العدد 376 -

السنة الثانية والثلاثين – جمادى الأولى 1439هـ – شباط 2018م

في (جنيف) وليس في (أستانا) ولا (سوتشي)… تريد أميركا أن تحقق أهدافها في سوريا

بسم الله الرحمن الرحيم

في (جنيف) وليس في (أستانا) ولا (سوتشي)… تريد أميركا أن تحقق أهدافها في سوريا

 

مؤتمرات الخيانة والتآمر على المسلمين:

 شهدت عملية القضاء على الثورة في سوريا ضد نظام الأسد الطاغوتي كثرة وتواترًا في عقد المؤتمرات المنتظمة ذوات العدد، وغير المنتظمة (جنيف- أستانة- فيينا- الرياض- موسكو- سوتشي… ) وقد كان يراد، من خلال تتالي انعقاد تلك المؤتمرات، تحقيق أهداف اللاعبين شيئًا فشيئًا، وعلى رأسهم أميركا، في القضاء على النفَس الإسلامي فيها، وإيجاد نظام حكم علماني بفرض دستور علماني عليها، وتأمين حاكم عميل لأميركا ليكون بديلًا عن بشار… وأخطر ما في هذه المؤتمرات أنها تجعل وصاية للخارج عليها، وتحديدًا لأميركا، وتهمش الدور الحقيقي لأهل سوريا، وتحديدًا المسلمين فيها، وتفرض عليهم الحلول ، معتمدة على إثارة الخلافات بين مكوناتهم، وفرض معارضة متعددة الولاءات، غير مولودة من رحم أهلها من المسلمين، وتسيطر عليها الدول الداعمة التي اعتمدت على شراء ذممهم وتبديلهم باستمرار بهدف غربلتهم وانتقاء الأسوأ منهم للناس، والأكثر عمالة وانصياعًا لأوامرهم… ووصل الحال بهذه المؤتمرات أن يعقد بعضها من دون حضور أحد من أعضاء المعارضة الذين يعتبرون زورًا أنهم ممثلون للناس، ومعلوم أن هذه المعارضة السياسية الخارجية حرص الغرب على أن تكون غير متجانسة، ومتنازعة الأهواء والولاءات، ولا تمثل الناس… حتى تكون ضعيفة فتسهل قيادتها… لقد كان لهذه المؤتمرات مجتمعة إسهامها في تحقيق خطوات الحل الذي حددته أميركا… ومعلوم أن مثل هذه المؤتمرات تقدَّم فيها الأثمان الباهظة، ومثل هذه المؤتمرات يقودها ويتحكم بها دول معادية للإسلام، وللمسلمين العاملين لإقامة الخلافة. وبالخلاصة، فإن هذه المؤتمرات هي مؤتمرات خيانة وتآمر على المسلمين بكل معنى الكلمة.

مؤتمر جنيف (1) هو أساس التسوية عند أميركا:

لقد استطاعت أميركا أن تجعل من مؤتمر جنيف (1) هو الأساس في التسوية، وتحديدًا البند المتعلق بـ “إقامة هيئة حكم انتقالية باستطاعتها أن تُهيّئ بيئة محايدة تتحرك في ظلّها العملية الانتقالية، وأن تمارس هيئة الحكم الانتقالية كامل السلطات التنفيذية، ويمكن أن تضم أعضاءً من الحكومة الحالية والمعارضة ومن المجموعات الأخرى، ويجب أن تُشكّل على أساس الموافقة المتبادلة”. وهذا البند اعتبرت أميركا أنه يحقق هدفها على أفضل ما تريد. بيد أن هذا البند حين تم إقراره لم يكن قابلًا للتنفيذ في ظل الأوضاع الميدانية القائمة، ويحتاج تطبيقه إلى تهيئة تشكيلة حكم متكاملة، من حاكم عميل لها يحل محل عميلها المجرم بشار، ومن وجوه سياسية جديدة يشكلون وسطًا سياسيًا جديدًا لها، منهم ستتشكل الحكومات ويكون الوزراء، ومنهم سينتخب نوَّاب البرلمانات… ويحتاج إلى تهيئة رؤساء أجهزة أمنية تضمن الحفاظ على الحكم الجديد العميل لها، ومن رؤساء قوى أمن داخلي يتسلمون قيادة أمن البلد لمصلحتها، ويمنعون أي خطر داخلي عليه، ومن قيادات للجيش يكونون مهيَّئين للسير في سياسة البلد الخارجية مع الحكم… وكذلك تحتاج أميركا إلى وقت من أجل العمل على كسر إرادة المسلمين في التغيير، وتغيير موقفهم من الطرح الإسلامي… وتحتاج كذلك إلى شراء ذمم قادة الفصائل المسلحة ليسيروا بحسب التوجه السياسي للحل الذي سيصدر من المؤتمر الأخير لـ “جنيف”…

من هنا نجد أن أميركا تحرص دائمًا على التذكير بأن مقررات جنيف (1) هي الأساس للتسوية، وتمنع كل محاولة لخطف التسوية منها، سواء في سوتشي أم في غيرها… وهناك جانب لا يقل أهمية عما سبق، ومن شأنه أن يؤخر الحل، وهو أن يتم إيقاع أكبر قدر ممكن من الهدم والتدمير لتقوم ورش الإعمار في الدول التي لها مصلحة في ذلك، والتي تعود على ميزانياتها وميزانيات شركاتها بالأموال الطائلة… وكذلك هناك جانب يفوق كل جانب في الأهمية، وتضعه أميركا على رأس أولوياتها، وهو أنها تريد إيقاع أكبر قدر ممكن من القتل والتشريد والنزوح وجعل الناس يعيشون أسوأ الظروف الحياتية، حتى تمنع الأمة من أن تقوم مرة أخرى ضد حكامها العملاء لها.

لذلك لم تعتبر أميركا أن الوضع في سوريا قد انتهى بمجرد إقرار بنود جنيف (1)، بل اعتبرت أنها قد ضمنت الحل الذي تريده، ولكن على الورق، وعليها أن تؤمنه على أرض الواقع بما يضمن أن يكون الحكم في سوريا مستقبلًا تابعًا لها حصرًا… ثم إن أميركا تتصرف في سوريا على اعتبار أن حكم بشار أسد تابع لها، وأنه يجب أن يبقى كذلك؛ لذلك هي متيقظة وتمنع كل محاولة تريد أن تجعل الحكم يخرج من يدها.

ومما يجدر ذكره أن مؤتمر جنيف (1)، وبحسب القانون الدولي، لم تكن بنوده مُلزمة لأحد، ولم تصدر تحت الفصل السابع من ميثاق مجلس الأمن، ولم تُحدِّد بصورة واضحة وصريحة مصير رأس النظام السوري السفاح بشار ومعاونيه ممن أجرموا بحق الشعب السوري، وكل هذا كان مقصودًا؛ فأميركا التي رعت هذا المؤتمر (ومعها روسيا) هي على دراية واسعة جدًا باللعب في وضع البنود الأفخاخ فيه، وبإبعاد البنود التي لا تناسبها، وبالتفاوض على البنود التي لا توافق مصالحها وتبديلها، وهي خططت لأن تفرض ما يناسب مصالحها عبر طاولة المفاوضات بعد أن تحقق على الأرض عسكريًا ما يمكنها من ذلك. وخطتها العامة في ذلك كانت تقضي بإيصال طرفي الصراع إلى حالة الإنهاك التي تؤدي إلى التسليم لها بما تريد. وهذا البند الذي لا يتناول مصير الأسد في التسوية يتذرع به النظام السوري ومعه روسيا لبقائه في الحكم، وتسمح كل من أميركا ودول أوروبا وتركيا والسعودية لنفسها أن تغير موقفها من بقاء الأسد أو عدم بقائه بحسب مصالحها، وبحسب الوقائع على الأرض؛ لذلك نرى تبدل مواقف هذه الدول وتذبذبها حيال هذا الموضوع… وبمعنى آخر، أكد مؤتمر جنيف (1) بندًا اعتبر أنه سيكون أساس التسوية، وهو وجود هيئة الحكم الانتقالية، وترك الباقي على الغارب، أي قابل للأخذ والرد، والفرض والرفض… وذلك بحسب قوة كل طرف على تحقيق مطالبه دون غيره، كمصير الأسد الذي أغفله عن قصد.

ومما يجدر ذكره أيضًا أن مؤتمر جنيف (1) يلقى شبه إجماع بالقبول لدى الجميع، وأولهم المعارضة. ونظراً لضعفها كانت ترى فيه خشبة الخلاص، خاصة بعد التدخل الروسي العسكري المباشر. وأصبح هو مفتاح الحل دوليًا. وحتى النظام السوري الذي وافق عليه أولًا، كان لا يستطيع أن يعلن غير ذلك، ولكنه كان يتهرب من البحث في بند الحكم الانتقالي، متذرعًا بعدم تحديد جنيف (1) مدة لبقاء الأسد في الحكم، ويركز على بند محاربة الإرهاب أولًا. وفي المقابل كانت المعارضة تصر على البحث في بند الحكم الانتقالي، وعدم بقاء الأسد أولًا ، ولهذا السبب كانت تفشل المؤتمرات وتؤجل وتأخذ أرقامًا…

بعد مؤتمر جنيف (1) عقدت مؤتمرات عدة أرادت أميركا أن توطئ من خلالها الأرض لتنفيذ بند الحكم الانتقالي كما قلنا، وقد تحققت في هذه المؤتمرات فعلًا أهداف كانت كلها تصب في مصلحة تحقيق بند الحكم الانتقالي وعندما سيتهيأ لأميركا ترتيب التسوية بحسب مصلحتها، سيهبط الحل على المؤتمر الأخير لجنيف بالمظلة الأميركية؛ وذلك كما صرح دي مستورا في نهاية مؤتمر جنيف (7) حيث قال: “مجمل ما نفعله في جنيف ما هو إلا إجراء مقاربات ممكنة بين وفد النظام ووفد المعارضة، وإعداد الوثائق اللازمة لسورية المستقبل، تحضيرًا لحلٍّ مُحتمل قد يأتي بصورة مفاجئة، وينجم عن توافق دولي لإنهاء المأساة في سورية”، فهذا التصريح يفيد أن هذه المؤتمرات المتسلسلة تهيئ للحل الأميركي النهائي، وأن الحل لن يأتي من أطراف النزاع، وإنما سيأتي من الخارج، أي من التوافقات الدولية، أي من أميركا.

أميركا ترتكب أبشع الجرائم لتحقيق مقررات جنيف (1):

وأميركا من أجل تأمين كل الذي ذكرناه، وإيجاد الأرضية الصالحة من أجل أن تستقر الأمور لها، غضت الطرف عن تدخل إيران العسكري لمصلحة النظام، وسكتت عن استقدام إيران لميليشيات من لبنان والعراق وارتكابهم لأبشع الجرائم، وسمحت لهم باستعمال مختلف أنواع الأسلحة الفتاكة بحق الناس، في الوقت الذي منعت فيه الدول الأخرى من تزويد الفصائل المسلحة بها بحجة الخوف من وقوعها بيد المتطرفين، ومنعت إصدار قرار دولي بإيجاد مناطق حظر الطيران ما جعل الأجواء مكشوفة أمام طائرات النظام لتلقي البراميل المتفجرة بحق المدنيين، وهي تبغي من ذلك جعل الحاضنة الشعبية ترتد على الثورة وعلى الفصائل المسلحة وتنفصل عنها بسبب ما جرته عليهم من ويلات. ولكن بالرغم من كل هذه المساعدة  التي حظي بها النظام السوري، وبالرغم من كل هذا الإجرام الذي ارتكبه بحق المسلمين هناك، لم يستطع هذا النظام أن يصمد أمام ثوران الناس عليه؛ الأمر الذي اضطر أميركا إلى الاعتماد على روسيا؛ فاتفقت معها على التدخل العسكري المباشر؛ لقاء اتفاق مصالح سري عقد بينهما، فحدث هذا التدخل في 30/9/2015م. وحتى هذا التاريخ، تاريخ التدخل الروسي العسكري المباشر كان قد عقد من مؤتمرات جنيف فقط مؤتمر جنيف (1) و(2) فقط،

ويذكر هنا أنه قبل حدوث هذا التدخل مباشرة، وفي منتصف عام 2015م، كثر الحديث عن توقع سقوط الأسد المفاجئ  في وسائل الإعلام وفي تصريحات المسؤولين. ففي 17/7/2015م، ذكرت صحيفة “نيويورك تايمز” أن أوباما صرح لها بما يلي: “لقد تشجّعتُ حينما اتصل بي السيد (الرئيس الروسي فلاديمير) بوتين قبل أسبوعين وفاتحني بالحديث حول سورية”. وأضاف: “أعتقد أنهم (الروس) يرون أن نظام (الرئيس السوري بشار) الأسد تتراخى قبضته على مساحات أكبر فأكبر داخل سورية، وأن إمكانية الاستيلاء أو القضاء على النظام السوري، ليست محسومة، ولكنها أصبحت خطرًا يتعاظم كل يوم، وهو ما يعطينا فرصة للمباشرة في حوار معهم (الروس)”.

وما يجدر ذكره هنا، أن جنيف (1) عقد عام 2012م، ثم بعد سنتين، أي في 2014م عقد جنيف2، ثم بعده بسنتين، أي عام 2016م عقد جنيف3… ولكن في عام 2017م وحده، وهو العام الذي بدأ فيه انعقاد مؤتمرات أستانة التي كانت تتحكم بها روسيا، عقدت خمسة مؤتمرات لجنيف، ولم تكن مقرراتها بذات أهمية؛ وهذا مؤشر إلى وجود تخوف أميركي من أن يتم تحويل الحل في سوريا من مؤتمرات جنيف التي تتحكم فيها إلى مؤتمرات أستانة التي تتحكم روسيا فيها؛ فأرادت أن تجعل من الجميع لا ينسون أن جنيف هي المعبر الوحيد للحل، وقد ظهر من تصرفات مسؤوليها وتصريحاتهم أنهم كانوا يقاومون محاولات روسيا أن تكون هي مطبخ الحل؛ سواء في موسكو، أم في أستانا، أم في سوتشي، أم في أي مكان آخر قد تختاره روسيا.

وإنه من المعلوم أنه بعد حصول التدخل الروسي، وقلب المعادلة العسكرية لمصلحة النظام خلال سنة، وتحديدًا بعد خيانة سقوط حلب بيد النظام التي ارتكبها أردوغان، سار إلى جانب مؤتمرات جنيف مؤتمرات أستانة، وكان مرسومًا لها، أن تقتصر اهتماماتها على الجوانب العسكرية فقط، وأن تستغل تحقيق انتصار روسيا العسكري على الفصائل المقاتلة لمصلحة النظام؛ لإجبار المعارضة على الدخول في مفاوضات الحل النهائي عبر جنيف وهي ضعيفة منهكة منكسرة، ولإملاء شروط الحل عليها إملاء، ولكن الذي حدث أن روسيا ظهر منها ما لا يوافق مخطط أميركا للحل عبر جنيف هذا، ظهر منها دعوتها إلى مؤتمر سوتشي الذي راحت تعمل من خلاله على بحث الجوانب غير العسكرية والمتعلقة بالحل، من مثل تهميش دور المعارضة الخارجية التي تمسك بها أميركا مباشرة، أو عن طريق عملائها من مثل السعودية وتركيا، بالعمل على فرطها وشرذمتها وتقزيم دورها، وإيجاد معارضة أخرى مؤثرة تكون تابعة لها، بإيجاد منصات تابعة لها كمنصة موسكو، وإعطاء دور كبير للمعارضة التابعة للنظام… وهددت وتوعدت المعارضة التي تعتبر تابعة لأميركا بأنها إذا لم تحضر مؤتمر سوتشي فستواجه نتائج سلبية كبيرة، وقد صدرت هذه التهديدات من قاعدة حميميم العسكرية الروسية؛ ما يعني أنه تهديد عسكري كبير لها. ومن ثم هي دعت إليه 1600 شخصية لتعطيه صفة الشعبوية والتمثيل الواسع، وسمته مؤتمر الشعوب السورية… وهذا كله أظهر أنها تتصرف على أنها راعية للحل من دون أميركا. أما أميركا التي لم تقبل أن تشارك في مؤتمرات أستانة، ولا أن تكون مراقبًا فيها، فهي من الطبيعي أن لا تسمح بالوصول إلى الحل عن غير طريقها، أي عن غير طريق جنيف، حتى ولا تقبل أن تكون روسيا مشاركة لها في الحل. وهذا ما يفسر الكباش الذي ظهر في مؤتمر سوتشي الأخير الذي عقد مؤخرًا، في أواخر كانون الثاني/يناير من هذا العام. وفيه استشرست روسيا لانعقاده، وعولَّت عليه كثيرًا، ولكن أميركا أفشلته… فهي لا تريد مفاوضات للحل السلمي إلا في جنيف، ولا معارضة إلا تلك التي تسير معها في رؤيتها للحل. إن أميركا تحرص على أن تكون هي المتحكم الأوحد في عملية فرض الحل السياسي في سوريا.

وفي هذا المجال، يمكن القول إن روسيا، بعد غاراتها المدمرة وتغيير الوضع العسكري على الأرض لمصلحة النظام، وامتناع أميركا عن التدخل المباشر واعتمادها على التدخل الروسي المباشر… راحت تتصرف على أنها الفاعل الأول في سوريا، وتعمل على فرض الحل على اعتبار أن هناك غالبًا ومغلوبًا، أي أن على المعارضة أن تذعن لإملاءاتها. ولا شك أن روسيا صدمت من موقف المعارضة الرافض لمؤتمر سوتشي وشروطها الإذعانية، ولا شك أن المرحلة القادمة ستشهد تأثرًا بهذا الذي حدث، فإن شدت روسيا على المعارضة ووسعت اعتداءاتها فمعنى ذلك أن روسيا دخلت في مواجهة مع أميركا؛ لأن قرار المعارضة أميركي وليس ذاتيًا، فالمعارضة أصلًا كانت ستحضر على خوف من روسيا وبطشها، ولكن لما جاءها الضوء الأحمر الذي يمنعها من الحضور وجدت ذلك منقذًا لها من الإذعان لشروط روسيا المذلة، وعارضت المؤتمر في الدقائق الأخيرة… وإن لم تقابل روسيا الإهانة التي لحقتها جراء فشل مؤتمر سوتشي بمزيد من الإجرام فمعنى ذلك أنها فهمت الدرس من أن أميركا لا تسمح بخروج الحل من يدها، وأن عليها أن تتصرف تبعًا لذلك. وعندها ستدعي أنها كانت تريد بالأصل أن يصب مؤتمر سوتشي في جنيف.

   أما المعارضة البائسة التي لا تملك من أمرها شيئًا، والتي تسير بحسب إملاءات الدول الداعمة لها، فإنها لم تحزم أمرها برفض مؤتمر سوتشي وبعدم حضوره؛ إلا بعد أن صدرت إليها إملاءات اللحظات الأخيرة بعدم الحضور، ومن ثم اعتبرت عدم حضورها نصرًا، بينما هو في الحقيقة ليس إلا سيرًا بحسب ما تخططه أميركا، وهي أن تفشل هذا المؤتمر في اللحظات الأخيرة؛ لتظهر قبل كل شيء فشل روسيا في أن تكون هي راعية الحل، ولتكرس فكرة أن الحل لا يكون إلا عبر مؤتمر جنيف (1). فأميركا لا تقبل أن يكون لها شريك في الحل، وهي كما ذكرنا من قبل، تعتبر أن الحكم في سوريا يجب أن يبقى تابعًا، ولا تسمح بتجاوز ذلك.

أيها المسلمون في العالم الإسلامي عامة، وفي سوريا خاصة:

إن هذه المؤتمرات ليست إلا وجهًا من وجوه المؤامرة الكونية على ثورة المسلمين في سوريا على أوضاعهم وحكامهم، وتبغي أميركا من ورائها الإمساك الكلي بالوضع السوري الجديد، وهذه المؤتمرات ظهر للمعارضة جليًا أنها تخضع بقوة لتدخلات وضغوط الدول الكبرى والدول الداعمة، وظهر لها بما لا يدع مجالًا للشك أن أميركا تتحكم بمفاصل الحل، وتمسك بمعظم أوراق الحل.

 وفي هذه المؤتمرات ظهر على المعارضة تمسكها الشديد ببنود مؤتمر جنيف (1) الأميركية الصنع من المطالبة الملحة بإنشاء هيئة الحكم الانتقالية. وهذا مطلب أميركي بامتياز، ومن المطالبة بوقف القتال والقصف وبإطلاق الأسرى والمعتقلين، وفك الحصار عن المدن، وهذه ليست مطالب مستقبلية، بل هي مطالب تعبر عن ضعفها واستجدائها وهزيمتها… وظهر عليها تبني محاربة الإسلام تحت نفس الشعار الذي أعلنته أميركا (محاربة الإرهاب).

والآن، وبعد هذا الاستعراض لهذا المؤتمرات المشبوهة، يظهر بشكل واضح أن الطرف الأضعف فيها كانت المعارضة السياسية الخارجية التي بدت كشرابة طربوش تتحرك بأوامر أسيادها، وقد ظهر أنها مفككة، ولا تمثل الناس، ولا تملك أي خبرة أو حنكة أو نضج سياسي… وظهرت كالكرة في لعبة تتقاذفها إرادات الدول الداعمة وضغوطها التي كانت تدفعها إلى تبني مشاريع الآخرين، والتزام الخطوط الحمر الواضحة الخيانة.

 هذه المعارضة التي من المفترض أن تعتبر نفسها أنها المعنية الأولى بالحل قد تبنت مقررات مؤتمر جنيف (1) الأميركية الصنع، بعيدًا عن مطالبات الناس التي من المفترض أنها تمثلهم… فهل لا ترى هذه المعارضة مدى عداء أميركا لهذه الأمة ولدينها، وتأييدها لـ(إسرائيل)؟!… وهل لا ترى هذه المعارضة موقف أميركا من منع تسليح الفصائل بأسلحة فتاكة لإبقائها ضعيفة، ومنع إنشاء مناطق آمنة ومناطق حظر طيران ليبقى النظام السوري يلقي ببراميله المتفجرة على الناس؟!… وهل لا ترى هذه المعارضة سكوت أميركا على إجرام النظام السوري، وعلى التدخل الإيراني والتدخل الروسي، والسكوت على استعمال النظام للكيماوي ضد أهلهم؟!… وهل لا ترى هذه المعارضة موقف أميركا من بقاء الأسد في الحكم، ومن أجهزته الأمنية؟!…

والآن نحن نسأل من سميت معارضة زورًا وبهتانًا وتآمرًا: هل اختاركم الناس حتى تكونوا ممثلين لهم؟! هل أنتم تعبرون فعلًا عن حقيقة مطالب الناس؟! وهل أنتم لا تقبضون من الدول الداعمة؟! وهل لا تأتمرون بأوامرها، ولا تلتزمون خطوطها الحمر؟!…

إن أميركا وغيرها من الدول المتدخلة في الصراع في سوريا، تعلم مدى ضرورة وأهمية وجود معارضة للنظام، وتعلم خطورة الدور الذي ستقوم به هذه المعارضة؛ كونها هي المرشحة لاستلام الحكم إذا ما سقط النظام؛ لذلك هي أوجدتها بعيدًا عن اختيار الناس لها، ورسمت لها دورها، وانتقت أفرادها بعناية… ومن جهتها، روسيا تعلم كغيرها من الدول الاستعمارية خطورة هذا الدور، فأرادت اللعب به أسوة بغيرها.

وبالفعل، فإن للمعارضة مثل هذا الدور الخطر؛ لذلك فإن أشرف عمل تقوم به هذه المعارضة السياسية الخارجية الآن هو أن تتخلى عن هذه اللعبة القذرة، وأن تحلَّ نفسها، وأن تترك للناس أن يختاروا قيادتهم السياسية التي تعبر عن تطلعاتهم لتنقذهم من هذا التآمر والإجرام اللئيمين عليهم. وتقيم فيهم حكم الله فيهم. المسلمون في سوريا معنوياتهم في السماء، وهم يستمدونها من السماء، على خلاف معنويات المعارضة الموغلة في الحضيض، وفي المصالح الشخصية التافهة… نعم، إن المسلمين في سوريا يفتشون عن قيادة حقيقية لهم تعبر عن تطلعاتهم، وتلفظ أمثال هذه المعارضات.

أيها المسلمون في سوريا:

إن ما تشهدونه من هجمة وتآمر دولي لا يمكن التغلب عليه إلا بإقامة خلافة راشدة تجمع المسلمين جميعهم على نصرة دينهم، وتضع حدًا لأي عدوان خارجي، والعمل لإقامة الخلافة فرض فرضه الله عليكم. فلن تستقيم حياتكم ولن تستقر إلا في كنف الخلافة الراشدة التي يعزُّ فيها الإسلام وأهله، ويذل فيها الكفر وأهله.

قال تعالى: ﴿ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسۡتَخۡلِفَنَّهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ كَمَا ٱسۡتَخۡلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمۡ دِينَهُمُ ٱلَّذِي ٱرۡتَضَىٰ لَهُمۡ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعۡدِ خَوۡفِهِمۡ أَمۡنٗاۚ يَعۡبُدُونَنِي لَا يُشۡرِكُونَ بِي شَيۡ‍ٔٗاۚ وَمَن كَفَرَ بَعۡدَ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ ٥٥﴾ [النور: 55].

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *