العدد 38 -

السنة الرابعة – ذو القعدة 1410هـ، حزيران 1990م

القمة الطارئة في بغداد

 ما هي هوية هذا المؤتمر؟ من كلّف عرفات بالدعوة إليه؟ ما هو الغرض الحقيقي من المؤتمر؟ لماذا قاطعته سوريا؟

من الطبيعي بحث هذه النقاط، ذلك أن حكام البلاد العربية تابعون، في مواقفهم الدولية والإقليمية وكثير من سياساتهم الداخلية، تابعون للدول الكبرى، شأنهم في شأن جميع دول العالم الثالث.

والدول الكبرى التي تؤثر في حكام البلاد العربية في هذا الوقت هي أميركا بالدرجة الأولى ثم الإنجليز في الدرجة الثانية، أما بقية الدول من شرقية أو غربية فليس لها تأثير ذو قيمة.

هذا المؤتمر هو إنجليزي الهوية رغم كون المجتمعين عرباً ورغم تسميته بقمة عربية. والإنجليز هم أصحاب الفكرة بالدعوة إليه. وغرض الإنجليز هو تلميع صدام حسين وتضخيمه ليجعلوا منه زعيماً للعرب، وبطلاً تتعلق به آمال شعوب العرب، كما كان عبد الناصر قبل حرب 67. فإذا نجح الإنجليز وأتباعهم في >لك فإنهم سيسحبون البساط من تحت أقدام عملاء أميركا ويهيمنون على المنطقة من جديد.

في أذهان العرب أن صدام انتصر على إيران، وأمّن حماية لدول الخليج والسعودية والأردن وغيرها من بلاد العرب في وجه الثورة الإيرانية. فهو مؤهل للزعامة من هذه الناحية.

وبدأ الإنجليز مسلسل التلميع حين أعدم صدام الصحافي (الجاسوس) باسوف. حاولت تاتشر التوسط للصحافي لأنه يحمل جنسية إنجليزية. ولكن صدام تجاهل تاتشر وصحف الإنجليز وصحف الغرب وأعدمه. هذه الضجة الإعلامية في الغرب ضد صدام رفعت أسهمه عند العرب.

ثم أعلن الإنجليز أنهم اكتشفوا صواعق مهربة من أميركا للعراق، وأنها لقنابل نووية. يعني أن العراق أعاد تشغيل المفاعل النووي الذي دمرته إسرائيل عام 81، وأنه انتج قنابل نووية صارت في مراحلها الأخيرة.

ثم أعلن الإنجليز أنهم اكتشفوا أن العراق يستورد من شركة إنجليزية أنابيب فولاذية ليصنع منها مدفعاً عملاقاً، وجعلوا لقصة المدفع هذا فصولاً في إيطاليا وتركيا واليونان.

وكان صدام قد أعلن أنه صنع في العراق صاروخ العابد الذي يبلغ مداه (1850) كلم، وأن العراق أطلق صاروخاً يحمل قمراً إلى الفضاء، وأن الخبراء العراقيين صنعوا المكثفات (التي سماها الإنجليز صواعق). وأعلن أنه صنع في العراق السلاح الكيميائي المزدوج. وأن هذا السلاح لا يملكه أحد في العالم إلا أميركا وروسيا والعراق. أي أن العراق سبق في بعض حقول التكنولوجيا أكثر دول العالم. وتكلم عن حق العرب في الحصول على التكنولوجيا.

وهذا كله يعطي العراق ويعطي صدام حسين حجماً يتفوق به على بقية حكام العرب. ويعمل الإنجليز على تأكيد حجمه هذا من خلال تسليط الأضواء عليه ومهاجمته وبيان خطره.

ومن أجل أن يكسب إعجاب العرب وخاصة الشعب التفت صدام نحو عدو العرب: إسرائيل، وقال بأنه يستطيع أن يحرق نصف إسرائيل إذا اعتدت على منشآت عراقية. وقال بأنه حقق الوازن في أسلحة الدمار بينه وبين إسرائيل.

وجاءت الدعوة إلى القمة العربية الطارئة من هذه الزاوية.

إسرائيل تتوسع على حساب العرب. إسرائيل تجلب اليهود من بلاد العالم إلى فلسطين لتبني إسرائيل الكبرى من الفرات إلى النيل. إسرائيل تهدد جميع العرب…

إذن لا بد من استراتيجية عربية موحدة من أجل الأمن القومي العربي خلال عقد التسعينات. فكان هذا المؤتمر ـ حسب الظاهر ـ من أجل وضع هذه الاستراتيجية. وسيكون العراق هو السيد لأنه هو الذي يملك سلاح التوازن أو التفوق على إسرائيل.

ونستطيع أن نؤكد أن الغرض الحقيقي ليس وضع استراتيجية للأمن العربي. إ> لو كان الغرض هو محاربة إسرائيل أو اتقاء خطر إسرائيل لحرص الداعون للقمة على مشاركة سوريا. وقد لاحظنا أن العراق لم يكن حريصاً على حضورها ولاحظنا أن عرفات لم يكن حريصاً كذلك. الإصرار على المكان وعلى الزمان وعلى نقاط البحث دون الاكتراث برأي طرف أساسي في المعادلة يدل على أن الغرض المعلن ليس هو الغرض الحقيقي. وسوريا أدركت هذا وأعلنته. وكانت مصر تشدد على حصول الإجماع. وكانت السعودية ـ فهد (وليس عبد الله ولي العهد) تشدد على حصول الإجماع.

ولكن لمّا قرر أتباع الإنجليز عقد المؤتمر حتى لو تخلفت مصر والسعودية، رأى مبارك أنه لا يناسبه أن يغيب عن المؤتمر لأنه غائب من 12 سنة ولم يعد إلا بالأمس. وفهد قرر الحضور لعلّه مكلّف (من أميركا) ببعض المهمات.

المتحمسون للمؤتمر منذ البداية ثلاثة: الملك حسين وصدام حسين و(الرئيس) عرفات. وهؤلاء معروفة هويتهم وولاؤهم السياسي. عرفات ساير أميركا في بعض المراحل من مسيرته، والمرحلة الأخيرة كانت حين وافق على شروط أميركا واعترف بإسرائيل في خريف 88. وكان يأمل أن تعطيه أميركا شيئاً. ولكنه وجد أن أميركا تماطله وتخدعه فعاد إلى سربه (عملاء الإنجليز) ليهدد أميركا بالتراجع عن الاعتراف. وهذا سبب حماسته في الدعوة إلى القمة الطارئة.

عرفات في كلمته أمام القمة هاجم أميركا وطالبها بـ «وضع حد للمماطلة والتردد والإبهام التي تميّز موقفها من السلاح في المنطقة. نطالبها بالاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير والاستقلال الوطني. نطالبها بأن تدعم صراحةً عقد مؤتمر دولي للسلام بدل طرح أفكار مبهمة لا تؤدي إلا إلى تشجيع إسرائيل على إدامة الاحتلال».

بعد أن أعطى عرفات ومنظمته كل شيء، بدأ يطالب دون أن يحصل على شيء. كان الإنجليز سابقاً يقولون لعميلهم: خذ وطالب. أما الأميركان فقالوا لعرفات: أعْط وطالب. وقد أعطى المسكين، وها هو يطالب. وقد نقلت مصادر رسمية أردنية لجريدة الحياة (28/05/90) أن ورقة العمل التي قدمتها المنظمة للمؤتمر تعمدت «عدم الإشارة إلى قراري الأمم المتحدة 242 و338 والاستعاضة عنهما بقرارات أخرى صدرت عن الجمعية العمومية».

أما الملك حسين فقد نقلت المصادر الرسمية الأردنية للحياة (28/05/90) أنه سيحذر مؤتمر القمة من أن «عمّان ستضطر إلى تبنّي سياسات داخلية وخارجية مختلفة فيما يتعلق بدورها في المنطقة من ناحية استراتيجية إن لم تقدم هذه الدول الدعم العملي الذي يضمن الحفاظ على الأمن الاقتصادي والسياسي للمملكة».

وقد جاء فعلاً في خطاب الملك أمام المؤتمرين: «وصلنا إلى نقطة لا نقوى معها على مواصلة حملة الأمانة… بعدما استنزفنا، في أنظار لقائنا وإياكم، كل إمكاناتنا المادية فوق ما نرزح تحت طائلته من ديون السلاح… إن كل ما نطلب هو أن توفروا للأردن أسباب قوته وثباته ليرسخ قواعد أمنه الاقتصادي والاجتماعي ويقوى على بناء قوته العسكرية…».

ولكن ماذا سيفعل الأردن إذا لم تؤمن له الدول العربية الدعم المالي؟ وماذا يعني بتغيير سياسته الداخلية والخارجية التي تؤثر في استراتيجية المنطقة؟

قالوا بأنه عرض الوحدة مع السعودية ثم كذّبوا ذلك. فهل سيعرض الوحدة مع العراق؟ أو سيدخل في صلح مع إسرائيل؟؟ صلحه مع إسرائيل الآن لن يحل له المشكلة بل يزيدها غلياناً. وهو إما يهدد بكلام إنشائي غير قابل للتنفيذ وإما بالوحدة مع العراق.

وقد أوصى وزراء الخارجية المؤتمر بأن يقدم المساعدات للأردن.

وأما صدام حسين فقد وصفوا خطابه أمام المؤتمر بأنه اتسم بلهجة حاسمة، ووصفوه بأنه كان يستخدم أسلوب المعلّم وأنه كان يخاطب جماهير الشعوب العربية أكثر من مخاطبة الحكام الذين معه. قال: «نرفض أسلوب فرض الأمر الواقع أو التفريط في الحقوق. نريد سلام الأقوياء القادرين وليس الضعفاء العاجزين». وخرج عن النص المكتوب ليؤكد بالعامية أنه لم يكن ينوي استخدام عبارة (الإمبريالية الأميركية) لكنه عدل عن رأيه بعد المذكرة الأميركية التي وجهت إلى القمة قبل أيام ودعت إلى تجنب (اللهجة الخطابية) حيال واشنطن. وصفق القذافي بحرارة لذلك. وحمّل صدام واشنطن مسؤولية السياسات العدوانية والتوسعية لإسرائيل عبر تمويلها وتأمين غطاء سياسي لها. ورأى صدام أن على العرب أن يقولوا للولايات المتحدة بصوت واحد أنها في الوقت الذي تدعي صداقة العرب فإن سياستها صد مصلحة العرب.

وأعاد صدام أمام المؤتمر ما قاله سابقاً. قال: «علينا أن نقول بوضوح أننا سنضرب في قوة، وسنستخدم ما نملك من أسلحة الدمار الشامل… إذا ما اعتدت إسرائيل وضربت واستخدمت أسلحة الدمار الشامل». وكان قبل شهرين قال بأنه يستطيع أن يحرق نصف إسرائيل.

بهذا الكلام يدين صدام نفسه ويدين حكام العرب معه من حيث يدرون أو لا يدرون. ما دمت يا صاحب السيادة تملك السلاح وتملك القرار وتملك المبرر الشرعي والقانوني، لماذا تُحجم؟ الشاعر العربي (المتنبي) قال:

ولمْ أرَ في عُيوب الناس شيئاً  كنقص القادرينَ على التّمام

إذا اعتدت إسرائيل ستضربونها! أليست هي معتدية الآن؟ أليست هي مغتصبة للأرض؟ أليست قد شردت السكان؟ أليست ضربتكم في العراق وفي تونس وفي لبنان وفي كل مكان؟ أليست متحدية لقرارات الأمم المتحدة وللرأي العام في العالم؟ ماذا فعلت قبل عشرة أيام (الأحد الأسود)، كم تقتل وتجرح وتعتقل من أهل فلسطين كل يوم؟ ألستم في حالة حرب فعلية معها؟ ألمْ تشن إسرائيل حرباً على لبنان سنة 82 أن الفلسطينيين جرحوا إسرائيلياً وحداً في لبنان؟

إن من يريد كسب قلوب الجماهير، هو من يحارب عدو الجماهير، ويسترد كرامة الجماهير، وليس العميل الذي يدجّل على الجماهير.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *