العدد 329 -

السنة الثامنة والعشرون جمادى الثاني 1435هـ – نيسان 2014م

فقــه الضـرورة

بسم الله الرحمن الرحيم

فقــه الضـرورة

أسامة يعقوب –  فلسطين

من أهم التحديات التي تواجه المسلمين في هذا العصر ضرورة  ملاحقة المتغيرات، وذلك من خلال الفهم الصحيح للإسلام، ولا يتأتى ذلك إلا بالرجوع إلى طريقة الإسلام في فقه الأحكام الشرعية بربط الواقع المستجد بالنصوص الشرعية، إلا أن ما طرأ على الأذهان من المفاهيم الغربية وطريقة التفكير عند غير المسلمين والتي تأثر بها العاملون للإسلام تسبب في تراجع الأداء الفقهي، ووسع في الوقت نفسه العمل بما يعرف بفقه الضرورة، وهذا بدوره أخرج الضرورة عن النسق الفقهي لتصبح البديل الميسور عن إعمال العقل لتغدو الضرورة الغطاء الفقهي لإغلاق باب التفكير، حتى أصبح كل جديد ابناً للضرورة ونتاجاً للحاجة، وكأن الضرورة أصبحت الإطار العام للفقه، ولا شك أن هذا مدخل خطير لانهيار الفقه عند هؤلاء المسلمين.

فكان لا بد من التفريق بين إدخال جل الفقه في باب الضرورة بسبب العجز والضعف الفكري، وبين القاعدة الفقهية في نسقها العام، إن القاعدة الفقهية «الضرورات تبيح المحظورات» والمثبتة في فقه الأصول تعتبر من القواعد المهمة إذا تم التعامل معها داخل النسق الفقهي، ورد تعريفها بأنها العذر الشرعي الذي يجوز بسببه إجراء الشيء الممنوع، وهو ما يعرف بالرخصة. فكان لا بد من فهم هذه القاعدة وفهم مكان انطباقها وكيفية تطبيقها.

الضرورة اسم لمصدر الاضطرار، ومعناها: الاحتياج إلى الشيء، يقال: اضطره إلى كذا، أي: أحوجه إليه، وألجأه فاضطر، ونقول: حملتني الضرورة على كذا،  وقد اضْطُرَّ إِلى الشَّيءِ أَي أُلْجئَ إِليه. والضرورة بمعنى الضرر، أو المبالغة في الضرر.

وللفقهاء القدامى في تعريف الضرورة عبارات عدة، لكنها لا تخرج عن كونها بلوغ الإنسان حدًا إن لم يتناول الممنوع (المحرم) هلك أو قارب. والهلاك كما يكون يقيناً يكون بغلبة الظن.

وهذا التعريف للضرورة يعني أموراً عدة:

الأول: إن الضرورة عذر شرعي ، يقتضي فعل الممنوع ( المحرم)، على خلاف البديل الشرعي، وهو ما يسمى بالرخصة، أو الترخص، ومن ثم يجب أن يكون العذر المبيح مقيداً شرعاً.

الثاني: إن الضرورة حالة ملجئة، ولا مدفع لها غالباً.

الثالث: إن الضرر المتحقق يلحق بالنفس لا غير.

وأما الحاجة فهي مختلفة عن الضرورة، فمع أن كلاً منهما فيه المشقة، إلا أن المشقة في الحاجة ليست ملجئة، إذ لا يترتب عليها هلاك النفس أو تلف أي عضو، وبالتالي فإنها لا تحمل حكمها حتى لو كانت عامة.

وكذلك فإن الضرورة وإن كانت سبباً في الرخصة، إلا أن الرخصة أعم منها، حيث تشمل الرخصة حالة الضرورة وغيرها من الأعذار الموجبة للتخفيف.

والدليل على أن الضرورة إذا تحققت فإنها تجيز فعل المحظور وتعتبر عذراً شرعياً ما ورد في عدد من الآيات التي تدل على تحريم بعض المطعومات على العموم، ثم استثنت من هذا التحريم ما يقع في حالة الاضطرار فرفعت الإثم عندها. من هذه الآيات قوله تعالى ( إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ )، وقوله تعالى: ( وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ )، وغيرها من الآيات التي تجيز أكل المحرم في حالة الاضطرار.

روي عن ابن عباس  في معني قوله: (فمن اضطر) يعني: إلى شيء مما حرم، غير باغ  ولا عاد يقول : من أكل شيئاً من هذه وهو مضطر فلا حرج، ومن أكله وهو غير مضطر، فقد بغى واعتدى.

وروي عن مجاهد أنه قال في معني الآية، معنى الباغي والمعتدي: فمن اضطر غير باغٍ ولا عادٍ (قاطعًا للسبيل، أو مفارقًا للأئمة، أو خارجاً في معصية الله) فله الرخصة، ومن خرج باغياً، أو عاديًا أو في معصية الله فلا رخصة له وإن اضطر إليه.

قال ابن حزم: وكل ما حرم الله عز وجل من المآكل والمشارب من خنزير أو صيد حرام أو ميتة أو دم أو لحم سبع طائر، أو ذي أربع ،أو خمر أو غير ذلك فهو كله عند الضرورة حلال حاشا لحوم بني آدم ، وما يقتل من تناوله، فلا يحل من ذلك شيء أصلاً لا بضرورة ولا بغيرها، فمن اضطر إلى شيء مما ذكرنا من قبل، ولم يجد مال مسلم أو ذمي فله أن يأكل حتى يشبع ويتزود حتى يجد حلالاً ، فإذا وجده عاد الحلال من ذلك حراماً كما كان عند ارتفاع الضرورة.

غير أن بعض المتأخرين وضعوا تعريفاً مغايراً للضرورة، فقالوا بأنها  الحالة التي إذا وصل إليها المكلف أبيح له فعل الحرام، وذلك حتى  يتم دفع الاعتداء بكل صوره وأشكاله. وبذلك فإن الضرورة لا تكون محصورة في خوف تلف الأنفس وما دونها كما ثبت بنصوص القرآن، وما نقل عن الصحابة والتابعين وقدامى الفقهاء، بل هي من وجهة نظرهم أعم من ذلك، فهي تشمل دفع الضرر عن الأنفس والأعراض والأموال والأديان والأوطان، مستدلين على ذلك بأن  مبنى الشريعة قائم على جلب المصالح  ودرء المفاسد، ودفع الحرج  والمشقة عن المكلفين، ويقولون بأن الشرائع الإلهية جاءت لحفظ الكليات، أو الضروريات الخمس، التي لا قوام للحياة بدونها دنيا ودين، وأن التكليف على العباد مشروط بالقدرة والاستطاعة .

والحقيقة أن تعريف المتقدمين من الفقهاء هو الراجح في المسألة، أولاً  لقيام الدليل على ذلك، وثانياً أن ما استدل به المتأخرون لا يوجد فيه ما يدل على ما ذهبوا إليه، ذلك أن جلب المصالح ودرء المفاسد ليس علة شرعية لأي حكم بعينه، ولا علة شرعية للشريعة بشكل عام، وذلك لأن النصوص دلت على أن غاية الشريعة الإسلامية هي جلب المصالح ودرء المفاسد، ولم تدل على غير ذلك. أي أن النتيجة التي تترتب على الشريعة هي جلب المصالح ودرء المفاسد، وليس جلب المصالح ودرء المفاسد هو الباعث على تشريع الشريعة. وأما قولهم بأن الضرورة تشمل حفظ المقاصد الخمس، فإن هذه المقاصد تحصل نتيجة للحكم الشرعي، ولا علاقة لذلك في استنباط الحكم، ولا في الاستدلال عليه، ولا في تعليله..

وأما دفع الحرج والمشقة فكذلك لا يصلح دليلا، فقد استدلوا عليه بقوله تعالى:( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) فهذه الآية  قد جاءت بعد  قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ )،  فيكون الحرج، وهو الضيق، قد رفع عنهم فيما أمرهم به من العبادة، وفعل الخير، والغزو من أجل رضاه، فإنه هو الذي اختاركم أيها المؤمنون لدينه ولنصرته، وما جعل عليكم من ضيق، بل بقدر ما تحملون، فهو كقوله تعالى: ( لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا )، فجعل الدين ليس شاقاً بحيث لا يتحملونه.

على أن الأخذ بما يفهمه أصحاب قاعدة الحرج مؤدٍّ إلى إيجاب إسقاط التكاليف جملة، فإن التكاليف كلها شاقة ثقيلة؛ ولذلك سميت تكليفاً من الكلفة وهي المشقة. فإذا كانت المشقة حيث لحقت في التكليف تقتضي الرفع بهذه الدلائل لزم ذلك إسقاط التكاليف. وبما أن إسقاط التكاليف الشاقة الثابتة بالشرع مناقض لأصل الشرع، فالأخذ بهذه الأدلة حسب فهم قاعدة رفع الحرج مناقض للشرع؛ ولذلك لا يجوز الأخذ بهذه القاعدة، بل لا بد من الوقوف عند حدود ما أتى به الشرع من أدلة تفصيلية على كل التفصيلات، وتطبيقها على ما يتجدد من حوادث ومشاكل، بغض النظر عما إذا كان فيها مشقة أو كان فيها سهولة، ولا سيما وأن الرسول صلى الله عليه وسلم  يقول: «حفت النار بالشهوات وحفت الجنة بالمكاره».

وعليه فإن وقعت حالة الاضطرار جاز ارتكاب المحظور شرعاً، غير أنه ينبغي العلم أنه ليس كل من يدعي أنه مضطر إلى ارتكاب المحظور يقبل منه، بل لا بد من توافر شروط تحقق الضرورة، ومن هذه الشروط:

أن تكون الضرورة قائمة غير منتظرة، بأن يحصل في الواقع خوف الهلاك أو التلف، وذلك بغلبة الظن إن لم يكن بالقطع. وأن يتعين على المضطر ارتكاب المحظور، بأن لا تكون هناك وسيلة أخرى من المباحات لدفع الاضطرار، فإذا حصل ذلك لا بد من مراعاة ضوابط الأخذ بالرخصة، كأن يقتصر فيما يباح تناوله للضرورة على القدر الكافي لدفع حالة الاضطرار كما يقول الفقهاء بأن الضرورة تقدر بقدرها، وأن لا يترتب على ارتكاب المحظور ضرر أكبر من الضرر المترتب على وجود حالة الضرورة، فلا يرتكب المحظور لحفظ عضو من التلف، ويترتب عليه تلف عضو آخر أو قتل النفس، كما ذكر السيوطي بأن الضرورات تبيح المحظورات بشرط عدم نقصانها عنها، وأن يكون زمن الأخذ بالرخصة مقيداً بزمن بقاء العذر، فإن زال العذر زالت الرخصة، لأن ما جاز لعذر بطل بزواله.

أما حكم الأخذ بالرخصة في حال الضرورة فإنه ينظر: فإن  كان الأخذ بالعزيمة يؤدي إلى الهلاك المحقق، كان العمل بالرخصة واجباً، والتمسك بالعزيمة حراماً، فمن خاف الهلاك إذا لم يأكل من لحم الميتة كان الأمران في حقه سواء، أي يجوز له الأخذ بالرخصة كما يجوز له الأخذ بالعزيمة، أما إن تحقق الهلاك كان الأخذ بالرخصة واجباً وعدمه حراماً، ويصير الحكم في حقه ليس رخصة وعزيمة، بل هو حكم تكليفي، وذلك لأن الوسيلة إلى الحرام حرام.

بقيت في البحث مسألة، وهي أن هناك فرقاً بين الإكراه والاضطرار، فالإكراه فيه حمل الغير على أن يفعل ما لا يرضاه ولا يختار مباشرته لو خلي ونفسه، بخلاف الاضطرار فليس فيه هذا المعنى، فالمضطر يقوم بالفعل باختياره وإن كان الرضا عنده قد فسد، ويترتب عليه أمور:

 فالمكره يجوز له فعل الحرام إذا وجد الإكراه الملجئ، وذلك مثل الأكل من لحم الميتة، كما جاز له إجراء كلمة الكفر، ولا فرق بين أن يكون الأمر من حقوق الله أو حقوق العباد، وإن كان حق العبد لا يسقط بالإكراه أو الاضطرار، بخلاف حق الله، ولا يوجد حد معين لما يجوز فعله مما حرم باستثناء بعض الأمور كالقتل والزنا فلا إكراه فيهما.

وهذا بخلاف الاضطرار، فالمضطر له أن يأكل ولكن ليس إلى حد الشبع، وإنما بقدر ما تندفع به الضرورة، لما روي عن سمرة بن جندب رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إذا رويت أهلك من اللبن غبوقاً فاجتنب ما نهى الله عنه من ميتة»، وما روي عن أبي واقد الليثي قال: قلت: يا رسول الله إنا بأرض مخمصة فما يحل لنا من الميتة؟ قال «إذا لم تصطبحوا ولم تغتبقوا ولم تحتفوا فشأنكم بها» أي لكم من الميتة  الصَّبُوحُ وهو الغداء أو الغَبُوقُ وهو العَشاء، وليس لكم أَن تجمعوهما.

هذه هي الضرورة وهذا هو فقهها، والأصل اعتمادها في هذا النسق، إلا أن الجهل بها أو التجاهل يوجد الكثير من البلبلة والاختلافات في الآراء، والإشكالية تأتي عند من يمتطي هذه القاعدة لتحقيق مآرب سياسية، ويعتمد عليها من أجل تمرير الكثير من الجرائم، أو يضفي عليها الصفة الشرعية، وإن ما نسمع به من فقه الأقليات والأولويات والتدرج  في تطبيق الشريعة وإباحة الربا القليل وإباحة شراء العقارات للسكن بالقروض الربوية أمثلة على ذلك. حتى وصل الأمر بالبعض أن تجرأ على القول بضرورة العلمانية وعدم إقحام الدين في السياسة ونظام الحكم واعتماد نظام الحكم المبني على المواطنة التي لا تفرق بين الناس على أساس الدين.q

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *