العدد 33 -

العدد 33 – السنة الثالثة – جمادى الآخر 1410 هـ الموافق كانون الثاني 1990م

المعركة المتجددة حول الدين والدولة – الخلاف حول الخلافة

تتمة البحث المنشور في العدد السابق

 صراع الهوية والتدخلات الاستعمارية

إن التدخل الاستعماري وعالم ما بعد الحرب العالمية الأولى وإلغاء الخلافة فرض على المسلم قضية بالغة التعقيد، وبدأت الأسئلة تتوالى على النحو التالي: ما هو موقع الدين من الدولة؟ وأين يقف الفرد بالنسبة إليها؟ وماذا عن الوافد المسيحي (النصراني) الذي يهيمن فعلياً على إدارة (وسياسة) الأمور؟ وكيف يتحدد الموقف الفكري لابن المنطقة في هذا التداخل بين الشرق والغرب خصوصاً وأن الأول في حضيض انحطاطه والثاني في أوج قوته؟ وعلى من تلقى التبعة؟ وهل العرق واللغة هما الأساس في تحديد الهوية أم المبدأ الروحي الذي أُلغي سبيل تحققه كمبدأ للسياسة والمجتمع؟ وما هو مفهوم الأمة؟ وكيف يتم البناء؟ ما هي الأسرة الجديدة وما هو دور المرأة في المجتمع؟

هذه التساؤلات لم تكن مختصة بمنطقة دون أخرى بل هي حالات شديدة التشابه في العالم الإسلامي وهي تحمل القلق ذاته، وقد قام أحد الباحثين من العرب بتحليل مشكلة الهوية في كل من تركيا ومصر وباكستان فوجد مدارات متشابهة للبحث تدلل على أزمة عميقة في الأقطار الثلاثة، ويمكن تعميم ذلك إلى أقطار أخرى أيضاً وكلها ناجمة عن تصدع الجسم الإسلامي (أنظر رسالة دكتوراه: عبد حسن، 1985، المجتمع الإسلامي في أزمة، جامعة ميتشغان). والواقع أن النقاش بصدد الهوية كان سابقاً لسقوط الخلافة وكانت تغذيه أطراف أجنبية (الماسونية في تركيا، والاستعمار الإنجليزي في مصر) ولكنه لم يصبح فاعلاً إلا مع إنهاء الخلافة وسيطرة الاستعمار على المنطقة.

وبرزت منذ منتصف القرن الماضي دعوات لم يعهدها المسلمون منذ قرون مثل النقاش حول القومية في تركيا والذي أدّى في خاتمته إلى ظهور النزعة الطورانية، وكان للمحافل الماسونية التي انتعشت في تركيا دورها في تشجيع النزعة القومية. وكان أبرز من لعب دوراً في تأسيسها الإيطاليون واليونانيون (انظر شكرو هانيوغلو: كاتب تركي، ملاحظات عن تركيا الفتاة والماسونية، مجلة دراسات الشرق الأوسط، المجلد 25 (1989) ص168). وظهرت في الشام نزعات قومية متطرفة قادها النصارى ممن ارتبطوا بالإرساليات التبشيرية عن طريق التعليم والوظيفة. وبرزت في مصر دعوات لوطنية فرعونية لم تكن بعيدة عن الإدارة الإنجليزية المحتلة.

وقد قاد العملية التوجيهية في المنطقة آنذاك شخصيات تغرف من المصادر الأجنبية دون حذر أو مراعاة لخصوصيات المسلمين، وكمثال على ذلك موقف طه حسين من الشعر الجاهلي الذي كان في الكثير منه انبهاراً بالمنهج الديكارتي في البحث، واعتماداً على الدراسات الاستشراقية، وهذا مما سهّل نقد طه حسين. وقد غلب على هؤلاء الكتاب طابع إضعاف النزعة الدينية وإهمال ما يتصل بالإسلام عقيدة وروحاً وتاريخاً وثقافة، إن القارئ لمؤلفات ساطع الحصري لا يجد فيها شيئاً يذكر عن الإسلام ما عدا مقالة تعرّض فيها لقضية «القومية والدين في البلاد الإسلامية» تلك المقالة التي تشكل القسم الأخير لكتابه «ما هي القومية؟» وحاول فيها إثبات أن القومية العربية قد ارتبطت بالديانة الإسلامية قبيل الفتوحات «ولكن ذلك لا يعني أن القومية العربية ظلت مرتبطة بالديانة الإسلامية لأنه قد تكونت أمم إسلامية غير عربية من ناحية وجماعات عربية غير مسلمة من ناحية أخرى». وقد بذل جهداً كبيراً في نقد فكرة الجامعة الإسلامية وحاول بطرق ملتوية إثبات أن الهوية الإسلامية لا تقوم إلى جانب الهوية القومية ولا تتقدم عليها.

وأما أحمد لطفي السيد ومحمد حسين هيكل وغيرهم من (الليبراليين) المصريين فإنهم تجاوزوا بعقولهم وأفكارهم إلى ما وراء البحار بقوا مشدودين إليه. ونقرأ في كتاب «اليوم والغد» لسلامة موسى قوله: «كلما ازددت خبرة وتجربة وثقافة توضحت أمامي أغراضي في الأدب كما أزاوله، فهي تتلخص في أنه يجب علينا أن نخرج من آسيا ونلتحق بأوروبا، فإني كلما زادت معرفتي بالشرق زادت كرهيتي له وشعوري بأنه غريب عني وكلما زادت معرفتي بأوروبا زاد حبي لها وتعلقي بها، وزاد شعوري بأنها مني وأنني منها». وربما يجد البعض تبريراً لسلامة موسى لكونه قبطياً ولكن المسألة لم تتوقف عنده فقد تابع طه حسين هذه الأطروحة بشكل تفصيلي في كتابه «مستقبل الثقافية في مصر» والذي يلخّص الدكتور محمد محمد حسين أهدافه كما يلي: أولاً: الدعوة إلى حمل مصر على الحضارة الغربية وطبعها بها وقطع ما يربطها بقديمها وإسلامها. ثانياً: الدعوة إلى إقامة الوطنية وشؤون الحكم على أساس مدني لا دخل للدين فيه. ثالثاً: الدعوة إلى إخضاع اللغة العربية لسنّة التطور ودفعها إلى طريق ينتهي باللغة الفصحى التي نزل بها القرآن الكريم إلى أن تصبح لغة دينية فحسب كالسريانية والقبطية واللاتينية واليونانية (الاتجاهات الوطنية، ج2، ص214). وقد كان طه حسين إقليمياً صرفاً في هذا الكتاب حيث حاول قطع مصر ليس فقط من كل ما هو إسلامي، بل من الشرق بأكمله وربطه بثقافة البحر الأبيض المتوسط، حيث قال ما نصه: «العقل المصري القديم ليس عقلاً شرقياً إذا فهم من الشرق والصين واليابان والهند وما يتصل بها من الأقطار… فإذا لم يكن بد من أن نلتمس أسرة للعقل المصري نقرّه فيها، فهي أسرة الشعوب التي عاشت حول بحر الروم» (الاتجاهات الوطنية ص217).

ردود فعل واتجاهات جديدة

إن هذا الفعل المتطرف قد أثار ردود فعل قوية لم تجز له أن يستمر، مما دعا إلى تغييرات مهمة في بنية الفكر (الليبرالي). لقد وصل مفكرو العشرينات وأوائل الثلاثينات إلى عزلة لها ما يبررها، فقد تحالف بعضهم مع الجهات الاستعمارية مثل حزبي الأمة والأحرار في مصر اللذين ضما أحمد لطفي السيد ومحمد حسين هيكل وعلي عبد الرازق، كما أن بعضهم قد جلبته الإدارة الاستعمارية مثل ساطع الحصري. وأن الإسلام هو الآخر ما زال قوياً فاعلاً في النفوس، وإن انحصر تأثيره في إطار الوضع الشخصي للفرد المسلم، وله أطراف تعمل في سبيل إعادة مجده (لاحظ أن حسن البنا قد حمل راية مجلة «المنار» التي كان ينشرها الشيخ رضا، وأن الأخير تسلم تراث «العروة الوثقى» التي أصدرها الأفغاني وعبده).

وقد لاحظ باحث أجنبي تحول (الليبراليين) المصريين إلى الكتابة الموسعة عن الإسلام في حدود منتصف الثلاثينات وبالخصوص هيكل الذي كتب «حياة محمد» وحسين الذي كتب «على هامش السيرة» وغيرها من المؤلفات في تاريخ الإسلام، وقد عزى هذا الباحث تحولهما إلى كونه أسلوباً مستحدثاً لإحباط المعارضة الدينية والسياسية لكتاباتهما، وأنهما استهداف من رواء ذلك التبشير بمحتوى أفكارهما ذاته ولكن من وسائط جديدة.

آثار سقوط الخلافة

لقد سقطت مع إنهاء الخلافة الوحدة الثقافية الشاملة التي كانت تعطي للأمة والوطن والفرد هويتهم المتميزة، وطورت خلال ذلك نظريات بديلة، فنحن نجد الوطن مؤوّلاً تأويلاً جغرافياً بدل أن يكون «دار الإسلام» والأمة محددة تحديداً عرقياً بدلاً من «الأمة المسلمة» التي جاء القرآن الكريم ليصوغها، ونجد الفرد الذي تتدخل الشريعة في تحديد سلوكه الشخصي التعبدي ومعاملاته مع الناس في إطاري الاقتصاد والسياسة قد أصبح «مواطناً» يخضع لقانون مدني لا يتسع لجوانب حياته كافة. ولكن هذه النظريات القومية والوطنية، الوحدوية والإقليمية بقيت على السطح ومل تتفاعل مع الكيان النفسي للإنسان المسلم، وقد أثبتت تجربة ثلاثة أرباع القرن أن هذه الخيالات أبعد ما تكون عن التحقق، وأصبح المثقف العربي كالعائد بخفيّ حنين وكالمرتجي السراب والماء العذب يتسلل من بين أنامله.

ولكن ليست هذه هي الصورة كلها فقد وعد الله تعالى بحفظ كتابه ودينه وقيّض له من انتدب نفسه لهذا الغرض. ولم يتحدد هؤلاء بحزب أو اتجاه أو نخبة محدودة بل الأمة بكاملها، وهي تتعاطف مع كل داع إلى وحدة المسلمين وتحقيق هويتهم المستقلة في ضوء الإسلام. ونتوقف هنا عند كلام أرنولد في خاتمة كتابه عن «الخلافة» إذ يتحسس هذا الشعور عند المسلمين: «إن عدداً مطرداً في الزيادة عند المحمديين (هكذا يسمى المسلمين وهي تسمية خبيثة) المتعرفين على العالم الحديث وأفكاره ومراميه ما زالوا متمسكين بمعتقد طفولتهم وما يرافقه في الجو الإسلامي الذي نشأوا فيه. وتبعاً لذلك فإنهم يتشوقون إلى أمر مثالي في أن يتحقق لهم نظام سياسي ما وتنظيم اجتماعي يستطيعون به التعرف على هويتهم، نظام حضاري إسلامي في طابعه وتعبيراته. إنهم يرفضون الهيمنة الفكرية الأوروبية. وحتى أولئك الذين لا يتمسكون حرفياً بالدين فإنهم ما زالوا مجذوبين إلى ثقافة إسلامية ويتحينون الفرصة لنزع الثقافة الغربية عنهم. لهم وللآخرين يبقى الأمل الذي يتحقق فيه ذلك هو مبدأ الخلافة»¨

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *