العدد 36 -

السنة الثالثة – رمضان 1410هـ، نيسان 1990م

العدوى والطِّيَرَة

وردت إلى «الوعي» الرسالة التالية من أحد قرائها الأفاضل. وفيها تعقيب على مقال في العدد (32) من «الوعي». ومن أجل توضيح الصورة لمن لم يتسنَّ له الاطلاع على المقال نورد وجهة نظر كاتبه بإيجاز. يقول (بتصرّف): إذا وقع تعارض بين خبر قطعي وخبر ظني فلا بد من أخذ القطعي وتأويل الظني أو ردّه. وضرب مثلاً على ذلك حديث: «لا عدوى ولا طيرة في الإسلام». قال: لقد ثبتت العدوى بشكل قطعي، فصرنا ملزمين أن نفسّر عبرة (لا عدوى) أنها للنهي وليست لنفي وجود العدوى. أي لنهي من يحمل مرضاً معدياً أن يختلط بغيره بشكل ينقل العدوى، ولنهي السليم عن الاختلاط بغيره من المرضى بشكل ينقل إليه المرض.

وفي المقال الذي بين أيدينا يصحح القارئ الكريم نقطتين: الأولى هي أن (لا) تبقى النافية للجنس وليس الناهية من الناحية النحوية. وهذا هو الصحيح كما ترى «الوعي»، ولكن المعنى يتضمن النهي كما قصد كاتب المقال حين استشهد ببقية الحديث «ولا طيرة».

والثانية هي أن الحديث ينفي جعل العدوى سبباً أصلياً للمرض لأن المسبب الأول هو الله، وهناك أحاديث أخرى تنفي العدوى كما يفهمها أهل الجاهلية. أي أن هناك اختلافاً في طريقة التأويل بين الكاتبين.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين وبعد: فقد لفت نظري وأنا أقرأ العدد الأخير من السنة الماضية من مجلة «الوعي» حفظها الله وأصحابها، لفت نظري بحث ممتاز عنوانه «بين العقل والدين». والحق الحق أقول: إنه بحث قل نظيره في الاستقصاء وفي إزالة الإشكال عن مفهومين رئيسين هما القطعي والظني، وعن قضية البحث في النص.

على أنني وقفت مطولاً عند آخر المقال (تقريباً) وهو الكلام على حديث الرسول صلوات الله وسلامه عليه: وقفت لأمرين حزَّ أحدهما في نفسي (وهو نحوي)، والآخر حول مضمون الحديث «لا عدوى ولا طِيَرَةَ في الإسلام».

فأما الأمر النحوي فمضاده أن «لا» عند الأخ الكريم كاتب المقال، حفظه الله، تعني (لا) الناهية وهو ير بها ناهية بالفعل. فعجبت إذ لا أعهد في مصطلح النحو «لا» الناهية تدخل على الاسم. فلا الناهية تختص بالأفعال، وهي جازمة. وأما النافية فهي الداخلة على الأسماء، وربما على الأفعال في حالات مخصوصة. وهذا من حيث الأصل في الاصطلاح.

وأما (لا) التي للنهي فهي كقولك: لا تفعل كذا، وكقولك: لا تفعل كذا، وكقول الله سبحانه ]لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارى[ فهي تدخل على الفعل المضارع وتفيد الامتناع والمنع عن العمل المأمور بتركه والمستفاد من الفعل الذي دخلت عليه (لا). ومن حيث العمل فهي جازمة للفعل المضارع.

وأما (لا) النافية فهي لها معان مثيرة، مثال دخولها على الفعل قولك: أنت لا تكذب. ولا عمل لها البتة. وأما الداخلة على الأسماء فمنها (لا) النافية للجنس العاملة عمل «إن» هي بيت القصيد في كلامنا وأقتصر عليها خشية الإطالة. وهذه (اللا) تعني نفي مطلق الجنس، ومن حيث العمل فهي تنصب ما بعدها تأثيراً. وذلك كقوله تعالى:  ]لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمْ الْيَوْمَ[. وهي المعنية في الحديث «لا عدوى ولا طيرة في الإسلام».

وسامح الله الأخ الكريم فقد عَجلَ إلى التفسير فالتبس عليه أمر النحو. [ولعل له عذراً وأنت تلوم] وقولي هذا لأن جميع الأحاديث في هذا الباب يكفي ويحتاج إلى التأويل والجمع. وأنا ها هنا أبين أن شاء الله هذه المعاني، وهو ما سنح به الفكر والله المستعان.

فقد عقد البخاري في كتاب الطب باباً ترجم له بعبارة (باب الطيرة) قال فيه راوياً عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا عدوى، ولا طيرة، والشؤم في ثلاثٍ: في المرأةِ والدار والدابة» وفي الباب نفسه عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا طيرة وخيرها الفال قالوا: وما الفال؟ قال: الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم».

وفي ترجمة أخرى من نفس الكتاب (باب الفأل) روى البخاري (رحه) عن أبي هريرة نحو الحديث السابق إلا أنه «قالوا: وما الفأل يا رسول الله»؟ صلى الله عليه وسلم. وعن أنس في الباب نفسه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا عدوى ولا طيرة ويعجبني الفأل الصالح والكلمة الحسنة».

وفي (باب لا هامة) يروي البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صَفَرَ».

وفي باب آخر بنفس العنوان الأخير يروي البخاري عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا عدوى، ولا صَفَر ولا هامَةَ، فقال أعرابي: يا رسول الله، فما بال الإبل تكون في الرمل كأنها الظباءُ فيخالطها البعير الأجربُ فَيُجر بها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن أعدى الأول»؟ وعن أبي سلمة سمع أبا هريرة بعدُ يقولُ: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يُورِدَنَّ مُمرضٌ على مُصِحّ». وأنكر أبو هريرة حديث الأول. قلنا: ألم تُحدَّث أنَّه لا عدوى فرطن بالحبشية. قال أبو سلمة: فما رأيته نسي حديثاً غيره. [أبو سلمة اسمه عبد الله بن عبد الأسد وهو راو للترمذي] [وقد قال في صحيح مسلم بهذه العبارة: لا أدري نسي أبو هريرة أو نسخ أحد القولين الآخر].

وفي (باب لا عدوى) روى البخاري الأحاديث من طرق أخرى. وروى أن ابن سلمة قوله: سمعت أبا هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تُورِدُ الممرضَ على المُصِحَّ». وقد روى مسلم هذا الحديث في صحيحه. وفي مجمع الزوائد لابن حجر الهيثمي أيضاً.

وأما الألفاظ التي وردت فتفسرها ما يلي: العدوى: وهي كما ظن الأعرابي فقد كان أهل الجاهلية ينسبون الجرب إلى العدوى. وأما الهامَةُ فهي اعتقاد خرافي في الجاهلية محصلة أن الميت إذا مات صارت عظامه هامة تطير. وهي طائر فيما زعموا يشبه البومة. ويخصون هذا في القتيل فإذا لم يؤخذ بثأره زعموا أن الهامة تصيح اسقوني وشاهده قول شاعرهم:

يا عمرو إلاَّ تدعْ شتميِ ومَنْقَصَتي

                         أضربْكَ حتى تقولَ الهامةُ: اسقوني

والفأل قال النووي في شرح مسلم: (الفأل يستعمل فيما يسر وفيما يسوءُ في السرور) (والطيرة: لا تكون إلا في السوء، وقد تستعمل مجازاً في السرور). وأصل الطيرة أنهم كانوا إذا أزمعوا حاجة ينفِّرون الظباء أو الطيرَ فإن أخذت ذات اليمين تبَّركوا بها ومضوا في حوائجهم وإذا أخذت ذات الشمال نَكصوا وتشاءموا بذلك.

وأما الصَّفَر ففي لسان العرب (وهو من النهاية في غريب الحديث): (وقوله في الحديث:… قال أبو عبيد: فسرَّ الذي روى الحديث أن صفر دوابُّ البطن. وقال أبو عبيد: سمعت يونس سأل رؤبة عن الصفر، فقال: هي حية تكون في البطن تصيب الماشية والناس، قال: وهي أعدى من الجَرَب عند العرب، قال أبو عبيد: فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم أنها تعدي قال: ويقال: إنها تشتد على الإنسان وتؤذيه إذا جاع. وقال أبو عبيدة في قوله: لا صَفَر: يقال في الصفر أيضاً: إنه أراد به النسيء الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية، وهو تأخيرهم المحرّم إلى صَفَر في تحريمه، ويجعلون صَفَراً هو الشهر الحرام فأبطله. قال الأزهري: والوجه فيه التفسير الأول» أ هـ والصواب التفسير الثاني، لأن الحية (الصفر) تدخل في قول الرسول صلى الله عليه وسلم (لا عدوى). وقول رؤبة: (هي أعدى من الجرب عند العرب) يزيل الإشكال.

وأما قول الرسول صلى الله عليه وسلم (والشؤم في ثلاث… الحديث) فهو تخصيص للعام الذي هو الطيرة. وهو من باب عطف التفسير (عطف الخاص على العام) هذا ما فهمه العلماء منه، منهم الخطابي في شرحه لسنن أبي داود.

فالرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن طيرة الجاهلية وعن مفهوم القوم آنذاك للعدوى. وهو أن الناس في الجاهلية كانوا ينسبون المرض إلى العدوى، دون أن يخطر في ذهنهم أن الله سبحانه هو المسبب. وهذا يستقيم مع معنى الحديث الآخر: «لا يُورد ممرض على مُصحِّ» ومع قول الرسول صلى الله عليه وسلم للأعرابي: «فمن أعدى الأول» فالمسألة هي على النحو التالي: المرض سببه الله، والعدوى هي من الله وهو الذي قدَّر خاصية العدوة في الحياة، والعدوى ذاتها ما هي إلا ظرف أو حالة نلتزم بها ليس إلا. أي: إننا يجب أن نبتعد عن الظرف والحالة التي تحدث فيها العدوى. فالعدوى ليست سبباً بل هي حالة قدَّرَها الله.

وأما الطيرة فهي طيرة أهل الجاهلية التي ذكرت آنفاً. ولا عبرة بقول الخطابي في شرحه لمعنى الحديث (والشؤم…) فالعطف ليس من باب الاستثناء، ولا من باب عطف التفسير. بل الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر حالة نفسية تحدث للإنسان ومنها هذه الحالات الثلاث. بدليل ما أخرجه أبو داود في كتاب الطب «الطيرة من الشرك…» والحديث عن ابن مسعود وفيه «وما منا إلا، ولكن الله يذهبه بالتوكل» فالحديث فيه علة وهي أن قول الرسول هو «الطيرة من الشرك» فقط. وما بعده هو من قول ابن مسعود هكذا نقله البخاري عن سليمان بن حرب. فالجاهليون فهموا أن الطيرة لها تأثير والحيوان ليس له تأثير قطعاً ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك. وقول ابن مسعود يُظْهِرُ أن هناك أمرين: الطيرة بمعنى الجاهلية، والمعنى الآخر الذي فهمه ابن مسعود هو (الشؤم) وهو معنى نفسيٌّ، ولذلك فالرسول ذكر الشؤم لاقتضاء الكلام هذا المعنى النفسي فلم ينكره. وكذلك الفأل فهو حالة نفسية أيضاً. وهذا واضح في معنى الإضافة من قول الرسول في حديث آخر «لا طيرةَ وخيرها الفألُ» فالفأل هو المعنى النفسي الداخل ضمن معنى الطيرة أيضاً. وهو الظاهر من أسلوب الرسول صلى الله عليه وسلم في التعليم، فهو يذكر الشيء في جوابه، وما يلابس هذا الشيء تماماً لمراد السامع.

وبقي لَبْسٌ آخر في حديث رواه البخاري في كتاب الطب، وقد أجاب الرسول صلى الله عليه وسلم عن إشكال حول سبعين ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب، فقال: «هم الذين لا يَسْتَرْقون ولا يتطيّرون ولا يكْتوون وعلى ربهم يتوكلون» فهو أمرنا بالرُّقْية فكيف يستقيم المعنى؟ أقول: الرقية هي رقية بغير كلام الله وبغير ما علمناه رسول الله. أي: ما كان علي أمر الجاهلية. والتطير واضح وهو فعل الجاهلية وما يشابه فعل الجاهلية من نسبة الأشياء إلى غير الله وفهمها على نحو فهمه أهل الجاهلية. وأما الكي فقد ورد نهي الرسول عن الكي مع أنه دواء، وهنا نجد أنه يُعْمل على الكراهة لقوله في الحديث نفسه: «إن كان في شيء من أدويتكم شفاء ففي شرطة محِجَم أو لذعة بنار وما أحب أن اكتوي» والكي دواء الجاهلية أيضاً فلذلك اقترن بالكراهة، ولأن فيه أذى شديد للإنسان، فقرنه بالسبعين ألفاً إنما هو لمراعاة الأفضلية ليس غير. وهو ما يفهم من الحديثين والأحاديث الأخرى التي لا يتسع ذكرها في هذه العجالة.

وبعدُ: فأرجو أن أكون قد بلغت، وهذا جهدُ العبد الفقير إليه تعال. ووفقكم الله لما يحبه ويرضاه من القول والعمل، وأستغفر الله لي ولكن ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

]رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ[.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أخوكم أبو عبد الله.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *