العدد 120 -

السنة الحادية عشرة – محرم 1418 – أيار 1997م

الصلح والتحكيم والقضاء

الصلح والتحكيم والقضاء

 

خلق الله الإنسان وجعله يعيش في تجمعات بشرية ليتمكن من البقاء بمبادلة السلع والخدمات لسد حاجاته ومتطلباته. وطبيعة العيش في التجمعات تقتضي تضارب المصالح، ومن هنا تنشأ الخصومات بين أفراد التجمع الواحد، وكذلك من اختلاف النظرة إلى المصلحة تنشأ خصومات بين التجمعات البشرية المختلفة. وهذه المنازعات تتطلب الحل.

فالتجمع السكاني الواحد تكون بين أفراده صلات متنوعة وود يجمع بين هؤلاء الأفراد. والخصومات تؤدي إلى التدابر والتشاحن والتباغض وربما الاقتتال، وهذا ما عبر عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم «بفساد ذات البين التي هي الحالقة» فإن كان في ذلك التجمع سلطة قوية فإنها تباشر الفصل في الخصومات التي تنشأ بين الناس في جهاز يسمى القضاء. فالقاضي يجلب المتخاصمين لمجلسه بالسلطة، وإذا لم تكن هناك سلطة أو كانت السلطة ضعيفة أو لا يحمل الناس الولاء لها يلجأ الناس في حل مشاكلهم للتحاكم خارج أنظمة السلطة، وهذا ما يسمى بالتحكيم. وسنتكلم عن القضاء والتحكيم والصلح.

الصلح «معاقدة بين المتخاصمين لإنهاء الخصومة بينهما» كما عرفه الفقهاء، ولما كان الخصوم ينفر بعضهم من بعض يتدخل بينهم أناس يقومون بالإصلاح حتى تنتهي الخصومة بكيفية ما، ويعقدون بينهم مصالحة بالرضى، وهذه المصالحة عقد كبقية العقود لا يجوز الرجوع عنه بعد انعقاده ومفارقة المجلس الذي عقد فيه الصلح. ففي التنزيل: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ).

التحكيم «أن يرضى خصمان رجلاً أو أكثر يحكم بينهما في خصومة ما» فحكمه ماض عليهما ولا يجوز نقض حكمه فيما لا ينقض به حكم من له ولاية، ولكل من الخصمين الرجوع ن التحكيم قبل صدور قرار التحكيم، فإن صدر القرار فلا رجوع ووجب التنفيذ. وإذا كتب المُحكّم كتاباً بحكمه إلى قاض لزمه قبوله وتنفيذه. والتحكيم جائز بنص الكتاب فقد قال تعالى: (فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا) وقال أيضاً في جزاء من يصطاد في الحرم: (يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ) وقد انفرد سعَد رضي الله عنه في التحكيم في بني قريظة وقد رضي الله ورسوله حكمه. وإذا اختلف الحَكَمان يلغى التحكيم ولا يميز بينهما ثالث. ولا ينفذ حكم أحدهما حتى يتفقا وليس للمحكم مجلس معين للتحكيم. وله أن يتقصى الحقائق بحضور الخصوم وغيابهم.

القضاء هو الفصل في الخصومات بين الناس وقد عرفه الفقهاء فقالوا: «القضاء هو الإخبار بالحكم الشرعي على وجه الإلزام». والقضاء منوط بالإمام وهو الذي يعين القضاة ويعزلهم ويعين من ينوب عنه في ذلك, وقد كان الخلفاء الراشدون يباشرون تعيين القضاة وتوجيههم وتحديد مكان ولايتهم. وهذه رسالة عمر بن الخطاب لأبي موسى الأشعري في القضاء كما وردت إلينا فقد روى ابن عيينة الرسالة، قال:

«أما بعد، فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة، فافهم إذا أدلى إليك الخصم فإنه لا ينفع التكلم بحق لا نفاذ له. آس بين الناس في مجلسك ووجهك حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا يخاف ضعيف في جَوْرِك، البينة على من ادعى واليمين على من أنكر. والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً أحل حراماً أو حرم حلالاً، ولا يَمْنَعْكَ قضاءٌ قضيته بالأمس ثم راجعت فيه نفسك وهُديت فيه لرشدك أن ترجع عنه، فإن الحق قديم والرجوعَ إليه خير من التمادي على الباطل، الفهمَ الفهمَ فيما يتلجلج في صدرك مما لم يَبْلُغْكَ به كتاب ولا سنة. واعرف الأمثال والأشباه وقس الأمور عند ذلك ثم اعمد إلى أحبها عند الله ورسوله وأشبهها بالحق. واجعل للمدعي أمداً ينتهي إليه، فإن أحضر بينته أخذت له بحقه, وإلا وجهت عليه القضاء فإن ذلك أجلى للعمى وأبلغ في العذر. والمسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلوراً في حد أو مجرباً علي شهادةُ زور أو ظنيناً في ولاء أو نسب. فإن الله تولى منكم السرائر ودرأ عنكم بالبيّنات والأيْمان, ثم إياك والتآذي بالناس والتنكر للخصوم في مواطن الحقوق التي يوجب الله بها في الأجر ويحسن بها الذخر فإنه من تخلص نيته فيما بينه وبين الله ولو على نفسه يكفيه الله ما بينه وبين الناس ومن تزين للناس بما يعلم الله خلافه منه هتك الله ستره.».

وهكذا كان الإمام هو الذي يقوم بواجبه في توجيه القضاة ووضع الأسس التي يجري عليها القضاء في الدولة. وقد ورد في الحاوي الكبير للإمام الماوردي رحمه الله جزء 16 صفحة 8 ما يلي:

«فلو خلا بلد من قاض فقلد أهل البلد على أنفسهم قاضياً منم كان تقليدهم له باطلاً إن كان في العصر إمام لافتياتهم عليه فيما هو أحق به، ولم يجز أن ينظر بينهم مُلْزِماً، فإن نظر بطلت أحكامه وصار بها مجروحاً، ويجوز أن ينظر بينهم متوسِّطاً مع التراضي، والأولى أن يعتزل الوساطة بينهم لئلا يتشبه بذوي الولايات الصحيحة لم تقدم من تقليد. فإن خلا عصر من إمام فإن كان يرجى أن يتحد لإمام نظر بعد زمان قريب كان تقليد القاضي باطلاً كما لو كان الإمام موجوداً لقرب زمانه، وإن لم يرج تجديد إمام قريب، نظرت أحوالهم، فإن أمكنهم أن يتحاكموا إلى قاضي أقرب البلاد إليهم كان تقليدهم للقاضي باطلاً. وإن لم يمكنهم التحاكم إلى غيره نظر: فإن لم يمكنهم أن ينصروه على تنفيذ أحكامه كان تقليدهم له باطلاً لقصور عن قوة الولاة، وإن أمكنهم نصره وتقوية يده كان تقليداً جائزاً حتى لا يتغالبوا على الحقوق إذا اجتمع على تقليده جميع أهل الاختيار منهم، ولم يتعين في تقليد الإمام اجتماع أهل الاختيار كلهم.».

والقضاة ثلاثة قاضي المظالم وقاضي الحدود والمنازعات وقاضي الحسبة. فقاضي المظالم ينظر في القضايا التي ترفع إليه من الرعية على الدولة ومن له صفة رسمية. وقاضي الخصومات والحدود وهو ينظر في الخصومات بين أفراد الرعية مهما كان الخصم. وقاضي الحسبة وهو ينظر في القضايا التي ليس فيها مدعٍ أو مدعى عليه, وهو يمنع المخالفات التي تؤدي إلى ضرر بالناس ويزيلها فور العلم بها، وليس للمحتسب مجلس قضاة خاص به وإنما يحكم في مكان المخالفة فيزيل الضرر الحاصل أو الذي سيحصل في نفس المكان، ويعمل ما يراه مناسباً، وله صلاحيات ضبط الأسواق والطرق والسير عليها والصحة العامة وما إلى ذلك.

الفرق بين القاضي والمُحَكّم

القاضي يتولى القضاء بتفويض من الإمام, وسلطة من الإمام، وله مجلس قضاء محدد بالزمان والمكان. وليس للخصمين أو أحدهما حق رفضه أو إبداء الرأي فيه, وهو يجلب المدعى عليه بسلطته. والقاضي يأمر بإيقاع العقوبة أو التعزيز والتأديب وتنفيذ الحدود وهو يشاهد. أما المُحكّم فهو مختار بالرضى من الخصوم وليس من مجلس قضاء محدد بالزمان والمكان، وكذلك لأي من الخصوم حق الانسحاب من التحكيم قبل صدور القرار, وليس للمُحكّم حق إيقاع العقوبة أو النظر في الحدود أو الحكم فيها.□

صالح المحتسب – الخليل

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *