العدد 36 -

السنة الثالثة – رمضان 1410هـ، نيسان 1990م

اختلاف المطالع: حقيقته وأثره

إذا ثبتت رؤية الهلال بقطر من الأقطار وجب الصوم على سائر الأقطار، لا فرق بين القريب من جهة الثبوت والبعيد إذا بلغهم من طريق موجب للصوم. ولا عبرة باختلاف مطلع الهلال مطلقاً عند ثلاثة من الأئمة (الحنفية والمالكية والحنابلة)؛ أما الشافعية فقالوا: إذا ثبتت رؤية الهلال في جهة وجب على أهل الجهة القريبة منها من كل ناحية أن يصوموا بناء على هذا الثبوت، والقرب يحصل باتحاد المطلع، بأن يكون بينهما أقل من أربعة وعشرين فرسخاً تحديداً (120كلم)، أما أهل الجهة البعيدة فلا يجب عليهم الصوم بهذه الرؤية لاختلاف المطلع.

من كتاب: الفقه على المذاهب الأربعة ج/ ص

حين قدّر السادة الشافعية اتحاد المطلع في دائرة جغرافية مركزها الرؤية ونصف قطرها 120 كلم لم يستندوا إلى نص بل قاسوا ذلك على مسافة قصر الصلاة في السفر.

إن المدقق يجد أن رأي الأئمة الثلاثة أصح من رأي الشافعية. والمسألة تعتمد على تحقيق المناط. وتحقيق المناط يحتاج إلى علم بالواقع وليس فقط بالنصوص.

وإذا عدنا إلى الواقع نجد أن علم الفلك قد قدم لنا معرفة واسعة هذه الأيام لم تكن متوفرة في أيام الأئمة رضوان الله عليهم. نحن نعرف اليوم مثلاً أن ولادة الهلال تحصل في وقت واحد بالنسبة لجميع مناطق الأرض، أما رؤيته فتختلف حسب المواقع. ولادة هلال رجب لهذا العام (1410 هـ) كانت يوم الجمعة 26 كانون الثاني حوالي الساعة 19 بتوقيت غرينش (21 بتوقيت بيروت)، إذ في ذلك الوقت حصل كسوف للشمس. وكسوف الشمس يحصل في الوقت الذي يولد فيه الهلال، لأن القمر يقع في تلك اللحظات على خط مستقيم بين الأرض والشمس فيحجب جانباً من الشمس عن الأرض ويحصل كسوف الشمس. قبل هذه اللحظات كنا ما زلنا في شهر جمادى الآخرة، وفي لحظات الكسوف كنا في بين جمادى الآخرة ورجب، وبعد نهاية الكسوف كان ولد هلال شهر رجب.

فإذا كنا على يقين بأن ولادة هلال رجب كانت (بالنسبة لأي مكان على الأرض) حوالي الساعة 19 من يوم 26 كانون الثاني، وإذا كنا نعلم أن شهر رجب يساوي حوالي 29 يوماً ونصف واليوم وأنّ شهر شعبان يساوي حوالي 29 يوماً ونصف اليوم نتوصل إلى أنّ ولادة هلال رمضان لهذا العام (1410 هـ) هي حوالي الساعة 19 من يوم الاثنين 26 آذار 1990م.

ونحن نعلم من النصوص الشرعية أن بداية الشهر القمري لا تحتسب من لحظة ولادة هلاله بل من وقت رؤية هلاله. ورؤية الهلال غير ممكنة إلا بعد مرور عدة ساعات على ولادته. لأن الهلال عند ولادته يكون صغيراً وقريباً من الشمس فيغلب نور الشمس على نوره ويمنع رؤيته.

ونحن نعلم أن الهلال يتأخر عن الشمس كل يوم بحوالي 48 دقيقة، أي إذا غاب بعد غياب الشمس بساعة فإنه في اليوم التالي يغيب بعد غيابها بحوالي ساعة و48 دقيقة. وهذا يعني أن القمر يتخلف عن الشمس دقيقتين كل ساعة.

فإذا ولد هلال رمضان الساعة 19 من يوم 26 آذار فإن رؤيته ممكنة حوالي الساعة 24 من اليوم نفسه لأن الهلال يكون قد تخلف عن الشمس بحوالي 11 دقيقة أي يغيب بعد غياب الشمس بحوالي 11 دقيقة أي يغيب بعد غياب الشمس بـ 11 دقيقة. أي تمكن رؤيته في كثير من بقاع الأرض مثل المغرب مثلاً.

فإذا رآه بعض المسلمين وأعلموا غيرهم بتلك الرؤية صار الجميع ملزمين بتلك الرؤية. ولا يوجد في الواقع أثر لاختلاف المطالع، لأن ولادة الهلال تحصل في مكان واحد وفي لحظة واحدة بالنسبة لجميع بقاع الأرض، والاختلاف هو في الرؤية، ورؤية بعضهم ملزمة للباقين.

ونصوص الأحاديث ألزمت المسلمين برؤية بعضهم، وصار الآن من الواجب على اتباع المذهب الشافي أن يغيّروا في هذه المسألة ولا تبرأ ذمة المجتهد في المذهب ولا ذمة المقلد المتفقه إذا انتبها إلى مناط المسألة.

والشبهة التي استند إليها السادة الشافعية في اختلاف المطالع هي الحديث الذي رواه مسلم: «عن كريب أن أم الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية بالشام قال: فقدِمتُ الشام فقضيت حاجتها واستهلّ عليّ رمضان وأنا بالشام فرأيت الهلال ليلة الجمعة ثم قدمت المدينة في آخر الشهر فسألني عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، ثم ذكر الهلال فقال: متى رأيتم الهلال؟ فقلت: رأيناه ليلة الجمعة. فقال: أنت رأيته؟ فقلت: نعم ورآه الناس وصاموا وصام معاوية، فقال: لكنّا رأيناه ليلة السبت، فلا نزل نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه، فقلت: أولا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال: لا، هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم».

والواقع أن ابن عباس اجتهد رأيه من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته». فهو حين قال: «هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم» كان يشير إلى هذا الحديث ولم يستند إلى نصٍ بأن لكل بلد رؤيته الخاصة به وله يوم خاص به للصوم أو للعيد. وهذا الاجتهاد من ابن عباس فيه خطأ في فهم المناط وتبعه السادة الشافعية في ذلك.

وإذا فسرنا عبارة اتحاد المطلع بأنها المناطق التي ترى الهلال في وقت واحد فهذه تشبه اتحاد مطلع الشمس. فالمناطق التي تشرق عليها الشمس في وقت واحد تكون غالباً امتداداً من الجنوب إلى الشمال (أي تقع على خط عرضٍ واحد أو خطوط عرض متقاربة حسب فصول السنة). أما المناطق التي تقع على امتداد خطوط طول متقاربة حسب فصول السنة) فهي التي تختلف في المطلع. هذا هو الواقع بالنسبة لشروق الشمس وهو أيضاً بالنسبة لطلوع القمر. فاختلاف المطالع يعتمد على امتداد المسافة من الشرق إلى الغرب وليس من الجنوب إلى الشمال. ولا قيمة لبعد المسافة إذا كانت المناطق واقعة على امتداد بين الشمال والجنوب. وهذا يُري خطأ اعتماد مسافة القصر الكبرى (120 كلم) إذا سار المسافر من الجنوب إلى الشمال أو من الشمال إلى الجنوب لأنه يبقى في المطلع نفسه تقريباً. أما إذا سار المسافر من الشرق إلى الغرب أو من الغرب إلى الشرق فإن وقت طلوع الشمس يختلف وكذلك وقت طلوع القمر يختلف. وتقدير فرق الوقت إلى فرق المسافة يزيد قليلاً عن أربع دقائق مقابل مسافة (120 كلم). وبشكل أدق: إذا كانت الشمس تشرق على مكان الساعة السادسة و4 دقائق و18 ثانية تقريباً إذا كان المكانان على مستوى واحد (أي في صحراء أو سطح بحر مثلاً). وكذلك إذا كان القمر يطلع في مكان الساعة السادسة واعتبرنا مكاناً يبعد عنه مسافة 120 كلم إلى الغرب فإن القمر يطلع عليه الساعة السادسة و4 دقائق و22 ثانية تقريباً، لأن القمر أبطأ في حركته من الشمس (نعتبر الحركة الظاهرية).

وهذه الدقائق الأربعة لا تكاد تذكر فكيف نرتّب عليها اختلاف بدء الصوم واختلاف بدء العيد عند المسلمين؟

إذا عرفنا أن محيط الكرة الأرضية هو 40,000 كلم تقريباً فتكون أبعد مسافة بين نقطتين على سطح الأرض لا تزيد عن 20,000 كلم، ويكون أطول وقت كفرق في مطلع الهلال لا يزيد عن 12 ساعة و24 دقيقة. فحين يرى الهلال بعض المسلمين على سطح الأرض ويعلنون رؤيتهم بالوجه الشرعي، فإن المسلمين الواقعين إلى شرقهم يأخذون برؤيتهم ويصومون إذا كان الليل ما زال موجوداً عندهم، ويمسكون ويقضون يوماً إذا كان النهار طلع عندهم. والمسلمون الواقعون إلى غربهم يمكنهم رؤية الهلال بشكل أوضح إذا كانت السماء عندهم صافية.

ويمكن الاستفادة من الحسابات الفلكية. الشرع لم يمنع الاستفادة من الحسابات بل ربط مسألة الصوم والفطر والحج بالرؤية. والحسابات هذه الأيام وصلت إلى درجة من الدقة يمكن الاعتماد عليها والاستفادة منها. وبناء على الحسابات يستطيع جميع المسلمين أن يعرفوا وقت ولادة الهلال ووقت رؤيته، وبذلك يكونون مستعدين للصوم أو للعيد. وحين يرى بعضهم الهلال يعلن الرؤية ويسير المسلمون جميعاً مع بعضهم في صومهم وفطرهم وعيدهم.

ومن المناسب أن نذكر هنا أن الذين يقولون بالاعتماد على الحسابات والاكتفاء بها دون رؤية الهلال، هؤلاء رأيهم رأي إسلامي لأن دليلاً فهموه مما رواه مسلم في صحيحه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نحن أمة أمّة لا نكتب ولا نحسب، صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته». هؤلاء فهموا أن علة الأمر بالاعتماد على الرؤية هو كوننا لا نحسن الحساب. فإذا صرنا نتقن الحساب فلا لزوم للرؤية. هذا رأي إسلامي ولا يجوز تسفيه أصحابه إذا كانوا قد بنوه على هذا الاجتهاد.

ولكن الفهم الأدق وحسب فهمنا للنصوص هو اعتبار الرؤية ولا مانع من الاستفادة من الحسابات.

في مطلع البحث ذكرنا أن الحنفية والمالكية والحنابلة قالوا بوجوب الصوم في جميع الأقطار إذا رأى المسلمون الهلال في أي قطر، وتكون رؤية بعض المسلمين رؤية للباقين. والشافعية وحدهم قالوا باختلاف المطالع. ولكن ما يجري اليوم في البلاد الإسلامية ليس تقليداً للمذهب الشافعي، بل هو عمل بلا دليل لأنهم يجعلون المصري تابعاً لحدود مصر السياسية في صومه وعيده، وكذلك المغربي والإيراني والسوري والتركي. هؤلاء لم يعتبروا مسافة الـ (24) فرسخاً أي (120 كلم) التي قال بها الشافعي، بل يقولون باتباع حاكم قطرهم، وكأن هذه الأقطار صارت لها حدود دينية يقام عليها الصوم والفطر.

المسلمون أمة واحدة، وملزمون بأحكام شريعة واحدة، وإن رأى بعض المسلمين الهلال فإن رؤيتهم هي رؤية لجميع إخوانهم على سطح المعمورة، ولا قيمة في الدين لهذه الحدود.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *