العدد 158 -

السنة الرابعة عشرة _ كانون الأول 1421هــ _ حزيران 2000م

مع القرآن الكريم: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ

 (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين(190) واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين(191) فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم(192) وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين(193)) البقرة.

          يبين الله في هذه الآيات ما يلي:

  1. بعد أن ذكر الله سبحانه أمور الحج في الآية السابقة ذكر في هذه الآيات بعض أمور القتال، ثم أعاد الله سبحانه ذكر الحج بقوله: (وأتموا الحج والعمرة لله) إلى آخر آيات الحج بعدها.

          وقد قرن الله سبحانه في كثير من الآيات ذكر الحج وذكر الجهاد، فبعد ذكره سبحانه (ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات… وأولئك هم المهتدون) البقرة: 154ـ157 ذكر سبحانه الحج والعمرة (إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر…) البقرة: 158.

          وبعد أن ذكر الله سبحانه آيات الحج في سورة الحج (وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود * وأذن في الناس بالحج… لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم وبشر المحسنين) الحج: 38ـ37. بعد ذلك ذكر الله سبحانه آيات في القتال (إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كلّ خوان كفور * أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا… ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز * الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور) الحج: 38ـ41.

          وكأن المشقة الحاصلة في أداء مناسك الحج وبخاصة كلما ابتعد الحاج في مسكنه ببلده عن أماكن الحج، كأن هذه المشقة مع المشقة الواقعة في الجهاد تبين الحكمة من ذكر الحج والجهاد متتابعين في معظم الآيات التي ذكرت الحج.

          وكأن تكفير السيئات بالحج المبرور والشهادة في سبيل الله تبين العلاقة المهمة بين الحج والجهاد.

          حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سألته عائشة رضي الله عنها عن عدم فرض الجهاد على النساء بل على الرجال، وفي هذا مزية للرجال قال صلى الله عليه وسلم: “إن عليكن جهادا لا قتال فيه: الحج إلى بيت الله الحرام”(1).

          ولما حج رسول الله صلى الله عليه وسلم السنة العاشرة للهجرة (حجة الوداع) وبعد أن أكمل صلى الله عليه وسلم وبيّن للمسلمين مناسك الحج ورجع صلى الله عليه وسلم كان من أوائل الأعمال التي قام بها في المدينة أن جهز جيش أسامة لقتال الروم أي كان الجهاد من أوائل أعماله صلى الله عليه وسلم لمّا رجع من الحج إلى المدينة.

          وقد حج أبو بكر t السنة الثانية عشرة للهجرة، ولما أكمل حجه ورجع إلى المدينة كان من أوائل أعماله أن سيّر الجيوش لقتال الفرس والروم ثم كانت معركة اليرموك التي توفي أبو بكر t خلالها.

          ثم حج خالد t خلال معاركه في العراق، وبعد أن أكمل نسكه عاد فأكمل جهاده.

          وحج عمر السنة الرابعة عشرة للهجرة وخلال حجه استنفر المسلمين لقتال الفرس في القادسية.

          وهكذا كان يصنع بعض الخلفاء الأتقياء بعد الخلفاء الراشدين، فكان بعضهم يغزو عاما ويحج عاما وكأن الحج والجهاد فيهما تقابل وتواصل.

          هذا هو الحج في كتاب الله والجهاد في كتاب الله وفي سنة رسول الله وفي سيرة الخلفاء الراشدين ومن تبعهم من الخلفاء الصالحين، كانت زحوفهم إلى حجهم تتواصل مع زحف جيوشهم إلى قتال عدوهم، ثم (فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتّبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا) مريم: 59 ففصلوا أحكام الإسلام عن بعضها فسمحوا بالدعوة للعبادات ولكنهم اشترطوا الصمت المطبق عن الدعوة للخلافة والجهاد، فصلوا الصلاة عن الخلافة والذهاب للحج عن زحف الجيوش للقتال، بل بلغت بهم الجرأة على دين الله فقالوا بتعطيل الجهاد، وبالجهاد السلمي، وأخيرا لم يستحيوا فألغوه في مؤتمراتهم قاتلهم الله أنّى يؤفكون.

          إنّ الإسلام كلّ لا يتجزأ، أحكامه آخذ بعضها برقاب بعض، لا تفصل العبادات عن المعاملات ولا الأخلاق والمطعومات والملبوسات عن الخلافة وبيعة الخليفة وتحريك جيوش المسلمين للقتال، ولا تنفصل حسن المعاملة مع الجار ولا بر الوالدين عن السياسة الحربية والعلاقات الدولية.

          هكذا في كتاب الله وسنة رسوله صلوات الله عليه وسلامه، وهكذا صنع وعمل الخلفاء الراشدون والصحابة والتابعون بإحسان، حشرنا الله معهم في جنات النعيم في الفردوس الأعلى ورضوان من الله أكبر (فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا) النساء: 69.

  1. يأمر الله سبحانه أن نقاتل في سبيل الله الذين يقاتلوننا، وهم الذين عندهم القدرة على قتالنا من الكفار المحاربين دون الذين لا قدرة لهم على قتالنا كالنساء والأطفال والشيوخ وأحبارهم ورهبانهم، فإن قاتل هؤلاء قاتلناهم. أما في الحكم العام فنحن مأمورون بقتال الأعداء القادرين على القتال كما ذكرنا.

          وينهانا الله سبحانه أن نعتدي في قتالنا فلا نقتل طفلاً أو شيخاً أو امرأة، أو نتجاوز أوامر الله في القتال كالغدر والغلول والمثلة أو قطع الشجر إلا ما اقتضته السياسة الحربية بنص شرعي.

          فقد كان يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم للجيش الذي يرسله للقتال: “اغزوا في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا الوليد ولا أصحاب الصوامع”(2).

  1. (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم) أي قاتلوا في سبيل الله المقاتلين من الكفار وليس فقط الذين يبدءونكم بالقتال، بل الذين عندهم المقدرة على قتالكم لأن الجهاد هو مبادأة الكفار بالقتال وليس حرباً دفاعية، بمعنى أن لا نقاتلهم إلا إذا قاتلونا.

          فإن آيات الله سبحانه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم تبين أن الجهاد هو مبادأة الكفار بالقتال لنشر الإسلام وفتح البلاد وإعلاء كلمة الله.

          (قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة) التوبة: 123.

          (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله) البقرة: 193.

          (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) التوبة: 29.

          وغيرها كثير… وكلّها تدلّ على مبادأة الكفار بالقتال لنشر الإسلام.

          وكذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم:

          “اغزوا في سبيل الله قاتلوا من كفر…”(3).

          والحديث “ادعهم إلى ثلاث خصال فأيهن أجابوك فاقبل منهم…”(4).

          والفتح الذي تمّ في عهد رسول الله وعهد الخلفاء الراشدين شاهد على ذلك، وكله مبادأة للكفار بالقتال لإعلاء كلمة الله.

          ويكون معنى الآية:

          قاتلوا في سبيل الله مُقاتلة الكفار أي المقاتلين منهم ولا تعتدوا فلا تقتلوا الذين لا يقاتلونكم من النساء والولدان والشيوخ والأحبار والرهبان الذين في صوامعهم فإن قاتلوا فعندها يقتلون، فقد مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على امرأة مقتولة فقال صلى الله عليه وسلم: “ما كانت هذه لتقاتل”(5) وأنكر قتلها، ومفهوم هذا الحديث أنها لو قاتلت تقتل.

          فمعنى لا تعتدوا أي لا تتجاوزوا أحكام الشرع في قتال العدو، فلا تفعلوا ما حرّم فعله في القتال، وليس معناه أن لا تبدءوا عدوكم بالقتال بحال من الأحوال.

          ولذلك فإن قول الذين قالوا إن الآية تعني أنه في أول الإسلام كان القتال فقط إذا اعتدى على المسلمين، ثم نسخت فيما بعد بالآيات الدالة على مبادأة القتال هذا القول مرجوح لأن النسخ لا يُعمد إليه إلا إذا وجد التعارض من كلّ وجه، وهنا لا تعارض فالآية لا تعني أن لا نبدأ الكفار بالقتال بل أن لا نعتدي بتجاوز الحدّ في قتالهم، فلا نزيد عما أجازه الشرع في قتالهم كما بينا، وليس معنى (لا تعتدوا) أي لا تبدءوا القتال بل أن لا تتجاوزوا حدود الشرع في قتالهم كالتمثيل وقتل الأطفال… إلخ، ولذلك فلا تعارض بين آيات القتال وبالتالي لا نسخ.

  1. القتال في سبيل الله هو القتال لإعلاء كلمة الله وليس لمصلحة أو سمعة أو رياء، يقول صلوات الله وسلامه عليه وقد سئل عن الرجل يقاتل سمعة ورياء… فقال: “سئل النبي عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء، أي ذلك في سبيل الله؟ فقال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله”(6).

          فالذي يقاتل رياء أو وطنية مجردة أو مصلحة دنيوية فليس في سبيل الله، ولذلك فالنية تعتبر في الجهاد وهو كالعبادات، النية شرط صحة فيه: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين) آل عمران: 142.

  1. يبين الله سبحانه في كثير من آياته وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم أمور القتال والسياسة الحربية، وفي الآية التالية (واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم) يبين الله سبحانه أمرين من أمور القتال:

  أ-     إنه يصح قتال الكفار المحاربين في كل مكان إلا مكاناً واحداً استثنته الآية الكريمة وهو (عند المسجد الحرام) بشرط أن لا يقاتلونا فيه فإن قاتلونا فيه قاتلناهم (واقتلوهم حيث ثقفتموهم) أي في كل مكان وجدتموهم فيه لأن (حيث) ظرف للمكان.

ب- إنه يجب إخراج الكفار المحاربين من كل مكان اخرجوا المسلمين منه ولا يصح إقرارهم على البقاء فيه وكل اتفاق معهم لإقرارهم يعتبر باطلا (أخرجوهم من حيث أخرجوكم).

          (واقتلوهم حيث ثقفتموهم) أي حيث وجدتموهم. والثقف: الوجود على وجه الأخذ والغلبة.

          (والفتنة أشد من القتل) أصل (الفتنة) في لغة العرب عرض الذهب على النار لتنقيته من الغش، ثم استعمل في الابتلاء للمؤمنين بتعذيبهم ومحاولة صرفهم عن دينهم وصدهم عن سبيل الله ونشر للشرك بينهم، وهي هنا كذلك فإنها بيان من الله للمؤمنين أن لا يتقاعسوا عن قتال الكفار، فهم قد حاولوا فتنتهم عن دينهم بشتى أنواع العذاب والفتنة أشدّ من القتل فكأنهم قتلوا المؤمنين مراراً بمحاولة فتنتهم تلك، فلينشط المؤمنون في قتالهم دون هوادة.

  1. ويبين الله للمؤمنين، أن لا يقاتلوا الكفار عند المسجد الحرام إلا إن قاتلوهم فيه، وقد نزلت لأن المؤمنين كانوا يتحرجون من قتال الكفار عند المسجد الحرام، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه عندما رجعوا من الحديبية، على أن يعودوا للعمرة في العام المقبل، توقع المسلمون أن يحاول الكفار منعهم من العمرة في العام المقبل كذلك، وأن يحاولوا قتال المؤمنين لصدهم، وبالتالي يضطر المؤمنون لقتالهم فكيف يكون ذلك؟ أي كيف سيقاتل المسلمون الكافرين عند المسجد الحرام؟ فنـزلت الآية تبين للمؤمنين، أن النهي خاصّ بالبدء بقتال الكافرين عند المسجد الحرام، ولا يشمل هذا النهي قتال الكفار، إذا هم بدءوا المؤمنين بالقتال عند المسجد الحرام، كما روى ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن المشركين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البيت عام الحديبية، وصالحوه على أن يرجع عامه القابل، ويخلونه في مكة ثلاثة أيام، فيطوف بالبيت ويفعل ما يشاء، فلما كان العام المقبل، تجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لعمرة القضاء، وخافوا أن لا تفي لهم قريش بذلك، وأن يصدوهم عن المسجد الحرام ويقاتلوهم، وكره أصحابه قتالهم في الشهر الحرام في الحرم فأنزل الله تعالى الآية.

          وبذلك فالنهي لا يشمل قتال الكفار إن هم بدءوا قتال المؤمنين في الحرم، فإن تركوا القتال في الحرم وأنابوا إلى الإسلام والتوبة فإن الله غفور رحيم.

  1. ثم يأمر الله سبحانه المسلمين أن يقاتلوا الكفار حتى يقضوا على الشرك والصدّ عن سبيل الله وتعذيب المؤمنين ومحاولة صرفهم عن دينهم، وكذلك حتى يكون الدين لله خالصا فإن انتهوا عن شركهم وكفرهم وصدهم عن سبيل الله فليوقف المسلمون القتل عنهم لأن القتل لا يكون إلا للظالمين، وما داموا قد تركوا الكفر ودخلوا في الإسلام فلم يعودوا ظالمين.

          (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة) أي حتى ينتهي الشرك والصدّ عن سبيل الله وتعذيب المؤمنين لصرفهم عن دينهم.

          (ويكون الدين لله) أي يصبح الدين خالصا لله ليس فيه شرك، وهذا تشعر به (اللام) الداخلة على (الله) سبحانه وهي تفيد الملك الخالص. ولم يذكر هنا (ويكون الدين كله لله) الأنفال: 39 كما في الأنفال، فتلك للكفار عموماً (قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنت الأولين * وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير) الأنفال: 38ـ39… لأن آية البقرة هذه في مشركي العرب أي في جزء من الكفار، وآية الأنفال في الكفار عامة فناسب العموم في آية الأنفال (الدين كله لله) على غير وضعه في الآية هنا (الدين لله).

          (فلا عدوان إلا على الظالمين) عقوبة الظالمين هي ليست في الحقيقة عدوانا ولكنها استعملت هنا استعمالا مجازيا على نحو قوله تعالى: (وجزاء سيئة سيئة مثلها) الشورى: 40 وقوله سبحانه: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) البقرة: 194 أي تسمية عقوبة السيئة بالسيئة وعقوبة المعتدي بالاعتداء .

ــــــــــــــ

(1)  البخاري: 1423، 1728، أحمد: 6/165، ابن ماجه: 2892.

(2)  أحمد: 4/240، 5/352.

(3)  أحمد: 4/240، 5/352.

(4)  مسلم: 3261.

(5)  أبو داود: 2295، أحمد: 4/178، 3/488.

(6)  البخاري: 120، 2599، مسلم: 3525.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *