العدد 34 -

العدد 34 – السنة الثالثة – رجب 1410هـ الموافق شباط 1990م

صياغة لبنان وصياغة المنطقة

 يجري في لبنان الآن تطاحن دموي بين عون وجعجع. وتجري ترتيبات لتنفيذ خطوة اتفاقية الطائف وتجري في المنطقة اتصالات للبحث في شأن التفاهم بين إسرائيل ومنظمة التحرير كما تجري لقاءات للبحث في مسألة هجرة اليهود الروس إلى فلسطين. وما أعلن عنه شامير من بناء إسرائيل الكبرى. ويجري البحث في موضوع توطين الفلسطينيين حيث هم في الأردن وسوريا ولبنان. هل من رابط بين هذه الأمور.

هناك عبارة تترد بأن مشكلة لبنان مرتبطة بشكل منطقة الشرق الأوسط، ولا يمكن الفصل بينهما. ولا يمكن حل إحداهما إلا على ضوء حل الأخرى لأنهما متداخلتان.

إن هذا الكلام صحيح من وجهة نظر أميركا، وقد فرضته على دول المنطقة وعلى الدول التي تتعاطى بشؤون المنطقة فصاروا يرونه صحيحاً. ذلك أن أميركا هي التي تمسك بأوراق الحل، وهي صاحبة الكلمة النافذة في صياغة المنطقة. وهي تطبخ الحل والصياغة وفق مصالحها على المدى البعيد.

المعطيات على الأرض تشير إلى أن أميركا تتبنّى توطين الفلسطينيين حيث هم: فلسطيني الأردن في الأردن، وفلسطيني سوريا في سوريا، وفلسطيني لبنان في لبنان، وفلسطيني الضفة القطاع حيث هم في حكم ذاتي تحت جناح إسرائيل.

توطينهم في لبنان يولّد مشكلة تحتاج إلى حل. وإبقاء الضفة والقطاع تحت حكم إسرائيل في حكم ذاتي يولّد مشكلة تحتاج إلى حل.

أما مشكلة الحكم الذاتي فإن منظمة التحرير الفلسطينية قد سنّت أسنانها لإقامة دولة مستقلة. وأميركا تخادع المنظمة وتمنيها بالوعود وتأخذ منها التنازلات. وفي كل مرة تعلن المنظمة أنها لن تتنازل أكثر، ثم يقنعونها بالتنازل.

أميركا تعمل لإعطاء المنظمة دولة في شرق الأردن بدل الملك حسين، وليس في الضفة والقطاع. والملك حسين يعرف هذا. ولذلك فهو يحذر من الوطن البديل. وهو يعرف أن أميركا حاولت الإطاحة به أكثر من مرة، بدءاً بسنة 1957 ومروراً بسنة 1970، وهي الآن تحاول.

إذاً حل مشكلة الحكم الذاتي يكون بإزاحة الملك حسين وإعطاء السلطة لمنظمة التحرير، هكذا تراه وتعمل له أميركا. وتبقى الضفة والقطاع في حكم ذاتي مع إسرائيل.

وأما مشكلة التوطين في لبنان فهي الجانب الأهم من تداخل مشكلة لبنان في مشكلة المنطقة. يوجد في لبنان حوالي نصف مليون فلسطيني. الموارنة ينظرون إليهم على أنهم أعداء، فقد استعانوا بإسرائيل سنة 1982 لإخراج منظمة التحرير من لبنان، وقاموا بمجزرة صبرا وشاتيلا. وكانوا قبل ذلك قاموا بمجزرة تل الزعتر. وقد سمعنا هذا الأسبوع عناصر الجيش اللبناني (جيش عون) وعناصر القوات اللبنانية (قوات جعجع) يدلون بأقوال من تلفزيون (L.B.C) يعلنون فيها على الملأ بأن عدوهم رقم 1 هو الفلسطيني ثم السوري. فكيف يقبلون بمنح بطاقة الهوية اللبنانية إلى نصف مليون من هؤلاء الأعداء؟‍

أميركا تدرك هذه المشكلة وتعمل على تذليلها. ومن عوامل تذليلها كسر شوكة الموارنة كي يفقدوا القدرة على المعارضة من جهة، وإعطاؤهم إدارة لا مركزية يتمتعون فيها ببعض الحريات والامتيازات.

ليس الموارنة وحدهم هم الذين يرفضون التوطين ويخوفون من عواقبه بل حركة أمل ووليد جنبلاط وكثير غيرهم. وليد جنبلاط يخاف أن يأخذ الفلسطينيون منه إقليم الخروب. ومن أجل أن تقضي أميركا على جميع العقبات في وجه التوطين فإنها ستعمل على ترويض جميع الفئات التي تحاول منعه. وهذا يعني أن الفوضى التي يعيش فيها لبنان من المتوقع أن تستمر طويلاً. وأميركا ليست في عجلة من أمرها، فقد انفجرت مشاكل لبنان منذ 15 سنة، وقد تستمر أكثر من ذلك. وحين وقف مورفي على باب بربكي وقال: “إما أن تنتخبوا مخايل الضاهر لرئاسة الجمهورية وإما لبنان إلى الفوضى”، حين قال ذلك كان يدفع لبنان إلى الفوضى وليس إلى انتخاب الضاهر.

وما يجري الآن من تطاحن دموي بين عون وجعجع هو من الأمور التي تخدم هدف أميركا. ذلك أن أميركا تريد كسر شوكة الموارنة ليقبلوا بالصياغة التي ترسمها للبنان. ميشال عون كان مع أميركا ولمّا لم تحقق له طموحاته تمرد عليها، ومع ذلك فإن أميركا لم تعمل جدياً على إزاحته، لأنه ما زال يلزم لتنفيذ مخططها على ظهره. القوات اللبنانية بقيادة جعجع لم تكن في يوم من الأيام مع أميركا بل مع إسرائيل. وقبل أشهر حصلت اتصالات بين جعجع وسوريا وبين جعجع وأميركا، وحصلت مغازلات، ولكن لم تحصل ثقة بينه وبين سوريا أو بينه وبين أميركا.

والذي يبدو أن أميركا تريد إخراج القوات (جعجع) من بيروت بواسطة عون، فإذا حصل ذلك تبدأ بالعمل جدياً لإزالة عون، وبسط ما يسمونه بالشرعية.

اتفاقية الطائف تحقق الهدف الأميركي، ذلك أن أميركا إذا استطاعت ترويض جميع الفئات المعارضة للتوطين، واستطاعت أن تملي ما تريد فيها، وإلا فإن سوريا ستبقى في لبنان، لأن الاتفاقية تنص على بقاء سوريا سنتين بعد تنفيذ الاتفاقية. وبعد السنتين تنسحب على المديرج. أي أن لبنان أصبح بموجب اتفاقية الطائف في عهده سوريا إلى أن تتم الصياغة المطلوبة.

وما قيل عنه من خطة أمنية لبيروت الغربية لا يتوقع أن يزيد عن تسليم الحواجز في الطرقات إلى قوى الأمن الداخلي اللبنانية، من أجل عدم اشغال القوات السورية بالشؤون اللبنانية اليومية.

أما إذا تم إخراج القوات اللبنانية (قوات جعجع) من بيروت (إلى شمال نهر الكلب)، وتم إقصاء عون وتسلم الهراوي بيروت الشرقية، فسيخطون خطوة أكبر نحو صياغة لبنان. وذلك إرضاء للبابا وفرنسا والجهات التي تحرص على عدم زوال كيان لبنان أو تذويبه. الباب كان قال لوزراء اللجنة الثلاثة (التي رعت اتفاقية الطائف): “بأن لبنان تم إيجاده قبل قرن وربع من أجل المسيحيين خاصة وأنتم في اتفاقية الطائف لم تراعوا هذا بشكل كاف”. ولذلك فإن البابا لم يوافق على الاتفاقية ولم يعترف بالهرواي إلا بعد أن اشترط عليه وعلى الحص أن لا تستعمل القوة ضد الشرقية. وأعطوا للبابا ما طلب.

والآن هناك نداءات من نواب النصارى للهراوي للتدخل عسكرياً. والهراوي يشترط أن تأتي النداءات من الشعب. وهذا يدل على أنه يعتبر أن الشعب لا يعترف به. والحقيقة أنه ينتظر الإذن من أميركا وينتظر موافقة البابا وفرنسا اللذين اشترطوا عليه عدم استعمال القوة في الشرقية. فإذا ما أتاه الإذن فإنه يتدخل. وهذا التدخل يأخذ بالحسبان موقف إسرائيل.

أما إرضاء الفاتيكان وفرنسا والأوساط التي يهمها عدم ذوبان الكيان الماروني، فيكون عن طريق منح الموارنة بعض الامتيازات وبعض الحريات التي ستحتاج إلى كثير من الأخذ والرد.

الفلسطينيون أنفسهم لا يرفضون التوطين بعد أن يئسوا من العودة إلى فلسطين. وقد وصلوا إلى قمة اليأس هذه بعد أن اعترفت منظمة التحرير بدولة إسرائيل وصادق المجلس الفلسطيني على هذا الاعتراف. حصل كل ذلك تحت دخان همروجة إعلان الدولة الفلسطينية. لقد رضي الفلسطينيون من الغنيمة بالتوطين. ولكن التوطين لم يرض بهم.

هذه هي وجهة نظر أميركا في الصياغة، أي في التخطيط والتنفيذ.

فهل تبقى الأمة الإسلامية كالعجينة بيد أميركا تعلب بها وتصوغها كما تشاء. أو تنهض لتثبت لنفسها وللعالم أنها أمة عريقة عزيزة كريمة، كبت كبوة، ثم هي عائدة إلى أصلها الذي أراده لها رب العالمين: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *