تغمر وجه المعمورة، والتي تسمى بالأزمات الاقتصادية، حيث تسبب الرعب والخوف عند الناس على وجه الأرض، وأحد أسباب هذه الأزمات هو هذا الظلم في توزيع الثروة كما سنذكر عند حديثنا عن نتائج آثار الظلم في توزيع الثروة…

وسوف نتناول هذا الموضوع (عدالة الإسلام في توزيع الثروة) في هذا البحث المختصر في حلقات من عدة زوايا باذنه تعالى:

الزاوية الأولى :حاجة الإنسان لنظام الخالق جل جلاله.

الزاوية الثانية: مصادر الاقتصاد الموجودة على وجه الأرض.

الزاوية الثالثة: الأحكام الشرعية التي حققت العدالة في توزيع الثروة.

الزاوية الرابعة: أثر هذه الأحكام في موضوع تحقيق العدالة.

الزاوية الخامسة: النظم البشرية ونخص منها النظام الرأسمالي في موضوع التوزيع.

الزاوية السادسة: الأحكام الرأسمالية التي عالجت موضوع التوزيع، أي كيف ينظر النظام الرأسمالي للثروة.

الزاوية السابعة: أثر هذه الأحكام في أرض الواقع.

الزاوية الثامنة: مخرج البشرية اليوم لتحقيق العدل والخروج من الظلم.

[يتبع]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *