العدد 321 -322 -

السنة الثامنة والعشرون شوال – ذو القعدة 1434هـ – آب – أيلول 2013م

التجارة الرابحة مع الله

بسم الله الرحمن الرحيم

التجارة الرابحة مع الله

شاهر أبو عبد الرحمن أبو الفيلات

الخليل- بيت المقدس

الحمد لله رب العالمين، رب السماوات والأرض وما بينهما، لا اله إلا هو، عليه توكلت واليه أنبت واليه المصير، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين.

أما بعد، فهذه الكلمة نخص بها أنفسنا لأننا حملة الدعوة، وحملة الدين، والأمناء على شريعة الله رب العالمين الذين يحملون همَّ الإسلام، ويواجهون الظالمين في كل مكان لإقامة شرع الله على وجه هذه الأرض، ولتحقيق ذلك لابد أن يكون العمل خالصاً لوجه الله تعالى حتى تكون التجارة رابحة معه.

لا يشك مسلم في أن أعلى أنواع التجارة هي التجارة مع الله، تجارة سلعتها الطاعات وثمنها الحسنات يُضاعَفْنَ من حسنة إلى عشر إلى سبعمائة وأكثر. والذين يجيدون هذه التجارة الرابحة هم من عرفوا الله فخشَوه، فرقَّت له قلوبُهم، ودمعت من خشيته عيونُهم، ولم تنقطع به قطُّ صلتُهم، وكان ما بينهم وبينه دائمًا عامر، وكان همهم الأول والأخير رضاه، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) )  فسبحان الله الذي وهبَنا ما نتاجر به معه، ثم وفقنا إلى التجارة معه، وتفضَّل علينا بها، ثم هو يُعطينا أجر تلك التجارة كأحسن ما يكون الأجر والجزاء، فهو خيرُ أجر في خير تِجارة، ثم هو يَزيدنا مِن فضله فوق أجورنا، ويضاعف لمَن يشاء.

 فلو تأمَّلنا عظيم مِنَّته وكرمه، وجزيل عطائه وفضله؛ لعلمنا كم نحن مقصِّرون في جنبه، ولعلمنا أنَّنا نتاجر معه بما وهبَنا، وأنه ليس لنا مِن أنفسنا شيء، وأن ما استحققناه مِن تجارتنا معه ليس حقًّا لنا ابتداءً وإنما كان بفضله، ولعلمنا أنه ينبغي علينا ألاَّ نكون إلاَّ في طاعته وعبادته على الدوام.

  إنَّ الله الخالق اللطيف الخبير هو سبحانه يعَلِمَ عجزنا عن مُوافاته حقَّه، وعجزَنا عن شكر ولو نعمة واحدة مِن نِعمهِ التي لا تُعَدُّ ولا تُحصى، ويعلم ضعْف همتنا إلى الخير ومسارعتنا في الشر؛ فجعل لنا الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضِعف ويزيد، وادَّخر لنا في الجنة ما لا عينٌ رأت ولا أُذن سمعتْ ولا خطَر على قلب بشَر، وهذا معنى قوله: «شَكُور»؛ أي: يقبل القليل، ويُجازي به الكثير، وجعَل السيئة بسيئةٍ واحدةٍ، وتودَّد إلينا بقَبول التوبة، ومغفرة الذنوب، وهذا معنى قوله: «غَفُور»، فسبحانه من عَدل ٍكريم.

يقول المولى سبحانه وتعالى في محكم التنزيل ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13))

أيها الأخوة الكرام: إنها دعوة من الله سبحانه وتعالى للتجارة معه تجارة لا تخسر ولا تبور. يبيع فيها المؤمن نفسه وماله لله سبحانه، والله يشتري الأنفس والأموال من عباده المخلصين الصادقين المؤمنين، والسلعة هي الجنة «ألا إن سلعة الله  غالية، ألا إن سلعة الله الجنة» وإنَّه لجزاء كبير، وفوز عظيم، يتحصَّل عليه المؤمنُ المجاهِد بنفْسه وماله في الآخرة، أمَّا في الدنيا فيبشر الله هؤلاء المخلصين بالنصر القريب منه، وإنما قال سبحانه: (وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا )؛ لأنَّها غير داخلة في الفوز العظيم، وإنَّما هي مِن فوز الدنيا الذي يمتنُّ الله به على عبادِه الباحثين عن فوزِ الآخرة؛ ومن ذلك قوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: َ«إن كانتِ الآخرة همَّه جعَل الله غناه في قلْبه، وجمَع له شمْلَه، وأتتْه الدنيا وهي راغمة».

فعلينا أن نقدم أنفسنا وأموالنا إذا أردنا أن نتحصل على ما نبغي من رضى الله سبحانه وتعالى، ومن جنات تجري من تحتها الأنهار. ومن ذلك أيضاً قول الله سبحانه وتعالى: ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207) ) وقد روي أن هذه الآية نزلت في صهيب الرومي حين أقبل مهاجراً إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلحقه نفر من قريش، فنزل عن راحلته، وأخرج ما في كنانته، وأخذ قوسه وقال: وأيم الله، لا تصلون إليَّ حتى أرمي ما في كنانتي ثم أضرب بسيفي ما بقي منه شيء، ثم افعلوا بعد ذلك ما شئتم. فقالوا له: لا نتركك تذهب عنا غنياً وقد جئتنا صعلوكاً لا مال لك، ولكن دلنا على مالك لنخلي سبيلك، وعاهدوه على ذلك ففعل، فلما وصل المدينة نزل قول الله سبحانه:( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207) ) فاستقبله الحبيب صلى الله عليه وسلم قائلاً: «ربح البيع أبا يحيى، ربح البيع أبا يحيى».

وذكر أصحاب السير أن الأنصار رضوان الله عليهم لما اجتمعوا عند العقبة ليبايعوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بيعة الحرب على أن ينصروه ويمنعوه ليسلموا له الحكم في المدينة المنورة قال له عبدالله بن رواحه رضي الله عنه: يا رسول الله، اشترط لربك ولنفسك ما شئت. فقال عليه وآله الصلاة والسلام: «أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم»، فقالوا: يا رسول الله، وما لنا إن فعلنا؟ فقال عليه وآله الصلاة والسلام: «الجنة» قالوا: ربح البيع، لا نقيل ولا نستقيل. فنزل قول الله سبحانه ( إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)   )

وقال القرطبيُّ في تفسير هذه الآية: «ثم هي بعدَ ذلك عامَّة في كلِّ مجاهد في سبيلِ الله من أمَّة محمَّد – صلَّى الله عليه وسلَّم – إلى يومِ القيامة»

     فكل من جاهد في سبيل الله فقد باع نفسه لله سبحانه، وكذلك الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، والذين يعملون لنشر دين الله، والذين يعملون على نصرة دين الله عز وجل وإعزازه… فكل هؤلاء تعمهم الآية وينطبق عليهم أنهم ممن يبيعون أنفسهم لله.

يقول الله تعالى ( إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) ) فذكر الصلاة والزكاة، وكذلك فإن كل عمَل في الإسلام داخلٌ في مسمَّى التجارة، ويقول سبحانه وتعالى في صِفة هؤلاء المتاجرين معه الرابحين بفضله: (  التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) ) فهذه كلها مِن أنواع المتاجرة مع الله.

ومثل آخر من أفعال الصحابة الذين نصر الله هذا الدين على أيديهم، عن ابن مسعود قال: لما نزلت: ( مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ) قال أبو الدحداح: وإن الله يريد منا القرض؟ قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «نعم يا أبا الدحداح». قال: ناولني يدك، فناوله صلى الله عليه وآله وسلم يده: قال : فإني قد أقرضت ربي حائطي -حائطاً فيه ستمائة نخلة- ثم جاء يمشي حتى أتى الحائط وأم الدحداح فيه في عيالها، فناداها: يا أم الدحداح، قالت: لبيك. قال: أخرجي من الحائط فإني قد أقرضته لربي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كم من عذق رداح لأبي الدحداح».

أيها الأخوة: إن الله نصر هذا الدين على أيدي أمثال هؤلاء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فالمطلوب اليوم رجال أحباب كهؤلاء الأصحاب يبيعون أنفسهم لله ويشترون الجنة.

وكأن المنادي ينادي: هل من بائع نفسه لله بعمل لإعزاز دينه ولإقامة دولة الإسلام التي يطبق فيها شرعه؟ هل من متاجر مع الله تجارة تنجيه من عذاب أليم يرى عاقبتها يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم؟ هل من متاجر مع الله يعمل لرفعة دينه ونصرة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم؟ هل من طالب لرضى الله سبحانه يتشوَّق لأن يقول الله سبحانه وتعالى له يوم القيامة: عبدي، رضيت عنك فلا أسخط عليك أبداً؟ هل من مشترٍ لجنة عرضها كعرض السموات والأرض؟…

فيا حملة الدعوة، يا حملة الإسلام، يا طلاب الخلافة، يا من تسعون لإقامة الدين، لقد سبقتم الناس جميعاً إلى مقارعة الظالمين ومواجهة الكافرين ونصرة الدين، فلا يقبل أحد منكم أن لا ينتفض من تحت الركام ويسعى سعي المخلصين، ويدفع دفع المؤمنين، ويقبل إقبال المسبحين لله رب العالمين… وعليه أن يدرك أنه في نيابة عن سيد الخلق محمد خاتم النبيين، يحمل همَّ الإسلام، ويريد أن يصبغ الناس بصبغته، ويدعو الناس بدعوته. فهل يتثاقل من علم أنه نائب عن محمد صلى الله عليه وسلم إن كان صادقاً؟

فيا حملة الدعوة، يا حملة الدين، يا من أردتم خلافة الإسلام، وأردتم إقامة دين الإسلام في الأرض،

إن كنتم تخشون الله رب العالمين وتعظمونه، فأروا الله سبحانه وتعالى من أنفسكم ما يرضيه عنكم، وأجيبوا داعي الله فلا تعطوا دعوتكم فضول أوقاتكم، ولا فتات أموالكم، ولا القليل من جهودكم… وأنتم تطمحون إلى أن تفتحوا روما، وتسعون إلى أن تلبسوا البشرية لباس الدين، بعز عزيز وذل ذليل، أتسعون في هذا الشرف العالي، وتعاهدون الله عز وجل على المعالي، وأنتم لا تبذلون المهج إلا لماماً؟ ألا فلتقبلوا على الله، ولتنصروا دينه إن كنتم تريدون تطهير البشرية من ظلم الرأسمالية وعفنها.

أيها الأخوة:  اعملوا على طلب رضى ربكم واستعدوا للقائه بكثرة الصلاة والالتزام بالسنن والنوافل وبقراءة القرآن وذكر الرحمن، وابذلوا جهدكم في العمل لإقامة دولة الإسلام عسى الله سبحانه أن يغفر لنا ويرحمنا ويعزنا وينصرنا، واجعلوا استجابتكم للتجارة مع مولاكم، كذاك الأعرابي الذي سمع قوله تعالى: (  إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّة ) فقال :كلام من هذا؟ فقيل له: هو كلام الله. فقال: بيع والله مربح، لا نقيله ولا نستقيله، فذهب إلى الغزو فاستشهد، وتذكروا أن الله وعد المؤمنين الذين يبيعون أنفسهم بأن لهم الجنة، قال تعالى: (فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيم ).

أيها الناس يا أنصار محمد ، يا حملة لواء الدين، أجيبوا: احملوا همَّ الدين، وكونوا في ذلك على سمت الصحابة رضوان الله عليهم حتى يكرمكم الله عز وجل بالخلافة الراشدة، بالخلافة على منهاج النبوة التي وعد بها عباده المتقين.

اللهم اقبل تجارتنا معك يا رب العالمين. اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا. اللهم اجعلنا من عبادك الصالحين المصلحين، المخلِصين المخلَصين. اللهم اغفر لنا وراحمنا واعفُ عنا وأكرمنا بالنصر. اللهم إنا نعوذ بك من الشقاق والنفاق، ونعوذ بك من سوء الأدب والأخلاق. اللهم انصر الإسلام والمسلمين. اللهم في الشام وفي كل مكان، يا رحمنُ، يا حنَّانُ، يا منَّانُ، يا قويُّ، يا عزيزُ. اللهم عليك بطاغية الشام. اللهم عليك بطاغية الشام وبكل طغاة المسلمين من الحكام. اللهم إنا نجعلك في نحورهم. اللهم عجِّل بفرجك ونصرك، محبةً بدينك، ورغبة في إعلاء كلمتك، ونشر دينك، وكرهاً بالكفر وطغاته وجبابرته إنك قريب سميع مجيب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *