العدد 162 -

السنة الرابعة عشرة رجب 1421هـ – تشرين الأول 2000م

الجزاء الأوفى

لقد قضت حكمة الله تبارك وتعالى أن يخلق الإنسان، ويودعه ظهر هذه الأرض، ليمر في رحلة اختبار وامتحان وابتلاء، ثم بعد ذلك – أي بعد هذه الرحلة الأرضية- يتقرر مصيره، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، وإن أحسن الالتزام والأداء والانضباط في أمور حياته كما أراد الله عز وجل، كانت عاقبة أمره يسرا، وكان مأواه جنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للمتقين. وإن أساء الالتزام، وابتعد عن جادة الحق التي أرادها الله تعالى، كانت عاقبة أمره خسرا، وكان مأواه جهنم لا يموت فيها ولا يحيى. ولأجل ذلك قضت حكمته تعالى أن يبعث المرسلين مبشرين ومنذرين، من أجل هذه الغاية الجليلة العظيمة، ويبعث معهم الهداية والرشاد والاستقامة، ويؤيدهم بالمعجزات الدامغة، لتقيم الحجة العقلية، والبرهان الدامغ على صحة ما يدعون إليه.

لقد تتابعت قافلة الخير من هؤلاء الرسل، الداعين للخير والهداية، فلم تخل أمة عبر تاريخ البشرية الطويل، من واحد منهم، قال تعالى: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ) (فاطر:24)، وكانت بعثة المصطفى صلى الله عليه وسلم الخاتمة لقافلة الخير، قال تعالى: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) (الأحزاب:40)، حيث كانت بعثته عليه السلام للناس كافة، على عكس من سبقه حيث بعثوا لأقوامهم خاصة، قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (سـبأ: 28).

لقد حمل رسول الله صلى الله عليه وسلم مشعل النور والهداية رغم شدة الظلام، وأخذ ينشر الهدى في وقت سادت فيه الجاهلية الجهلاء، والعادات السوداء، وامتلأت الأرض ظلما وشرا. وفي رحلة سيره هذه، عذب عليه السلام، وأوذي شديدا، واتهم اتهامات باطلة، فاتهم بالسحر {قال الذين كفروا للحق لما جاءهم هذا سحر مبين} (الاحقاف: 7)، واتهم بالكذب والافتراء( َأَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (الاحقاف: 8)، واتهم بأنه يفرق بين الرجل وزوجه، واتهم بالجنون (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ) (المؤمنون:25)، واتهم كذلك بأنه يتصل بالروم لتلقي القرآن (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) (النحل:103).

ورغم هذا التكذيب الجارح ورغم التنكيل والإيذاء الشديد والذي بلغ ذروته بالمقاطعة في شعب بني طالب، رغم كل ذلك كان عليه أفضل الصلاة والسلام يقول: «اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون».

وعندما خاطبه ملك الجبال، يوم العقبة وقال: «… يا محمد قد بعثني الله، إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال قد بعثني إليك لتأمرني ما شئت، إن شئت تطبق عليهم الأخشبين، فقال عليه السلام: أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئا» (رواه البخاري ومسلم).

وكادت نفسه صلى الله عليه وسلم تذهب على قومه من شدة الأسى والشفقة عليهم، حتى خاطبه ربه بقوله: (فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون)، وبقوله:( قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) (الأنعام: 33)، لقد كان مثله صلى الله عليه وسلم مع قومه كمثل الرجل الواقف على شفير النار، يدفع الناس مخافة أن يقعوا فيها، والناس يتدافعون حولها يريدون إلقاء أنفسهم فيها. قال صلى الله عليه وسلم: «إنما مثلي ومثل الناس كمثل رجل استوقد نارا، فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها، فجعل الرجل يزعهن ويغلبنه فيقتحمن فيها، فأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تقتحمون فيها» (البخاري).

لقد عاش صلى الله عليه وسلم وأصحابه الغر الميامين مع هذا الواقع القاسي فترات صعبة شديدة، كان دونها الأموال والأنفس والشهوات، وسهر الليالي، والجوع، والعذاب، والحرمان، والتشرد، والهجرة إلى الحبشة مرتين. لقد ظلوا صابرين، صامدين، مجاهدين… يعبرون غمار المشقات، والصعاب، تهون عليهم الدنيا، وتهون عليهم أنفسهم في سبيل هذا الدين لإظهاره في الأرض، وإنقاذ البشرية التائهة به، كل ذلك طلبا لرضوان الله تعالى، وطمعا في حسن لقائه.

لقد كانت خاتمة هذه الرحلة الشاقة – رحلة الطاعة، والصبر، والمصابرة – جائزة عظيمة من الله في الدنيا، شفيت بها صدورهم، وأصبحوا أعزة، سادة وقادة في ربوع الدنيا. لقد قامت للمسلمين دولة في الأرض، يطبق فيها دين الله تطبيقا شاملا كاملا، يرفع فيها الحق، ويوضع الظلم، وينتشر الأمن والعدل والرفاه، وتسود الطمأنينة والإخاء… قامت منارة يرتفع فيها النور الساطع عاليا ليراه القريب والبعيد، فيأتيه التائهون في بحر الظلم والضلال والضياع… قامت عزة ومنعة تحمل رسالة الإسلام، عبر الحدود والسدود، فتلج الأبواب المفتوحة، وتكسر الأبواب الموصدة، والسدود المانعة، ترفرف فيها رايات الجهاد عالية خفاقة فوق الهامات، تجوب الأجواء والآفاق، والبحار والفيافي والأنهار، حتى وصلت ما وصلت من بقاع الأرض. لقد بقي هذا الأمر – أمر العزة والقوة والمنعة والهدى والرحمة والنور – حتى التحق رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى، وتتابع بعد ذلك بنفس الطريقة، وعلى نفس الخطى، تحمله أجيال لتسلمه أمانة إلى أخرى… وهكذا. لقد ظلت دولة الإسلام بمثابة الرسول الحامل للهداية والخير للناس جميعا، تطبق دين الله في داخل بلادها، وتحمله رسالة هدى إلى غيرها من شعوب تائهة ضالة.

وهنا… عند هذه المسألة «مسألة ارتباط الرسالة بالدولة» أقف قليلا فأقول: إن الحقيقة الساطعة الدامغة التي لا مراء ولا جدال فيها هي ( أن الإسلام لا يقوم إلا بدولة تطبقه أولا، وتحمله رسالة إلى العالم عن طريق الدعوة والجهاد). والسبب:

أولا: إن هذا الدين بحاجة لمن يقيمون الحجة والبرهان به على عقول البشرية جمعاء، وهذا لا يكون إلا بدولة تكون قادرة على عرض هذا الدين بشكل ملفت للنظر، تطبيقا، وفكرا، وهذا يحتاج إلى قدرات وطاقات وحسن أداء، وقبل كل ذلك إلى تطبيق عملي ليلفت نظر البشرية إليه.

ثانيا: إن دول الغرب اليوم، تصور الإسلام على أنه تأخر وفقر، وجهل… إلى غير ذلك من أوصاف وألقاب قبيحة، ثم تدعوا الشعوب في أوروبا  وأميركا للنظر في أرض الواقع، فينظر الناس فيصدقون ما يقال. وقليل نادر من يفكر من هؤلاء ويتعمق في الإسلام ليعرف الحق.

لذلك فإننا لا نبالغ إذا قلنا أن الدولة الإسلامية هي التي تقوم بأمر الرسالة اليوم ولا يستطيع ذلك الأفراد ولا الجماعات مهما أوتوا من قوة. فالدولة هي الرسول الذي لا ينقطع حتى قيام الساعة وإذا خلت منها الأرض لفترة من الوقت عطل الدين، وعطل حمله إلا من أعمال فردية قليلة لا تؤثر في واقع الكفر إلا القليل.

إن حامل الدعوة اليوم، السائر في طريق إظهار دين الله، في سبيل إقامة دار العدل والرحمة والطمأنينة، في سبيل إنقاذ البشرية من ظلمها أنفسها، ومن ظلمها غيرها، ليتذكر ويتدبر كثيرا… يتذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم – الأسوة والقدوة الحسنة- وهو يحمل الخير للناس، والناس عنه معرضون، يقابلهم بالرحمة والهدى، ويقابلونه بالإحجام والإعراض والإيذاء، ويقاطعونه ويخرجونه من أرضه التي ولد وتربى في ربوعها… ويتذكر في نفس الوقت كيف أكرمه الله مع صحابته، وجعل خاتمة أمرهم حسنا في الدنيا، بإقامة دولة الإسلام، وبجعلهم سادة وقادة، يملكون مفاتح كنوز الأرض، وتدين لهم العرب والعجم وبشرهم بجعل خاتمة أمرهم حسنا يوم القيامة.

ومن يتدبر في الواقع المحيط حوله، وفي دول الكفر على وجه الأرض، ير كيف يعيش الناس في الظلم، وكيف يتحكم الكفر في رقابهم. ومن ينظر في دول الغرب وظلمها – وخاصة الولايات المتحدة، سيدة المبدأ الرأسمالي الكافر- ير الخداع، والظلم، والمكر والألاعيب، والأباطيل السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

ففي الناحية السياسية وظلمها، يرى أن أميركا ودول الكفر قد جعلت من الشعوب والحكومات في دول العالم الثالث، أو الدول الفقيرة كما يسمونها، جعلوا منها جسورا يمرون من فوقها لتحقيق مصالحهم الاستعمارية، فسخروهم، وسخروا حكوماتهم العميلة لهذه الغاية، وجعلوا منهم كذلك محرقة تنضج مخططاتهم على نارها. فكانت مأساة الشعوب في فلسطين، وفي البوسنة، وكوسوفو، وكشمير، والأفغان، والشيشان…

وفي الناحية الاقتصادية، يرى السلب والنهب، ويرى التحكمات الاقتصادية في الأسعار وفي الأسواق، وفي بعض المنتجات مثل الكمبيوتر وبعض أنواع الأدوية، والصناعات الثقيلة… ويرى تحكم أميركا بثروات العالم عن طريق ما تفرضه من قوانين، وما تبتكره من أساليب مثل العولمة، أو اتفاقات التجارة العالمية وحرية السوق، والانفتاح الاقتصادي وحرية التجارة، وحرية الاستثمار، وعن طريق تحكماتها الاقتصادية كذلك بواسطة الشركات العملاقة، والبنوك الربوية الضخمة، إضافة إلى سيطرة الدولار على باقي العملات في العالم، وجعله الغطاء النقدي لأية عملة في دول العالم.

أما في الناحية الاجتماعية والعلاقات بين الناس فحدث ولا حرج، فيرى أمراضا مستشرية بسبب الفساد الاجتماعي الناتج عن نظم الغرب، ويرى جرائم القتل والاغتصاب التي لا تحصى في أرقى دول العالم المسمى «بمتمدن» ويرى انتشار آفات المخدرات بالملايين بين الناس، ويرى كذلك ما لا يوصف، ولا يليق بحق البشر، يرى الشذوذ الجنسي والتزاوج بين الذكور، أو بين الإناث… وليت هذا الخطر يقف عند حدود تلك الدول، بل إننا نرى محاولة الغرب نشر هذه الموبقات والرذائل خارج حدودها إلى باقي دول العالم، عن طريق الإعلام، وأجهزة البث التلفازي، والإنترنت، وعن طريق المؤتمرات الداعية لتحرير المرأة كمؤتمر السكان الذي عقد في القاهرة، أو مؤتمر السكان الذي عقد في بكين، أو مؤتمر المرأة الذي عقد في عمان… وغيرها من مؤتمرات.

إن حامل الدعوة الذي يتدبر ويتفكر ويتذكر، ليقبل على العمل بكل عزم وحزم وإخلاص لإنقاذ هذه الأمة الحية الطيبة مما هي فيه من دمار وهلاك، وإشراف على الفناء، وإنقاذ البشرية كذلك مما هي فيه من ضياع وضلال. إن هذا العمل من السعي لإنقاذ البشرية بإقامة دولة الإسلام، منارة للعدل والهدى، لا يروق لأهل الكفر والضلال، ولا يوفرون جهدا في سبيل الوقوف في طريقه، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ) (لأنفال: 36)، والناظر إلى الواقع يرى صدق ذلك وصحته، فدول الكفر مكشرة عن أنيابها القبيحة، تحمل سيف الحرب لحملة الدعوة المخلصين تنكل بهم سجنا وقتلا وتشريدا وقهرا، وتعقد المؤتمرات تلو المؤتمرات، وتخطط وتمكر مكر الليل والنهار.

ففي أميركا مثلا عقدت مؤتمرات على أعلى المستويات لمكافحة المد الأصولي المخلص في مناطق ما كان يعرف بجمهوريات الاتحاد السوفيتي البائد وفي الصين، وجمهوريات المسلمين في روسيا، تنسيق على أعلى المستويات لمكافحة ومتابعة المد الإسلامي هناك، عدا عن الاضطهاد والتعذيب والسجن والقتل. حتى وصل الأمر بهؤلاء المجرمين من الغرب أن يضمنوا بنودا لأية معاهدة سلام بين العرب واليهود لمكافحة الإرهاب والأصولية – حسب زعمهم -.

وأمام هذا العمل السامي الرفيع عن حملة الدعوة لا بد من التزود بما يعينهم على تجاوز العقبات الجسام، وهذه الألوان من الصد عن سبيل الله، حتى يأذن الله بنصره وفرجه القريب. فلا بد لحامل الدعوة من تذكر أمور ترفع معنوياته، وتدفعه بحزم وإخلاص لخوض غمار الصعاب غير آبه بما يلاقي، ولا ما يصيبه.

أولا: يتذكر حامل الدعوة دائما صلته بالله عز وجل، صاحب صفات الكمال والجلال، الذي إذا أراد شيئا فإنما يقول له كن فيكون، الفرد الصمد غير المحتاج لأحد من الخلق، والخلق كلهم بحاجة إليه، صاحب العظمة والجبروت والسلطان، فيذكر قوله تعالى: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (الزمر:67)، وقول رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم وهو يصف العظمة الإلهية: «والذي نفسي بيده ما السماوات السبع عند الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، على تلك لحلقة» (أخرجه ابن جرير الطبري)، ويتذكر كذلك أن الله لا يعزب عم علمه مثقال ذرة في السماوات والأرض. قال تعالى: ( وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) (يونس: من الآية61) وقال: (… عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) (سـبأ: من الآية 3)، كل هذا يدفع حامل الدعوة، ويطمئن نفسه، ويجعله يقبل على الصعاب غير اّبه بكل قوى البشر، لأنه يعلم علم اليقين أن الله هو أقوى من جميع ذلك.

ثانيا: يتذكر حامل الدعوة وهو في طريق الإخلاص أنه يحمل فكرا صحيحا، راقيا ساميا، يرتفع فوق جميع الأفكار، وأن غيره من الأفكار إنما هي ضلال وانحراف واعوجاج، من صنع عقول بشرية قاصرة، لا تقوى على وضع نظام أو فكر لنفسها، ومن باب أولى أنها عاجزة عن ذلك لغيرها. يتذكر قوله تعالى وهو يتحدث عن الكفر: (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) (الفرقان: 44)، فتطمئن نفسه وهو يرى صدق انطباق هذا الحق على أرض الواقع، ويحمد الله تعالى أن هداه لهذا الدين، وجعله من حملته الساعين لإنقاذ البشرية به من ضياعها وانحطاطها.

ثالثا: يتذكر حامل الدعوة في أثناء سيره وتحمله للمشاق وللتعب، أن هذه الدنيا زائلة فانية، انطلاقا من قوله تعالى: (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (يونس: 24). وانطلاقا من قول الرسول عليه السلام وهو يصور الحياة الدنيا: «…ما مثلي ومثل الحياة الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف فاستظل تحت شجرة ساعة من نهار، ثم راح وتركها» (رواه أحمد)، وإنها لا تساوي عند الله جناح بعوضة، قال عليه السلام: “لو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافر شربة ماء أبدا” (سلسلة الصحيحة-الألباني)، وأن الحياة الحقيقية هي الحياة الباقية الأبدية التي لا يزول نعيمها، ولا شقاء فيها ولا نصب، قال تعالى: (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) (العنكبوت: 64). إن هذا الزاد من تذكر قيمة الدنيا وحقيقتها، وحقيقة الحياة بعدها يجعل حامل الدعوة أكثر قربى إلى الله لينال الباقي الذي لا يزول، وأقل تمسكا بالفاني الزائل الذي لا يساوي جناح بعوضة.

رابعا: يتذكر حامل الدعوة أن عمله هذا الذي يقوم به ابتغاء مرضات الله، إنما هو عمل الأنبياء والرسل الذين بعثهم الله هداية للناس ورحمة. فالأنبياء والرسل كان عملهم إنقاذ البشرية من الضلال والانحراف، إلى الحق والاستقامة، وهكذا حامل الدعوة يبصر الواقع المرير، يبصر الفساد والظلم، والاستبداد والاستعباد من قبل قادة الشر لغيرهم، يبصر اكتواء البشرية بنار أميركا وأوروبا في السياسة والاجتماع والاقتصاد، فيقبل بنفسية الطبيب الخائف على مريضه من تفشي الداء في باقي أوصاله، ومن انتشار هذا الداء على شكل وباء في البشرية. فيعمل بصدق وإخلاص، وتضحية ومثابرة لا تنقطع ولا تفتر، لإنقاذ الناس من هذه الأمراض، والمصائب والآفات الاجتماعية والمجتمعية.

خامسا: سيتذكر حامل الدعوة وهو في طريق سيره وأثناء تحمله للأذى والمشاق، أنه لا يقع عليه إلا ما قدر له، يتذكر وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنهما: «…واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك فلن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن يضروك بشيء فلن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله لك، رفعت الأقلام وجفت الصحف» ( رواه الترمذي)، وبناء على هذا يكون عنده اليقين أنه لن يصيبه شيء من أذى الظالمين، الواقفين في طريق الحق إلا بإذن الله تعالى، فلا يخاف من عدوّ سواء أكان أفرادا أم جماعات أم دول، فيذكر دائما قوله تعالى في ذلك: (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (التوبة:51).

سادسا: يتذكر حامل الدعوة أن الله يدافع عن الذين آمنوا ويعلن الحرب على الظلم والظالمين، يحضر في ذهنه قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ * أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) (الحج:38-39)، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم «من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب» (رواه البخاري)، فيصبح عند حامل الدعوة وهو سائر في طريقه اليقين الى الله عز وجل سيزهق الباطل ويخزيه، ويفضحه أمام الخلائق ويسلط على الباطل جنوده تأخذ أتباعه أخذ عزيز مقتدر ولو طال بهم الزمان. قال تعالى: (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) (آل عمران: 178)، وقال عليه السلام: «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» (رواه الترمذي).

سابعا: يتصور حامل الدعوة وجه الأرض في ظل خلافة راشدة، حيث شرع الله قائم بالعدل، وحيث القيادة الفكرية التي لا مكان فيها لأهواء ولا أشخاص، وحيث العزة والمنعة والقوة تحدو أمة الإسلام، وحيث بحبوحة العيش والرفاه، وحيث الأمن والطمأنينة في ظل نظام إلهي سامي، ويتصور كذلك الناس وهم يدخلون في دين الله أفواجا وذلك بعد أن يروا حسن الإسلام وحسن نظامه في الحياة، ويرى ويبصر بعد ذلك وأثناءه حصون الكفر يدكهما المسلمون في عقر دارها في روما، وموسكو، ولندن، وواشنطن, وباريس… يتصور ذلك كله وهو على يقين جازم بحصوله انطلاقا من قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (التوبة: 33)، وقول رسوله عليه السلام: «ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار…» (سلسلة الألباني)، وقوله: «…ثم تكون خلافة راشدة على منهاج النبوة…» (رواه أحمد).

وبعد هذا الجزاء الطيب في الدار الدنيا… بعد هذه الثمرة الحلوة التي ينالها جزاء على سيره، وعمله وإيمانه واحتسابه.. بعد جائزة الدنيا بإقامة دولة الإسلام وانتشار العدل والرحمة والهدى في ربوع المعمورة، يتذكر المسلم الجائزة الكبرى عند الله يوم القيامة، جائزة الجزاء الأوفى. يتذكر ويتصور كيف يأخذ أجره بغير حساب، والناس يأخذون أجورهم بأعمالهم عدا الصابرين المحتسبين في سبيل الله لإعلاء دينه (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (الزمر: من الآية10)، وقال عليه السلام: «إذا رأى الناس الصابرين يوم القيامة يأخذون أجورهم بغير حساب تمنوا أن لو كانوا ينشرون بالمناشير ويحملون على الخشبة» (القرطبي – باختصار).

ويتذكر الرضى من الله عز وجل، أعظم نعمة ينالها الإنسان في هذا الوجود، وليس بعدها ولا قبلها. يتذكر حديث المصطفى عليه السلام عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تبارك وتعالى يقول لأهل الجنة، يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك، فيقول أنا أعطيكم أفضل من ذلك، قالوا: يا رب وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا» (رواه البخاري). فما أعظمها من نعمة، كيف لا وهي من عظيم متعال صاحب صفات الكمال والجلال والعظمة.

ويتذكر كذلك مع هذا الرضا الإلهي العظيم الصحبة الطيبة مع سلف هذه الأمة الأبرار في دار خلد لا تبيد ولا تبلى في ظلال عرش الرحمن، صحبته مع الأنبياء والصديقين والشهداء، وحسن أولئك رفيقا.

إن هذا الجزاء الأوفى، هذا الجزاء العظيم ليستحق من حامل الدعوة أن يخلص لله العمل، ويتفانى في ذلك، ويبذل أغلى ما يملك من مال ومتاع، ويستحق أن يصبر على لأواء الدنيا وشظفها ومشاقها ومحنها وفتنها في سبيل هذه الغاية العظيمة، كيف لا وهو الرضا من الله، والنعيم المقيم…. في جنات عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله.

نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من الذين يجنون ثمرة الجزاء الدنيوي بالعيش في خلافة راشدة، وثمرة الجزاء الأوفى في ظل رضوان الله تعالى.

آمين يا رب العالمين.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

أبو المعتصم – بيت المقدس

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *