العدد 152 -

السنة الرابعة عشرة _رمضان1420هــ _ كانون الثاني 2000م

مع القرآن الكريم: النصر صبر ساعة

قال تعالى: (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ)، وقال جلّ وعلا: (وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ)، وقال عزّ من قائل: (قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ».

هذه الآيات الكريمة، وهذا الحديث النبوي الشريف، تؤكد أن هزيمة أي كيان إنما تأتي من داخله أولاً، ومن قوة إرادة خصمه وثقته بالنصر ثانيًا. يستوي في ذلك الجيش في معركة، والدولة في حرب، والحزب في صراعه الفكري والسياسي، وإن من أهم أسباب الهزيمة أن يقذف الرعب في مجموع الناس قيادة وشعبًا وأفرادًا. عندما سيكون تدميرهم في تدبيرهم، وسيخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي أعدائهم، والشواهد من التاريخ كثيرة، فكفار مكة في بدر الكبرى، انهارت معنوياتهم تحت ضربات المسلمين القوية، ودخل في قلوبهم الرعب، وصدق الله تعالى إذ قال: (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ)، وبنو النضير، بلغت حصونهم من المناعة ما جعل المسلمين يظنون أن اليهود لن يتركوها، وما جعلهم أنفسهم يظنون أنها مانعتهم من مصيرهم المحتوم، ولكن الله أتاهم من حيث لم يحتسبوا، فزلزلوا ونزعت ثقتهم في قواهم المادية وفي حصونهم، فانهارت مقاومتهم، واضطربت قراراتهم، وانهزم جمعهم. وبشرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهودًا في آخر الزمان، سيقذف في قلوبهم الرعب، حتى ليظنون أن الحجر والشجر يقاتل مع المسلمين ضدهم، فلا شيء يمنعهم من المسلمين. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقَاتِلَ الْمُسْلِمُونَ الْيَهُودَ، فَيَقْتُلُهُمُ الْمُسْلِمُونَ، حَتَّى يَخْتَبِئَ الْيَهُودِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْحَجَرِ وَالشَّجَرِ، فَيَقُولُ الْحَجَرُ أَوِ الشَّجَرُ: يَا مُسْلِمُ يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذَا يَهُودِيٌّ خَلْفِي فَتَعَالَ فَاقْتُلْهُ، إِلَّا الْغَرْقَدَ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرِ الْيَهُودِ» (رواه مسلم)، كناية عن شدة رعبهم، وعن تمكن الخوف من نفوسهم، وفي ذلك انهزامهم والقضاء عليهم. فليعتبر اللاهثون وراء سراب الصلح مع يهود، والمهرولون خلف التطبيع معهم، فإن رسول الله الصادق الأمين قد بشرنا بالنصر المبين عليهم، وحكم فيهم من مئات السنين أنهم لا محالة مهزومون.

أما قوة الإرادة، فالحرب هي صراع بين إرادتين، فمن كانت إرادته أصلب وعزيمته أمضى، كان له النصر، لأنه بقوة إرادته، يكسر إرادة خصمه أو عدوه، ولهذا كانت قوة الاحتمال، والصبر على المكاره والشدائد من عوامل النصر الأساسية، لأنه من كانت هذه بعض صفاته، صعب سحق إرادته، أو فل عزيمته، فكما قيل فالنصر صبر ساعة، وذلك يعتمد على المذخور الروحي الذي يمتلكه الأفراد، فمن كان الله تعالى غايته، والاستشهاد في سبيله أعز أمانيه، والجنة تستدعيه، والخوف من عذاب جهنم يعصمه، كان النصر حليفه. وباستعراض وقائع الماضي، فإن إرادة الأمة الإسلامية لم تكسر، حتى في معاركها ضد الصليبيين، التي أتاحت لهم احتلال بعض أجزاء من بلاد الإسلام، كانت إرادة المقاومة عالية، وكانت إرادة الصمود صلبة، فاستعادت الأمة الزمام، وحولت مجرى الحروب إلى صالحها، وقهرت أعدائها، وأخرجتهم من أرضها مذؤومين مدحورين. وصدق تعالى حيث يقول: (ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ).

أما الثقة في النصر، فهي العامل الحاسم في تحقيقه، فهي الأرضية التي تقوى عليها الإرادة، وتشتد عليها العزيمة. ومبعث الثقة، إيمان راسخ بأن النصر من الله، ينصر من يشاء، وأن الله يداول الأيام بين الأمم، (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ)، ثم ثقة بالنفس أننا قادرون على تحقيق النصر بعون الله، وأن ما نبتغي أسمى مما في هذه الحياة الدنيا، وأن ما نملكه من قوة الإيمان، ووضوح الرؤية، ووفرة الزاد، كفيل بتحقيق النصر، وكسر شوكة الأعداء والخصوم، وتحطيم إرادتهم وقهرها، وفل عزيمتهم وسحقها. وإذا ما تحقق النصر لأمتنا في بضع معارك، وجِدت لهم الهيبة في العالم. وصار الكل يتجنب الصدام معها، وصارت نتيجة المعارك محسومة لصالح المسلمين منذ بدئها، وبذلك ترهب أمة الإسلام عدو الله وعدوها، لتصبح رايات الإسلام محترمة، لا يجرؤ أحد على المساس بما ترتفع فوقه، كما كان الحال لقرون طويلة، حين كان قراصنة البحر لا يجرؤون على الاقتراب من سفن المسلمين التي ترفع رايات الإسلام، وحين كان الجيش الإسلامي موسومًا بأنه الجيش الذي لا يقهر، وحين كانت نساء الغرب تخوف أبناءها بالمسلمين.

هذا فضلا عن أمة الإسلام حاملة لواء هداية ورحمة للعالمين، وأنها ليست طامعة في خيرات البلاد، فعندها ما يكفيها، وهي مستعدة لإعطاء الآخرين إن احتاجوا، ولكنها صاحبة رسالة ربانية، تعمل لإخراج الناس من ظلمات العبودية لغير الله، إلى نور وعزة العبودية لله، ومن جور القوانين الوضعية إلى عدل أحكام الله وسعتها، وبذلك تُفتح لأمة الإسلام القلوب والعقول قبل أن تفتح البلاد، وشواهد الماضي كثيرة على أن الفتح الإسلامي لم يكن كله بقوة السيف، وإنما بقوة العقيدة، وعدالة التشريع، وسماحة المسلمين.

وتأصيلاً على ما أسلفنا، فإن الدول العملاقة، والأنظمة المستبدة، ليست عصية على الانهزام، وأن بإمكان الأمة الإسلامية، إذا استعادت قرارها، ووحدت دولها في دولة واحدة، وحكّمت شرع ربها، أن تقتلع هذه الأنظمة وتلك الدول، فقد دب الوهن في معظم المجتمعات الغربية، إن لم يكن في جميعها، فاستشرى الفساد بكل صنوفه، وبدأ الصراع الداخلي يتفجر، بين بيض وسود في أمريكا. وبين محافظين وليبراليين في كثير من المجتمعات، وهذا يشكل بداية الانهيار، إضافة إلى الأزمات الاقتصادية، وجيش العاطلين عن العمل الذي يشكل في أمريكا 8% من إجمالي القوة العاملة، واستمرار تكدس الثروات في أيدي القلة، وانحسارها عن الكثرة الساحقة، كل ذلك يضاعف من عوامل التراجع والانهيار. ويتزامن ذلك مع تباشير نهضة المسلين، وتحركهم نحو وحدتهم على أساس دينهم وتحت راية إمامهم، ما يجعل تباشير النصر تلوح أمام الناظرين. (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ) صدق الله العظيم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *