روسيا وهاجس الإسلام والخلافة… وحزب التحرير (1)
2018/03/10م
المقالات
3,348 زيارة
بسم الله الرحمن الرحيم
روسيا وهاجس الإسلام والخلافة… وحزب التحرير (1)
عبد الهادي فاعور (رحمه الله)
الوعي: هذا المقال كتبه الأخ الكريم عبد الهادي فاعور، رحمه الله، في حياته، حيث كان على اطلاع واسع بأوضاع المسلمين في البلاد التي كانت تابعة للاتحاد السوفياتي السابق (أوزبكستان، طاجيكستان، قرغيزستان…)، وقد رأت الوعي أن تنشره لأن ما فيه يكشف بشكل واضح نوايا روسيا تجاه المسلمين وتجاه مشروعهم بإقامة «دولة الخلافة الراشدة»، فهي تحاربه في بلدها وبلاد الجوار عندها، وفي كل دول العالم ومنها سوريا. وكم يذكرنا المقال بقول الإمام الشافعي، رحمه الله،
قد مات قوم وما ماتت مكارمهم وعاش قوم وهم في الناس أمواتُ
ما إن اندلعت الثورة السورية في آذار من العام ۲۰۱۱م، حتى تتابعت تصريحات المسؤولين الروس من الرئيس بوتين إلى وزير خارجيته سيرغي لافروف إلى غيرهما من قادة الجيش الروسي والأجهزة الأمنية وكثير من السياسيين والمسؤولين في مناصب عدة، ومن الكتاب والمفكرين، وكلها تحذر من الخلافة والإسلام )المتطرف)، ومن الإسلام الذي يسمونه الإرهاب ويزعمون أنه يهدد كل البلاد وكل الناس بما فيهم المسلمون. وقد عبروا عن مخاوفهم في مناسبات عدة ومحافل شتى ما يؤكد أن عودة الإسلام إلى الحكم تشكل تهديدًا كبيرًا لهم وترعبهم، ويؤكد أيضًا حجم حقدهم على الإسلام وبغضهم له ولأهله، وما يذكر بجرائمهم تجاه المسلمين التي كانوا يقترفونها عبر التاريخ كلما استطاعوا ذلك. وهي جرائم شنيعة لا تقتصر على إبادة ملايين المسلمين وتهجير عشرات الملايين منهم، بل فيها من القبح والشناعة مثل ما في محاكم التفتيش في الأندلس، وفيها ملاحقة كل أثر للإسلام للقضاء عليه.
يدرك حكام روسيا الحاليون، وحكام البلاد المجاورة لها، تاريخهم الدموي والمأساوي المخزي هذا، وهم يحملون مشاعر آبائهم وأجدادهم نفسها تجاه الإسلام، ولهم مواقفهم نفسها، ويعلمون أنهم اقترفوا بحق الإسلام وأهله جرائم شنيعة. وما تزال تدفعهم بغضاؤهم وأحقادهم للتفكير في القضاء على الإسلام والمسلمين في بلادهم، وفي ما جاورها؛ لذلك فإن عودة الإسلام إلى الحكم في أي بقعة من العالم تشكل حدثًا تاريخيًا ضخمًا ومرعبًا بالنسبة لهم، لأن ذلك سيقضي على سلطانهم، وسيسقط عروشهم وأنظمتهم، وسيهوي بعقائدهم وأفكارهم، ليس فقط في بلادهم، وإنما فيما جاورها أيضًا، وفي العالم كله. إنهم يعلمون أن الإسلام إذا جاء فسيجرف كل زيفهم وظلمهم، وسيقتلع نفوذهم وباطلهم وخداعهم من جذوره. وهذا ما لا يريدونه، وما لم يكونوا يتصورون حدوثه أوعودة خطره، بعد أن ضعفت دولة الخلافة واحتلوا أراضيها واقتطعوا مایریدون منها، وبخاصة بعد أن تم هدم الخلافة في 3 آذار سنة ۱۹۲٤م، ثم اقتلاع الإسلام من البلاد الإسلامية التي سيطروا عليها، وبعد أن عمَّ جهل المسلمين في روسيا وفي الاتحاد السوفياتي بالإسلام وطمَّ، بحيث لم يبقَ له في الظاهر إلا آثار روحية أو سلوكية بالكاد تظهر على بعض المسلمين.
نعم، إن عودة الإسلام إلى الحكم في أي بقعة من العالم هو حدث ضخم ومرعب بالنسبة لهم؛ لأنه في حقيقته ليس مجرد حدث تاريخي، بل هو فعالية سياسية تحيي الأرض ومن عليها، فتدفع إلى حركة مستمرة قوية ونافذة، بل إلى حركات أو حملات متلاحقة كموج البحر تؤثر في الواقع حيثما تمر، فتغير التاريخ والجغرافيا معًا؛ تغير التاريخ بتغيير مسارات الشعوب والقبائل والناس من مسارات رجعية وهبوط في وديان وقيعان إلى مسارات تقدم في وصعود في جبال وإلى قمم تعانق السحاب. وتغير الجغرافيا بتغيير مفاهيمها من حدود وهمية جامدة ومصالح نفعية قاتلة، إلى حركة تنبض بالحياة والمعرفة والهداية، وإلى مسؤولية إنسانية، تحيي الأرض ومن عليها بنظام الإسلام، وبفعاليته القوية في تحقيق التوازن بين كل أنواع القيم المادية والمعنوية. لقد فاجأت العالم شعوب المنطقة في آسيا الوسطى والقوقاز وفي روسيا، ثم في الصين في إقليم كسينجيانج في مطلع التسعينات من القرن الفائت. وفاجأت حكام تلك البلاد بتوجه يتصاعد بسرعة نحو الإسلام الذي حاربوه بقسوة لا حدود لها عبر عقود، وظنوا أنهم قضوا عليه كنظام وكهوية، ولم يبقَ منه سوى المعاني أو الآثار الفطرية التي توجد في أي دين أو انتماء مهما كان ضعيفًا أو فاشلًا. فاجأهم المسلمون في هذه البلاد بعودة متميزة إلى الإسلام، حيث انتشر فيهم وعي إسلامي جديد، أخذ يسري في مجتمعات المسلمين كالنار في الهشيم، وأخذ أهل تلك البلاد يفتحون عقولهم وقلوبهم للإسلام وأفكاره ومفاهيمه وينتقلون بسرعة من جهل عمَّ وطمَّ، إلى وعي وتفتح وفهم يشبه تعرف الصحابة رضوان الله عليهم على الإسلام في أول أمرهم، فيقبلون عليه بعقولهم وقلوبهم، ويتعلمونه، وتتشربه قلوبهم، وتنفعل به جوارحهم وكل خلاياهم، فيتجسد فيهم إيمانًا وسلوكًا من أعظم مظاهره الصدق والثبات والصبر والتضحية والتطلع نحو سلطان للإسلام تعلو فيه كلمة الله ويشهدون فيه على البشرية.
نعم، لقد كانت نقلة عند تلك الشعوب سريعة وقوية مَنَّ الله بها على دعاة هذه الفكرة وحملتها من حزب التحرير، وعلى الأمة الإسلامية، بل كانت مَنًّا منه سبحانه على البشرية. ولقد كانت مفاجأة لكل الجهات والمهتمين، ومنهم حكام تلك البلاد؛ روسيا والدول التي انفصلت عن الاتحاد السوفياتي الساقط، وكذلك للصين وللغرب الأميركي والأوروبي الطامع باستتباع تلك البلاد والاستحواذ على ثرواتها وطاقاتها. لقد فاجأت هذه الصحوة الجميع وصعقت مبغضي الإسلام والحالمين بالقضاء عليه، فأسقط في أيديهم بسبب هذه الأفكار التي لا يجدون لها ردًا، وهم ينظرون إليها تتدفق في مجتمعاتهم وتغذي مفاصلها وتتسرب إلى كل نواحيها وتسري في عقول أبنائها وقلوبهم، كما يتدفق الدم إلى كل أعضاء الجسد ويسري في كل شرايينه ويغذي كل خلاياه، ولم يملكوا تجاه هذه الصحوة الإسلامية المباركة إلا أن يواجهوها بالقمع والشدة والحديد والنار وكل صنوف التعذيب والتخويف والتقتيل والتيئيس…
لقد شكلت هذه الصحوة تهديدًا كبيرًا لهم، ورأَوا فيها سيرة للتاريخ والأحداث بشكل واتجاه لم يكونوا يتوقعونه أبدًا. وقد ظهرت حركات إسلامية عدة في تلك البلاد كان أكثرها تأثيرًا وانتشارًا حزب التحرير، ووعى أهل تلك البلاد كما وعی مسلمو العالم على ما نشره حزب التحرير وبثه من أفكار رئيسية حول العقيدة الإسلامية، وأنها ليست روحية وحسب، وإنما هي عقلية أيضًا وأساسًا، وتخاطب كل الناس، وهي سياسية أيضًا وفعالة ومنتجة، إذ ينبثق عنها نظام عملي يحمل بداخله كيفية إيجاده في الواقع وكيفية تنفيذه، وهذا المعنى هو عين ما يخشونه وما لا يريدونه؛ لأنه يهدد أنظمتهم وسياساتهم؛ لذلك لم يكن لهم بد من مواجهة هذا التوجه بالحديد والنار، وأن يطلقوا عليه إسم الإرهاب والتطرف والتخلف وكل اسم قبيح. وكذلك زرع حزب التحرير في تلك البلاد وأهلها أن نظام الإسلام نظام متميز، فهو ليس رأسماليًا ولا اشتراكيًا ولا ديمقراطيًا ولا ديكتاتوريًا، ودب في أهل البلاد فهم الدلالات السياسية لهذا الأمر، فنبذوا كل هذه الأفكار، ودخلوا في صراع معها للقضاء عليها. وكذلك من الأفكار التي حملها أهل تلك البلاد فكرة وحدة الأمة الإسلامية بدون أي اعتبار لقومية أو لون أو مذهب، وحرمة ونبذ كل رابطة غير رابطة العقيدة الإسلامية والإسلام، وهذا يشكل ضربة قاصمة لهذه الكيانات القائمة على أفكار قومية، أو على أفكار مشوشة مضطربة غير محددة؛ لذلك أوجد هذا التغيير في تلك البلاد واقعًا جديدًا فاجأهم وأقضَّ مضاجعهم؛ إذ لم تنفع معه سياسات الخداع والدجل ولا سياسات القمع والتعذيب والقتل .
ومن الجدير بالذكر هنا أن الجمهوريات التي أعلنت استقلالها بعد تفكك الاتحاد السوفياتي في العام ۱۹۹۱م كانت تعاني من فراغ في الهوية. فقد انتقلت من التبعية للاتحاد السوفياتي الذي كان يتبنى الشيوعية ويحارب الدين ورابطته بشدة، وكذلك يرى أن الرابطة القومية ضارة به وباتحاده ووحدته إذ هو اتحاد يضم قومیات كثيرة. وبعد التفكك والانفصال صار لا بد لهذه الدول الجديدة من هوية جديدة. والواقع أن هذه الدول كانت تفتقر إلى رابطة قوية أو جامعة ومقنعة، وكانت في حالة بحث عن هوية، فجاء حزب التحرير بأفكاره الإسلامية عن العقيدة وما ينبثق عنها، وعن الرابطة الشرعية الصحيحة، وهو ما يشكل هوية مقنعة ومريحة للنفس بكل معنى الكلمة، فوجد المسلمون من أهل تلك البلاد هويتهم في الإسلام، وكان هذا حلًا مقنعًا لهم بشكل كامل، ومنسجمًا مع عقيدتهم ومع انتمائهم التاريخي، ووجدوا فيه أملًا كبيرًا بل حتميًا في التخلص مما هم فيه من ظلم وقهر وتمييز. ووجدوا أنهم جزء من أمة إسلامية تضم الأوزبيكي والقرغيزي والطاجيكي والتركي والإيغوري والعربي و… وأنهم أمة واحدة هي الأمة الإسلامية، ودولتهم دولة واحدة هي الدولة الإسلامية وهي الخلافة، وأن نظام حكمهم وحياتهم هو نظام الإسلام. فلاقت هذه الفكرة، بل هذه الأفكار، قبولًا ونجاحًا وانتشارًا بين المسلمين، في حين وجد فيها حكام تلك البلاد من الشيوعيين السابقين وحكام روسيا وأعداء الإسلام، خطرًا كبيرًا عليهم، ينمو وينتشر بسرعة، ويهدد دول تلك المنطقة، والمنطقة برمتها؛ لذلك انتفضت هذه الأنظمة لمحاربة فكرة الخلافة ولـ حزب التحرير والصحوة الإسلامية عمومًا بشكل عنيف، وجعلت هذا الأمر استراتيجية عامة لها، استعملت فيها كل الأساليب الأمنية والمخابراتية، فتفننوا في أساليب القتل والتعذيب، وأتوا في ذلك بما لا يخطر على بال، وكانوا كلهم وعلى رأسهم روسيا وأوزباكستان رأس حربة في ذلك.
إنهم يعرفون تاريخ الإسلام والمسلمين ويعرفون حروبهم، وتفوّقهم في الحرب، وتفوُّقهم في السلم كذلك ، ويعرفون قدرة الإسلام على الانتشار، وقبول الناس له عندما يتعرفون عليه، وعندما يُخلّى بینهم وبينه علی حقيقته؛ لذلك لا يملكون إلا الكذب والخداع وتشويه الحقائق والتخويف من الإسلام وزعم أنه إرهاب ودموي… أو التنفير منه بناء على أنه ضد الديمقراطية وضد الحريات ويظلم المرأة… لذلك فعندما رأوا المسلمين في البلاد الإسلامية في آسيا الوسطى، وكذلك في روسيا وسائر الجمهوريات الإسلامية في روسيا يقبلون على هذه الأفکار، وعلی حزب التحرير، انتفضوا وأصابهم الذعر، وشكلت لهم كلمة الخلافة التي تلخص الهدف السياسي لـ حزب التحرير، والتي أخذ يتنامی تطلع مسلمي تلك البلاد إليها، واعتبارها حاميتهم ومخلصتهم مما هم فيه من ظلم تاريخي وانتقاص من حقوقهم، ويعدونها رمز تحررهم ورمز وجودهم السياسي ورمز هويتهم، شكلت لهم هاجسًا تنادَوا لمواجهته، وأنشأوا لأجل ذلك المجالس والتحالفات الدولية والمنظمات كخماسي شانغهاي الذي تحول فيما بعد إلى منظمة شانغهاي للتعاون، ووقعوا اتفاقيات ذات بنود كثيرة ومتنوعة لمواجهة الإسلام تحت مسمى الإرهاب، وكان تعاونهم في هذا الشأن قويًا وحقيقيًا، وكذلك كان منسجمًا مع ما تصدره الأمم المتحدة من قوانين واتفاقيات لمواجهة الإرهاب.
استمرت هذه الأجواء والأحوال من مطلع تسعينات القرن الماضي إلى أن اندلعت الثورات العربية مع بداية العقد الثاني من هذا القرن الواحد والعشرين، وقد كان في هذه الثورات مفاجأة ثانية للعالم الغربي ولروسيا، وكانت المفاجأة أشد وقعًا على روسيا. لقد فاجأهم في ثورات البلاد العربية تطلع الشعوب إلى إسقاط الأنظمة وليس فقط الحكام، فالحناجر التي ترددت أصداؤها في العالم لم تكن تصدح فقط بإسقاط الحكام، بل كانت تهدر بإسقاط النظام كله. ولقد أسقط في أيدي الدول الاستعمارية المهيمنة على بلاد العرب والمسلمين والدول القامعة للشعوب الإسلامية؛ إذ إن هذه الأنظمة التي تطالب الشعوب بإسقاطها تنص دساتيرها على أنها أنظمة ديمقراطية ورأسمالية، وأنها تتبنّى قوانين وأنظمة الأمم المتحدة في الحقوق والتشريعات، فلا يناسب الدول الغربية تغيير الأنظمة في بلاد المسلمين، وإنما يناسبهم فقط تغيير الحكام والمجيء بحكام عملاء مثلهم. وفي الوقت نفسه تزعم هذه الدول الغربية أنها تشجع الديمقراطية واستقلال الشعوب والحريات، ومن ذلك حق الشعب في اختيار أنظمته وحكامه؛ لذلك تفاجأت الدول الاستعمارية والمعادية للإسلام، أي كل دول العالم، من وعي الشعوب ومطالباتها بتغييرات تتسم بالجذرية، وليس فقط بتغيير أشخاص الحكام، فهذا لا يتفق مع مصالح أميركا أو أوروبا، ولا مع مصالح روسيا أو أمنها. ثم إن المفاجأة الأهم والأخطر على الدول الغربية في هذه الثورات كانت المطالبة بالإسلام، فالشعوب تريد التغيير على أساس إسلامي. ثم تبلور هذا التوجه في سوريا بشكل واضح وظهرت كلمة الخلافة وانتشرت عند كثير من الفصائل وعند الناس، ولاقت فكرة الخلافة رواجًا إلى حد اضطرت معه أميركا إلى المخادعة والتخطيط لمصادرة هذا التوجه من خلال إيجاد تنظيم يعلن نفسه دولة إسلامية في العراق والشام، ثم يعلن أنه أقام الخلافة. فهذا يدل على مدى انتشار فكرة إيجاد دولة الخلافة، الأمر الذي استنفر له العالم ونزل على رأس روسيا كالصاعقة.
نعم لقد كان الأمر خطيرًا بالنسبة لروسيا، فهى منذ ما يزيد على عقدين تواجه أو تعیش خطر انتشار الفكر الإسلامي السياسي في محيطها الواسع وفي داخلها، وتجده يزداد انتشارًا وتهديدًا لها. ثم جاءت الآن الثورات العربية، وبالذات الثورة السورية، تهدد بإقامة دولة الخلافة في سوريا، وهي ترى أيضًا مع هذا الأمر عدة أمور أخرى، منها أن الذي يقود الدعوة إلى الخلافة في سوريا هو حزب التحرير، وهو نفسه الذي يقودها أيضًا في جمهوريات آسيا الوسطى وفي روسيا وفي تركستان الشرقية غرب الصين. وكذلك هي ترى وتدرك أن هوية المسلمين داخل روسيا وفي محيطها ستكون نفس هويتهم التي تعلن عنها الخلافة عند قيامها في أي مكان آخر، وقد أصابهم الذعر من أن تقوم الخلافة في دمشق. فدمشق بوابة إلى العالم، ودمشق جند الفتوحات، ودمشق لا يزال محفورًا في جدرانها، وتشهد مساجدها، وتذكِّر الناس مأذنها، وتنطق أسواقها بأنها عاصمة الخلافة، ودمشق ما تزال أجواؤها وسماؤها، رغم كل عاديات الزمان ونوائب الدهر، تعبق بعبير الخلافة وتشدو بعزها. وهذا كله يقلق روسيا التي تعاني – كما كان الاتحاد السوفياتي قبلها يعاني – من أزمة الهوية أو الهويات لدول المنطقة؛ لذلك أصابها الذعر أكثر عندما أحست باحتمال إقامة الخلافة في دمشق. فالمسلم الأوزبيكي، والمسلم الطاجيكي، والمسلم الشيشاني، والمسلم الإيغوري، والمسلم الروسي، وكل مسلمى المنطقة، سواء أكانوا في أوزبكستان، أم في الصين، أم في روسيا، وأينما كانوا، ستكون تبعيتهم للخلافة التي تقوم في الشام. وإذا أضفنا إلى ذلك العداء التاريخي البعيد والقريب للمسلمين، والإبادات التي مارسها الروس وأشياعهم من السلاف إبان الحقبة الشيوعية، أو الصرب في العصر الحديث، أو من أتباع المذهب الأرثوذكسي قبل الشيوعية وفي عهد الملكة كاترين، وقبل ذلك إيفان الثالث، وإيفان الرهيب، فإنهم سيشعرون بالخطر القادم قريبًا منهم. أضف إلى ذلك ما يقومون به حاليًا في مواجهة ثورة مسلمي سوريا، ومساعدة نظام بشار أسد وتزويده بالأسلحة التي يفتك بها بالناس، ثم مجيء روسيا نفسها بأعتى أسلحتها وأحدث طائراتها وأفتك صواريخها لقتل الأطفال والنساء والمدنيين… فهذا يزيد من رعب روسيا وارتجافها من مجرد تصور وجود كيان سیاسي للمسلمين يرمز لوجودهم ووحدتهم كأمة، أو من مجرد ذكر اسم الخلافة أو ذكر إقامة دولة الخلافة في أي مكان في الأرض؛ لذلك، وفي زحمة هذه الأحداث والمخاوف، لم يكن مستغربًا أن نجد السلطات الروسية تتصرف تصرف المضروب على رأسه، وتعتبر أن كتاب “نظام الإسلام” مثلًا وكتاب “من مقومات النفسية الإسلامية” اللذين يتبناهما حزب التحرير ويدرسهما، تعتبرهما من الأدلة على الإرهاب، وعلى كون من يقتنيهما إرهابيًا. وصدق الله العظيم القائل: ﴿ لَأَنتُمۡ أَشَدُّ رَهۡبَةٗ فِي صُدُورِهِم مِّنَ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَوۡمٞ لَّا يَفۡقَهُونَ ١٣﴾ [الحشر:13]. إنهم مرعوبون وبرتعدون، وحق لهم ذلك، فالخطر على ظلمهم وفسادهم كبير وليس صغيرًا، وهو قريب وليس بعيدًا، بل هو واقع.
بناء على ما سبق، نفهم تصريحات المسؤولين الروس ضد الخلافة، وضد الإرهاب والتطرف، وضد ما سمَّوه الخلافة المتطرفة، ونفهم رعبهم من الثورة السورية، ومن توجهها نحو الإسلام والخلافة، ومن الصحوة الإسلامية وحزب التحرير في روسيا والدول القريبة منها. وكذلك نفهم دعمهم المستمر النظام بشار أسد وإصرارهم على هذا الدعم، ومسارعتهم إلى تقديم هذه الخدمات لأميركا بكل رضى، كما نفهم مجيئهم السريع وتواجدهم الكثيف بهذا الكم الكبير من الإمكانيات والجنود في سوريا، رغم حاجتهم لإرضاء المسلمين، ورغم أوضاعهم السياسية المضطربة والاقتصادية المتردية.
إن الحديث عن موقف روسيا اليوم، والدول المجاورة لها في آسيا الوسطى وغيرها، من الإسلام والخلافة، وعن استراتيجيتها تجاه الإسلام والمسلمين، يقتضي أن نقوم بجولة في تاريخ تلك المنطقة وجغرافيتها. وسأحاول اختصار هذه الجولة قدر الإمكان وقصرها على ما يلزم للبحث. إلا أنني سأوثق – قبل ذلك – ما ذكرته أعلاه من عداء روسيا للإسلام ورعبها من الخلافة، من خلال بعض تصريحات المسؤولين الروس.
2018-03-10