العدد 120 -

السنة الحادية عشرة – محرم 1418 – أيار 1997م

الرجاء : سفينة السائرين في طريق الدعوة

الرجاء

سفينة السائرين في طريق الدعوة

بقلم: أبو العبد – بيت المقدس

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على الحبيب محمد وعلى آله وصحبه ومن اتبعه بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:

 لقد شرّف الله عز وجل المسلمين بشرف عظيم، بأن جعلهم حَمَلَة رسالة الإسلام إلى العالم أجمع… لكن المسلمين تنكّبوا عن تطبيق أحكام الإسلام وحمْلِ دعوته إلى العالم، إلى أن جاء من هداه الله إلى فكرة الإسلام الصحيحة وطريقته الواضحة، وهبّ بشكل جاد لا عرف الكلل ولا الملل، لثقته المطلقة بهذه الفكرة وهذه الطريقة.

وما هي إلا فترة قصيرة من الزمن حتى تكاثرت هذه الخلية إلى خلايا، ومن ثم إلى كتلة حزبية تجمعها وتربطها رابطة، وهذه الكتلة الحزبية المبدئية نذرت نفسها لقضية مصيرية فجعلت الإسلام شغلها الشاغل، وخاضت معترك الحياة، حيث تقلبت عليها الأجواء حارة وباردة، وهبت عليها الرياح عاصفة ولينة، وتناوبتها الأجواء صافية وملبدة، فهذه طبيعة الدعوة الصادقة التي تريد أن توجد فكرتها في الحياة، فلا يُتَصوّرُ أن يستقبل أعداء الإسلام حملة الدعوة بالورود والرياحين، بل إن هناك أشواكاً، وصخوراً، وصعاباً وأعداء وتآمراً…

وفي مثل هذه الأجواء بل أشد عاش الرسول r والصحابة صنوفاً من العذاب والأذى، وخصوصاً فترة التفاعل والكفاح، فقد كان منزل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يرجم، وكانت أم جميل زوج أبي لهب تلقي النجس أمام بيته، وكان أبو جهل يلقي عليه رحم الشاة مذبوحة ضحية للأصنام… فلا يزيده ذلك إلا صبراً وإمعاناً في الدعوة…، وكان المسلمون يعذبون، فقد وثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين… حتى ألقى أحداً بلالاً على الرمل تحت الشمس المحرقة ووضع حجراً على صدره وتركه ليموت، لا لشيء إلا أنه أصر على الإسلام، ولم يزل بلال يردد كلمة: أحد أحد محتملاً هذا العذاب في سبيل ربه.

وعُذبت امرأة من المسلمين وهي (سمية) رضي الله عنها حتى ماتت لأنها لم تقبل أن ترجع عن الإسلام، وكان المسلمون بالجملة يُضرَبون وتوجه إليهم أشد صور المهانة فكاا يصبون على كل ذلك ابتغاء رضوان الله.

ولكن ينتاب البعض شيء من الإحباط أو التقاعس أو الملل أو استبطاء للنتائج لشدة ما يصيبه.

فعن أبي عبد الله خباب بن الأَرَتّ رضي الله عنه قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدة فقلنا: ألا تستنصر ألا تدعو لنا!؟ فقام الرسول صلى الله عليه وسلم واشتد غضبه واحم وجهه فقال: قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار فتوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لَحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمنّ الله هذا الأمرَ حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت لا يخاف إلا الله والذئبَ على غنمه، ولكنكم تستعجلون» رواه البخاري وأبو داود والنسائي.

ولكل ما سبق ا بد لحامل الدعوة من أن يتحصن بباب يعرف بباب الرجاء، هذا الباب لا يعرف عنه الناس إلا الشيء اليسير وربما البعض لم يخطر له ببال.

  • فالرجاء منزلة من أجلّ المنازل والمقامات وأعلاها وخصوصاً لحامل الدعوة. وأما قولنا إنها من أجل المقامات فلأنها تلازم صاحبها وكأنها أقامت فيه لا تغادره. وقد امتدح الله أصحاب هذه المنزلة بقوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ). وبقوله: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا). وقوله: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) وبقوله: (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ). وبقوله: (وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا).
  • فالرجاء حادٍ يحدو القلوب –أي كالذي يسوق الإبل ويحثها على السير- إلى الله والدار الآخرة وإلى الغاية التي يريدها حَمَلَةُ الدعوة من استئناف حياة إسلامية وحمل للدعوة… فلذلك يطيب لحامل الدعوة السير ويُقبل على العمل مستبشراً متهللاً بثقة وارتياح بنصر الله وجوده وكرمه.

وقد خلط البعض بين الرجاء وبين التمني، فإن التمني يكون مع الكسل ولا يسلك صاحبه طريق الجد والاجتهاد، وكم سمعا من يتمنى قيام الدولة الإسلامية (دولة الخلافة) غير أنه اكتفى بالدعاء لها على المنابر، ولم يتلبس بعمل، وكأن الأمر يأتيه على طبق من ذهب. بل لا بد أن يُعلم أن السائرين في طريق استئناف الحياة الإسلامية إنما ينحِتو طريقهم في الصخر الأصم، ولا بد لهم من معاول كفيلة بتكسير هذه الصخر، اقتداء برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فلذلك يعتبر التمني غير المصحوب بالعمل مذموماً. فعن شداد بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنّى على الله عز وجل الأماني» أخرجه الترمذي وأحمد. وقد عرف السلف الصالح هذا المعنى. قال الحسن البصري رحمه الله: «هيهات هيهات، أهلك الناس الأماني قولٌ بلا عمل ومعرفة بغير صبر، وإيمان بلا يقين، مالي أرى رجالاً ولا أرى عقولاً… أسمع حسيساً ولا أرى أنيساً، دخل القوم والله ثم خرجوا، وعرفوا ثم أنكروا، وحَرّموا ثم استحلوا، إنما دين أحدكم لعقةٌ على لسانه، إذا سُئل أمؤمن أنت بيوم الحساب؟ قال:نعم! كذب ومالك يوم الدين». وقال الإمام علي رضي الله عنه: «إن أخوف ما أخاف عليكم إتباعُ الهوى، وطول الأمل، فأما إتباع الهوى فيصد عن الحق, وأما طول الأمل فينسي الآخرة. ألا وإن الدنيا ارتحلت مدبرة، وارتحلت الآخرة مقبلة, ولكل واحد منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل». رواه الحافظ في الفتح. أما الرجاء فلا يكون إلا مع بذل للجهد دون كلل ولا ملل.

وحال الأول: الذي تمنى على الله الأماني كحال من يتمنى أن تكون له ارض يبذرها ويأخذ غلتها وزرعها، فهذا الغرور بعينه والتمني الكاذب الخداع.

وحال الثاني: الذي يعمل ويرجو الله تحقيق النتائج، كحال من يشق أرضه بمعوله، ويفلحها ويتخير لها أفضل البذور ويزيل الأشواك والصخور ويشق إليها الماء النقي… ويرجو طلوع الزرع… فلذلك لا يصح الرجاء إلا مع العمل الجاد بحزم وعزم وصبر ومثابرة وحسن طاعة لله ورسوله وعلى نور.

والرجاء قوة، وقوته تكمن في معرفة العبد لربه وأسمائه وصفاته وأن رحمته تغلب غضبه… وبقوة المبدأ الذي يحمل… ولولا الرجاء لخربت كثير من القلوب والجوارح، وهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً، ولولا ريحه الطيبة لما جرت سفن الأعمال في بحر لجيّ متلاطم الأمواج الأهواء والاتجاهات والمبادئ. وبالجملة: فإن الرجاء قوة لا بد أن تلازم حامل الدعوة في حله وترحاله، فلو فارقته لحظه هلك أو كاد، فهو دائم الطلب لما يحب راغباً راهباً مؤملاً لفضل ربه حسن الظن به متعلق الأمل بره وجوده لا ينفك عنه بحال.

وقد يتوهم البعض أن في الرجاء الإلحاح في الدعاء معارضة لتصرف الله في ملكه فجعل الله النصر من عنده حيث قال: (……).

حقاً وما النصر إلا من عند الله ولكن الله طلب منا العمل والصبر والثبات والقيام بالشروط والأخذ بالأسباب، ونقول ما يلي:

أولاً: أثنى الله خاصته وهو أولوا الألباب بأنهم سألوه: أن يقيهم عذاب النار حيث قال: (…………) والآيات كثيرة وقد سبق ذكرها في أول الموضوع.

ثانياً: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كثير الدعاء والرجاء… فقد كان يستعيذ من عذاب النار، ومن عذاب القبر… ومن غلبة الدين ومن قهر الرجال… فقد أخرج البخاري أن الرسول كان يكثر من قوله: «اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن, والعجز والكسل والبخل والجبن وضلع الدين وغلبة الرجال» ولعل أبرز مثال على ذلك دعاء الرسول ورجاؤه وإلحاحه ومناشدته ربه يوم بدر الكبرى، عل الرغم من أن الله وعد إحدى الطائفتين، وبالرغم من أنه كان قد أعد العدة وأخذ بالأسباب والشروط.

وأخرج الترمذي من حديث سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لكل نبي حوضاً وإنهم يتباهون أيهم أكثر واردةً وإني لأرجوا أن أكون أكثرهم واردة».

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: جاء مَلَكٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك وقد أمر مَلَكَ الجبال لِتأمره بما شئت فيهم إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين، قال صلى الله عليه وسلم: “لا بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئاً». أخرجه البخاري.

وكان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يكر من قوله: «اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت». رواه أبو داود وأحمد وحسنه الألباني.

ثالثاً: لقد طلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الصحابة أن يدعو الله فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأم حبيبة: «لو سألت الله أن يجيرك من عذاب النار لكان خيراً لك».

وقد قال لعمه العباس يوماً: «يا عباس يا عم رسول الله سل الله العافية».

رابعاً: وقد طلب الصحابة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يعلمهم الدعاء والرجاء. فقد طلب الصديق من رسول الله e أن يعلمه دعاء يدعو به في صلاته. فقال: «قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم». وقد طلبت السيدة عائشة من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعلمها دعاءً في ليلة القدر فقال: «قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني».

خامساً: كان الصحابة رضي الله عنهم يكثرون الرجاء والدعاء.

فقد أخرج البهيقي عن سعيد بن المسيِّب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه اشتكى فدخل النبي صلى الله عليه وسلم يعوده، فقال: «كيف تجدك يا عمر؟ قال أرجو وأخاف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما اجتمع الرجاء والخوف في قلب مؤمن إلا أعطاه الله الرجاء وآمنه الخوف».

وعن أنس رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على الشاب وهو في الموت، فقال: كيف تجدك، قال: أرجو الله يا رسول الله، وإني أخاف ذنوبي، فقال رسول الله r: لا يجتمعان في قلب عبد إلا أعطاه الله ما يرجو، وآمنه مما يخاف» أخرجه الترمذي وابن ماجه والنسائي قال الحافظ إسناده حسن وقال النووي إسناده جيد.

فالرجاء يبرد حرارة الخوف، فالخوف بلا رجاء يأس وقنوط. والرجاء يرفع المسلم إلى أرفع المقامات، وهو مقام الشكر الذي هو خلاصة العبودية، وخصوصاً إذا حصل للراجي مرجوه -كان أدعى لشكره- كما حصل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما دخل مكة فاتحاً.

فالعبد إذا تعلق قلبه برجاء به، فأعطاه ما رجاه كان ذلك ألطف موقعاً، وأحلى عند العبد وأبلغ من حصوله ما لم يرجه. والله سبحانه وتعالى يريد من عبده تكميل مراتب العبودية: من الذل والانكسار والاستعانة والخوف والرجاء والصب والشكر والرضا والإنابة وغيرها. وفي الرجاء ترقب وانتظار لثقة الراجي بفضل الله. وفي الرجاء سرعة السير إلى المطلوب المرغوب، فهو كمن هو سائر إلى مدينة يرغب لوجها، فإذا ما سار رأى الطريق حينئذٍ واضحة إليها واستنار له ضياؤها فإذا ما شارفها أسرع الخطى إليها وبذل أقصى ما عنده من جهد علماً بأنه كان بلال رضي الله عنه يقول في آخر أيامه: «غداً نلقى الأحبة محمداً وصحبه». والراجي يتخلص من تخذيل اليأس –فهي كالأثقال التي تعيق السير- فيعاين الغاية فيسرع السير بجد ومثابرة.

كما أن الرجاء يحث العامل على الاجتهاد، ويولد عنده التلذذ بالخدمة ويوقظ عنده الهمم□

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *