العدد 136 -

السنة الثانية عشرة – جمادى الأولى 1419هـ – أيلول 1998م

الإمارة أمانـة

الإمارة أمانـة

أخرج ابن عساكر عن عاصم قال جمع أبو بكر رضي الله عنه الناس وهو مريض، فأمر من يحمله إلى المنبر، فكانت آخر خطبة خطب فيها، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا أيها الناس احذروا الدنيا ولا تثقوا بها غَرّارة، وآثروا الآخرة على الدنيا، فأحبوها فبحب كل واحدة منهما تبغض الأخرى، وإن هذا الأمر الذي أملكَ بما لا يصلح آخره إلا بما صلح أوله، فلا يحمله إلا أفضلكم مقدرة، وأملككم لنفسه، وأشدكم في حال الشدة، أسلسكم في حال اللّين، وأعلمكم برأي ذوي الرأي، لا يتشاغل بما لا يعنيه، ولا يحزن لما ينزل به، ولا يستحيي من التعلم، ولا يتحير عند البديهة، قوي على الأمور، ولا يخور منها، يرصد لما هو آت، عتاده من الحذر والطاعة، وهو عمر بن الخطاب. ثم نزل.

 (غرّارة: من يثق بها يخدع: ]فَلَا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا[ ـ أسلسكم: أرقكم وأسهلكم ـ عتاده: عُدّته وأُهبته).

وأخرج ابن سعد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خدمت عمر رضي الله عنه خدمة لم يخدمها أحد من أهل بيته، ولطفت به لطفاً لم يلطفه أحد من أهله، فخلوت به ذات يوم في بيته وكان يجلسني ويكرمني، فشهق شهقة ظننت أن نفسه سوف تخرج منها فقلت: أمن جزع يا أمير المؤمنين؟ قال: من جزع، قلت: وماذا؟ فقال: اقترب، فاقتربت. فقال: لا أجد لهذا الأمر أحداً فقلت: وأين أنت من فلان وفلان وفلان وفلان وفلان وفلان، فسمى له الستة أهل الشورى، فأجابه في كل واحد منهم بقول، ثم قال: إنه لا يصلح لهذا الأمر إلا قوي في غير عنف، لين في غير ضعف، جواد في غير سرف، ممسك في غير بخل.

وعند عبد الرزاق عن عمر رضي الله عنه قال لا ينبغي أن يلي هذا الأمر إلا رجل فيه أربع خصال: اللين في غير ضعف، والشدة في غير عنف، والإمساك في غير بخل، والسماحة في غير سرف، فإن سقطت منهن واحدة فسدت. (السماحة في غير سرف: بلا جهل).

وأخرج ابن سعد وابن عساكر عن محمد بن زيد رضي الله عنه قال: اجتمع علي وعثمان والزبير وطلحة وعبد الرحمن بن عوف وسعد رضي الله عنهم وكان أجرأهم على عمر عبد الرحمن بن عوف. قالوا: يا عبد الرحمن لو كلمت أمير المؤمنين للناس، فإنه يأتي الرجل طالب الحاجة فتمنعه هيبتك أن يكلمك في حاجته، حتى يرجع ولم يقض حاجته. فدخل عليه فكلمه، فقال: “يا أمير المؤمنين لِـنْ للناس، فإنه يقدم القادم فتمنعه هيبتك أن يكلمك في حاجته حتى يرجع ولم يكلمك”. قال يا عبد الرحمن أنشدك بالله أعلي وعثمان وطلحة والزبير وسعد أمروك بهذا؟ قال: اللهم نعم، قال: يا عبد الرحمن والله لقد لنت للناس حتى خشيت الله في اللين، ثم اشتددت عليهم حتى خشيت الله في الشدة فأين المخرج؟ فقام عبد الرحمن يبكي يجر رداءه بيده يقول: أف لهم بعدك.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما ولي عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال له رجل: لقد كاد بعض الناس أن يحيد هذا الأمر عنك قال عمر: وما ذاك؟ قال: يزعمون أنك فظ، قال عمر الحمد لله ملأ قلبي لهم رحماً وملأ قلوبهم لي رعباً.

وكان رضي الله عنه لا يتردد في مشاورة أهل الرأي من الرجال إذا أهمه أمر. أخرج البيهقي وابن السمعاني عن ابن شهاب قال: كان عمر رضي الله عنه إذا نزل الأمر المعضل دعا الفتيان فاستشارهم يقتضي حدة عقولهم. وعن ابن سيرين قال: إن كان عمر بن الخطاب يستشير حتى إن كان ليستشير المرأة، فربما أبصر في قولها الشيء يستحسنه فيأخذ به. وكان رضوان الله عليه إذا ما أراد أن يستعمل رجلاً على أمر من أمور المسلمين فإنه يقول: أريد رجلاً إذا كان أميرهم كان كأنه رجل منهم، وإذا لم يكن أميرهم كأنه أميرهم.

وأخرج الطبراني عن أبي وائل شقيق ابن سلمة أن عمر بن الخطاب استعمل بشر بن عاصم رضي الله عنه على صدقات هوازن، فتخلف بشر فلقيه عمر، فقال: ما خلفك؟ أما لنا سمع وطاعة؟ قال: بلى، ولكن سمعت رسول الله r يقول: «من ولي شيئاً من أمر المسلمين أتي به يوم القيامة حتى يوقف على جسر جهنم، فإن كان محسناً نجا، وإن كان مسيئاً انخرق به الجسر فهوى فيه سبعين خريفاً» قال: فخرج عمر رضي الله عنه كئيباً محزوناً، فلقيه أبو ذر رضي الله عنه فقال: ما لي أراك كئيباً حزيناً؟ فقال: ما لي لا أكون كئيباً حزيناً؟ وقد سمعت بشر بن عاصم يقول: “من ولي شيئاً من أمر المسلمين أتي به يوم القيامة حتى يوقف على جسر جهنم، فإن كان محسناً نجا، وإن كان مسيئاً انخرق به الجسر فهوى فيه سبعين خريفاً” فقال أبو ذر رضي الله عنه: أو ما سمعته من رسول الله r؟ قال: لا، قال أشهد أني سمعت رسول الله r يقول: «من ولّى أحداً من المسلمين أتي به يوم القيامة حتى يوقف على جسر جهنم، فإن كان محسناً نجا، وإن كان مسيئاً انخرق به الجسر فهوى فيه سبعين خريفاً، وهي سوداء مظلمة»، فأي الحديثين أوجع لقلبك. قال كلاهما قد أوجع قلبي فمن يأخذها بما فيها؟ فقال أبو ذر رضي الله عنه: من سَلَتَ أنفَه اللهُ، وألصق خده بالأرض، أما أنا لا نعلم إلا خيراً، وعسى إن وليتها من لا يعدل فيها أن لا تنجو من إثمها. [سلمت أَنفَه: جدعه وقطعه].

 هكذا فهم الصديق والفاروق الإمارة: نصح للأمة، وتولية خيارها، وإحساس عميق بالمسؤولية عن حاضرها ومستقبلها. فانتقلا إلى بارئهما، راضيين مرضيين، بعد حياة حافلة بخدمة الأمة ونصرة دينها، فاستحقا هذا التكريم والتقدير من أمة الإسلام إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها q

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *