العدد 37 -

السنة الثالثة – رمضان 1410هـ، أيار 1990م

إقامة الخلافة والحكم بما أنزل الله هي قضية المسلمين المصيرية

إن المسلمين اليوم في محنة ما بعدها محنة، وفي بلاء ما بعد بلاء. وإن العلاج الناجع لهم هو إدراكهم لقضاياهم هل هي مصيرية أم غير مصيرية، واتخاذهم إجراء الحياة أو الموت تجاه كل قضية مصيرية، ولا سيما إذا كانت جماع القضايا المصيرية كلها. وما لم يحصل هذا الإدراك، ويكن إدراكاً واضحاً يسيطر على النفوس والأجواء، فسيظل المسلمون في انخفاض وتقهقر دائمين، ولن تقوم لهم بين الأمم قائمة. ومن هنا كان لزاماً على المسلمين أن يتبينوا قضاياهم المصيرية، وأن يأخذ إدراكهم لهذه القضايا سبيله إلى القلوب والنفوس والأجواء العامة حتى يكون إدراكاً دافعاً أربابه للقيام بما تستوجبه القضايا المصيرية من أجراء الحياة أو الموت بثبات لا يزلزل، وحماسة لا تنضب. هذا هو الموضوع، وهذا هو الأساس في كل ما يحاول المسلمون القيام به من أعمال لمعالجة الواقع الذي هم عليه الآن.

إن واقع المسلمين اليوم يلمسه كل مسلم فلا يحتاج إلى شرح، ولا يتطلب أي بيان. فبلادهم تحكم بأنظمة الكفر، فهي دار كفر قطعاً ولا كلام. وهي مجزأة إلى أكثر من أربعين كياناً، بين دولة وإمارة، وسلطنة ومشيخة، فهي أضعف من أن تقف ف يوجه الكفار، لذلك كانت قضية كل قطر من أقطار المسلمين هي تحويله إلى دار الإسلام، وتوحيده مع غيره من بلاد الإسلام. وهذه القضية قضية مصيرية، بل هي جماع القضايا المصيرية كلها. فكان لا بد أن يكون الإجراء الذي يتخذ تجاهها إجراء حياة أو موت.

غير أن هذه القضية المصيرية: قضية تحويل البلاد إلى دار إسلام، وتوحيدها مع غيرها من بلاد الإسلام، هي هدف يسعى لتحقيقه. والطريقة التي تتخذ لتحقيق هذا الهدف إنما هي إقامة الخلافة وإعادتها إلى الوجود. ولهذا كانت قضية المسلمين التي تواجههم الآن هي إقامة الخلافة نظاماً للحكم، ليتحقق بإقامتها تحويل البلاد إلى دار الإسلام، وبالتالي توحيدها مع غيرها من بلاد الإسلام.

غير أنه ينبغي أن يكون واضحاً أن ما يواجه المسلمين الآن ليس نصب خليفة حتى يقال إنه فرض كفاية على المسلمين لما رواه ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ومن مات وليس عليه إمام جماعة فإن ميتته ميتة جاهلية»، فلا يكون قضية مصيرية، بل الذي يواجه المسلمين الآن هو إقامة الخلافة، أي إيجاد نظام الخلافة نظام حكم، وهذه واقعها غير واقع نصب خليفة، وإن كانت إقامتها تحتم نصب خليفة.

وإقامة الخلافة قضية مصيرية قطعاً، لأنها فوق كونها طريقة لتحويل بلادنا من دار كفر إلى دار إسلام، فإن إقامتها إنما تكون لهدم أنظمة الكفر، أي لإزالة الكفر البواح، وهي قضية مصيرية، لقوله صلى الله عليه وسلم : «إلا أن تروا كفراً بواحاً». ولما جاء في الحديث: «قيل: يا رسول الله أفلا ننابذهم بالسيف؟ فقال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة». ومن هنا كانت الطريقة لتحقيق قضية المسلمين قضية مصيرية، لأنها طريقة لقضية مصيرية، ولأن الدليل الشرعي من السنة يدل على أنها قضية مصيرية، فلا بد أن يكون الإجراء الذي يتخذ تجاهها إجراء حياة أو موت. غير أن المسلمين منذ أناخ عليهم حكم الكفر بكلكله، وصارت إلى الكفار والمنافقين والمرتدين أمورهم، وهم ما ينفكون يحاولون أن يتحرروا من ربقة سلطان الكفر، وسيطرة أربابه وأعوانه. بيد أنه غاب عنهم أن هذه القضية التي يكافحون في سبيلها هي قضية مصيرية ليس لها من إجراء إلا إجراء الموت أو الحياة. فكان فقدان هذا الإدراك من جماعة المسلمين هو الذي سلبهم ـ بوصفهم جماعة أو أمة ـ الاستعداد لتحمل الأذى والسجن والتعذيب، فضلاً عن تحمل الفقر والدمار والموت. مما لا ينفصل أبداً عن معارك الكفاح التي تدور حول القضايا المصيرية. لذلك سطرت هذه المحاولات على نفسها الفشل المحقق، ولم تستطع أن تتقدم خطوة واحدة نحو القضية التي تناضل من أجلها.

ولم يكن المسلمون بحاجة إلى تفكر وتأمل زائدين حتى يدركوا أن قضيتهم هي قضية مصيرية. فقد كان واضحاً منذ اللحظة الأولى، كما هو واضح اليوم لكل ذي عينين، أنه يستحيل على الكفار عادة وعقلاً أن يمكنوا الإسلام من العودة إلى الحياة السياسية ـ أي إلى الحكم ـ ما كان في أيديهم ذرة من قدرة على البطش بمن هم لهذا عاملون. وشأن المرتدين والمنافقين في هذه القضية ليس بأقل بطشاً وإجراماً. فهم سيلقون بكل ما تطاله أيديهم من قوة في ساحة المعركة ليقفوا حرباً على المؤمنين الذين يريدون أن ينتزعوا منهم الحكم انتزاعاً ليقيموا أحكام الله، وليصونوا حرمات الله بحدود الله.

وعليه فإنه يستحيل على أية محاولة يقوم بها المسلمون في سبيل هذه القضية أن تثمر ما لم يعتبروا القضية قضية مصيرية، إجراء الحياة أو الموت عليه مرهون تحققها. والمسلمون لما لم يعوا طبيعة المعركة، ولما لم يدركوا حقيقة حكم الله فيها، راحوا ينشدون تحرير أنفسهم بطريقة ليست على مستوى القضايا المصيرية، بل هي على مستوى القضايا العادية. فكانت إجراءاتهم في ذلك دون إجراءات الحياة أو الموت. مع أن الحقيقة أن القضايا التي طبيعتها مصيرية كإزالة نظام الكفر وإقامة نظام الإسلام، سواء أدركت على هذا الأساس أم لم تدرك، يستحيل أن يصل أحد إلى تحقيقها مهما كانت قوته، ومهما بذل من جهود، إلا إذا اعتبرها في سيره، وتصوره، واتخذ تجاهها الإجراء الذي تحتمه طبيعتها، وهو إجراء الحياة أو الموت. ومن هنا كان لا بد أن يصارح المسلمون أفراداً وجماعات، بأنه لا مناص لهم من أن يجعلوا أعمالهم في كفاح الكفر على أساس إجراء الحياة أو الموت، لأن طبيعة قضيتهم يحتم هذا الإجراء، ولأن الشرع في الكتاب والسنة قد جاء بهذا الإجراء.

على أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد علمنا أن نحدد قضايانا، وعلمنا أن نتخذ إجراء الحياة أو الموت في كل قضية مصيرية. فإنه صلى الله عليه وسلم حين أرسله الله بالإسلام، وبدأ يبلغ الدعوة بالصراع الفكري، قد حدد قضيته بأنها إظهار الإسلام، واتخذ تجاهها إجراء الحياة والموت. فقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه حين قص عليه عمه أبو طالب ما طلبته قريش منه: أن يجعل محمداً يكف عنهم، وقال له: «فأبق علي وعلى نفسك ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق» قال له الرسول صلى الله عليه وسلم : «يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته». وحين أقام الدولة وقام بالجهاد بالسيف قد حدد قضيته كذلك بأنها إظهار الإسلام، واتخذ تجاهها إجراء الحياة أو الموت. فقد روى عنه صلى الله عليه وسلم  أنه حين كان بعسفان على مرحلتين من مكة وهو ذاهب إلى العمرة في حادث الحديبية، لقيه رجل من بني كعب، فسأله النبي عما قد يكون لديه من أخبار قريش، فكان جوابه: «قد سمعت (أي قريش) بمسيرك فخرجوا وقد لبسوا جلود النمور، ونزلوا بذي طوى، يعاهدون الله لا تدخلها عليهم أبداً. وهذا خالد بن الوليد في خيلهم قد قدموها إلى كراع الغميم» فقال الرسول: «يا ويح قريش! لقد أهلكتهم الحرب. ماذا عليهم لو خلو بيني وبين سائر العرب، فإن هم أصابوني كان ذلك الذي أرادوا، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة. فما تظن قريش؟ فوا لله لا أزال أجاهد على الذي بعثني الله به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة» والسالفة صفحة العنق وكنى بانفرادها عن الموت، ثم مضى في سيره حتى نزل بالحديبية.

ففي هاتين الحالتين: حالة حمل الدعوة بالصراع الفكري، وحالة حملها بالجهاد بالسيف، حدد الرسول قضيته بأنها إظهار الإسلام، وجعلها قضية مصيرية. واتخذ تجاهها الإجراء الذي تتطلبه وتحتمه في الحالتين، وهو إجراء الحياة أو الموت. ولذلك قال في الحالة الأولى: «حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته»، وقال في الحالة الثانية «حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة». ولو لم يجعل الرسول تلك القضية قضية مصيرية، ويتخذ تجاهها إجراء الحياة أو الموت، ما ظهر الإسلام، لا بتبليغ الدعوة عن طريق الصراع الفكري، ولا بتبليغها عن طريق الجهاد بالسيف. وكذلك ما عليه المسلمون اليوم في واقعهم، وهو تحكم أنظمة الكفر فيهم وسيطرة الكفار والمنافقين عليهم، فإنهم إذا لم يجعلوا قضيتهم قضية مصيرية، ويتخذوا تجاهها إجراء الحياة أو الموت، لا يمكن أن يحصل لسعيهم أي إنتاج، ولا يمكن أن يتقدموا خطوة واحدة إلى الأمام.

لهذا فإنا ندعو كل مسلم في وسط هذا الكفر المتحكم في بلاد الإسلام، لأن يعمل لإقامة الخلافة طريقة لتحويل بلاده إلى دار إسلام، وتوحيدها مع غيرها من بلاد المسلمين، وأن يحمل الدعوة إلى العالم ابتغاء إظهار الإسلام، وأن يردد بإيمان صادق، واستنارة ووعي، قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «والله ولو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته» وقوله عليه السلام:«فوا لله لا أزال أجاهد على الذي بعثني الله به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة».

من كتاب: كيف هدمت الخلافة

عبد القديم زَلّوم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *