العدد 33 -

العدد 33 – السنة الثالثة – جمادى الآخر 1410 هـ الموافق كانون الثاني 1990م

مأزق الموارنة

 في الحرب العالمية الأولى تمت اتفاقية (سايكس ـ بيكو) بين إنجلترا وفرنسا على اقتسام منطقة من تركة الدولة العثمانية المهزومة. وكانت سوريا ولبنان من نصيب فرنسا. وقد اختارت فرنسا هذه القطعة وأصرَّت عليها لأنه يوجد بينها وبين موارنة لبنان مودّة زائدة.

وما أن استقر الأمر لفرنسا في سوريا ولبنان حتى أخذت تنفذ الإجراءات التي تكفل السيادة لهؤلاء الموارنة في هذه المنطقة بشكل دائم. فسلخت أربعة أقضية من مقاطعة سوريا وضمَّنتها إلى مقاطعة جبل لبنان سنة 1920، وأوجدت ما أسمته: لبنان الكبير. ثم وضعت دستور سنة 1926 لتركيز السلطة بيد الموارنة بشكل خاص والنصارى بشكل عام. ثم أجرت مسرحية الإحصاء سنة 1932 لتعلن أن النصارى هم الأكثرية والطائفة المارونية هي أكبر الطوائف، لإعطائهم حق التشريع.

وقد رضي المسلمون أن يكونوا مواطنين من الدرجة الثانية، وأقروا للموارنة بحق السيادة على لبنان بسبب التنشئة التي حرصت فرنسا ودول الغرب على غرسها في نفوس كل من المسلمين والنصارى. واستمر هذا الحال إلى ما بعد هزيمة العرب أمام اليهود سنة 1967.

بعد هزيمة سنة 1967 وُجد ما سمّوه بالعمل الفدائي. وحمل الفلسطينيون في مخيمات لبنان السلاح، وانتقل عدد كبير من فلسطيني الأردن وغزة إلى لبنان، وحصلت اتفاقية القاهرة سنة 1969 بين لبنان ومنظمة التحرير. وبعد أحداث 1970 و1971 بين الملك الحسين والفلسطينيين في الأردن انتقل عدد آخر من الفلسطينيين إلى لبنان. ونتيجة لذلك تحوّل مسلمو لبنان إلى حَمَلَةٍ للسلاح. وصار هناك تعاطف واندماج بين حملة السلاح المسلمين من فلسطينيين ولبنانيين. وكانت هناك أجواء شعبية عارمة مؤيدة للعمل الفدائي. وهذا مما ساعد على إسقاط هيبة السلطة اللبنانية وشجع المنظمات المسلحة على تجاوز اتفاقية القاهرة.

وحاول سليمان فرنجية، أثناء رئاسته سنة 1973، إعادة هيبة السلطة فضرب مخيمات بيروت بالطيران. ولكن الأمر أدّى إلى نتيجة عكسية. وأخذ الجيش اللبناني يتفتت لأن الجندي المسلم جرفته الأجواء المسيطرة على المسلمين في لبنان وخارج لبنان.

في هذه الأثناء صار الموارنة يرون أن لبنان يُفْلِتُ من أيديهم شيئاً فشيئاً، حتى صار صلاح خلف يصرّح من عينطورة بأن طريق فلسطين تمر من جونية. واتفقت الحركة الوطنية في لبنان بقيادة كمال جنبلاط مع المنظمات الفلسطينية على نقل النظام في لبنان من أيدي الانعزاليين (أي الكتائب والأحرار ـ الممثلين للموارنة) إلى الوطنيين.

فاستنجد الموارنة بسوريا سنة 1976 التي دخلت (بعد موافقة أميركا) وأنقذت النظام الماروني من السقوط. ثم صار الموارنة يخشون من أن يتحول المنقذ السوري إلى حاكم لبنان بدلاً منهم، فقاموا ضد سوريا بعد أن أنقذتهم.

ووجد الموارنة أنفسهم أضعف من أن يستطيعوا السيطرة على لبنان، فحاولوا الاستقواء بإسرائيل، فتحالفوا معها سراً، ووقفوا معها علناً عند اجتياحها للبنان سنة 1982. ولكن إسرائيل، وهي تعمل لمصلحتها وليس لمصلحة الموارنة، خذلتهم في معركة بحمدون سنة 1983. ولم تستطع إسرائيل أن تبقى في لبنان إلا في الشريط الحدودي. ولم يجد الموارنة من يستقون به للسيطرة على لبنان كله فلم يَبْقَ أمامهم إلا أن يعودوا إلى لبنان الصغير.

فكره العودة إلى لبنان الصغير، الذي يشبه لبنان المتصرفية، عادت تراود زعماء الموارنة، وصارت موضع أخذٍ ورد عندهم: يدرسون حسناتها وسيئاتها وأساليب تنفيذها والمطبّات التي تقف أمام هذا التنفيذ. وأخذوا يستشيرون فرنسا والفاتيكان وغيرهم. وكانت نتيجة دراستهم أن تقسيم لبنان مرفوض من غالبية سكانه وهم المسلمون كلهم والنصارى القاطنون في الأطراف. والأطراف هي المناطق اللبنانية في الجنوب والبقاع والشمال. لأنه إذا حصل التقسيم فستكون هذه المناطق خارج لبنان الماروني، وسيصبح سكانها من الموارنة كأنهم غرباء. ولذلك فالموارنة الأطراف هم ضد التقسيم. ووجدوا كذلك أن فكرة التقسيم مرفوضة دولياً.

ولكنهم أفلحوا في إقناع الفاتيكان وفي إقناع فرنسا بأن التقسيم هو المخرج الوحيد لبقاء الكيان الماروني. فصارت فرنسا والفاتيكان تؤيدان فكرة التقسيم بشكل خفي. والإنجليز لا مانع عندهم من حصول التقسيم. وإسرائيل تؤيد حصول التقسيم.

ألقت أميركا بثقلها مع اتفاقية الطائف، هذه الاتفاقية التي أعطت الموارنة أكثر بكثير مما كان لديهم بموجب الدستور وميثاق 43. وذلك من أجل إقناع الموارنة بترك فكرة التقسيم. واقتنع نواب الموارنة بالاتفاقية والضمانات التي ألحقت الاتفاقية. ولكن عامة الموارنة (ما عدا الأطراف) ما زالوا يرفضون الاتفاقية ويصرّون على التقسيم. لماذا؟

لأن الموارنة لم يعودوا يثقون بأنفسهم ولا بقدرتهم. وهذا هو مكمن الداء.

جورج سعادة يقول: أقرأوا الاتفاقية ثم احكموا عليها. بطرس حرب يقول بأن الاتفاقية أعطت الموارنة ما لم يحلموا به. أدمون رزق يقول للموارنة: أعيدوا قراءة الاتفاقية لتكتشفوا مزاياها.

نعم إن الاتفاقية أعطتهم الكثير، ولكن من يضمن لهم أن النصوص ستطبق. يقول عون بأن القوي يستطيع أن يؤوّل النصوص ويفسرها على هواه مهما كانت هذه النصوص واضحة. فهو يقرّ بأن العلة ليست طرف ضعيف وطرف قوي. الطرف الضعيف هم الموارنة، فيجب أضعاف الطرف الآخر عن طريق إخراج السوريين والفلسطينيين، وعن طريق جعل الجيش اللبناني يحمل العقلية المارونية والنفسية المارونية ويكون أداة طيّعة بيد الموارنة، لأن لبنان الحقيقي هو لبنان الماروني، واللبناني الحقيقي هو الماروني. وحين يصبح الجيش لبنانياً بهذا المعنى (أي مارونياً) وتلغى جميع (الميليشيات)، ويتم سحب السلاح من الفلسطينيين وإخراج الذين دخلوا منهم بعد سنة 1948، ويتم خروج الذين دخلوا منهم بعد سنة 1948، ويتم خروج القوات السورية، عند ذلك يمكن قبول اتفاقية الطائف، لأن الطرف الماروني يصبح هو الأقوى على الأرض، ويمكن أن يطبق النصوص حسب تفسيره هو.

لم يقبلوا الضمانات المعطاة من سوريا، ولا الضمانات التي أعطتها اللجنة الثلاثية الممثلة لجميع العرب، ولا الضمانات التي أعطتها أميركا ومجلس الأمن والأمم المتحدة. وهم (الموارنة) يقولون جربنا اتفاقية القاهرة سنة 69 فلم يلتزم الفدائيون بنصوصها لأنهم كانوا أقوياء على الأرض. والآن هم يقولون: لن تلتزم سوريا باتفاقية الطائف لأنها قوية على الأرض.

إذاً مربط الفرس هو: من هو القوي على الأرض. أما الاتفاقات والنصوص فتبقى حبراً على ورق، والضمانات يتراجع عنها من أعطاها ويلحس كلامه عند أقل هزة. هذا هو منطق الموارنة.

إذاً لا مجال لأن يقبل الموارنة اتفاقية الطائف أو غيرها ولو سجلت لهم لبنان كله ولو سجلت لهم جميع السلطات والصلاحيات. هم يريدون الإمساك بالقوة فهل يستطيعون إخراج الجيش السوري وإخراج الفلسطينيين وإخراج الموالين لإيران؟ وهل يستطيعون حل الميليشيات وجمع السلاح من قوات جنبلاط وحركة أمل وحزب الله والقومي والشيوعي والبعثي والناصري والتوحيد والقوى الإسلامية الأخرى؟ وهل يستطيعون أن يصيغوا الجيش اللبناني في المناطق الإسلامية صياغة مارونية؟

لقد اقتنعوا بعد الدرس والتمحيص أنهم لا يستطيعون فعل ذلك. ولا تستطيع فرنسا الآن أن تفعل لهم ما فعلته بعد الحرب العالمية الأولى، ولا يستطيع أحد أن يفعل لهم ذلك ما دامت أميركا لا تريد ذلك. ووجدوا أن بقاء الوطن مشتركاً سيجعلهم يخسرون ليس فقط سيطرتهم على المناطق الإسلامية، بل على المناطق التي يعتبرونها مارونية. فوضعوا استراتيجية خلاصتها: حتمية التقسيم ليحتفظوا بكيانهم الماروني ضمن ما يعتبرونه مناطقهم ما داموا لم يستطيعوا المحافظة على سيطرتهم على جميع لبنان. مع الإعلان أنهم لا يريدون التقسيم، بل يسعون لتحرير المناطق المحتلة.

هذا ما كان ينادي به جعجع من تشكيل حكومة (المنطقة الحرة). ثم جاء ميشال عون وشكل حكومة المنطقة (الحرة). وصار لبنان مقسماً، أو (مقبرصاً)، حسب التعبير الدارج. والفرق بين التقسيم والقَبْرَصة هو أن التقسيم يتم بالاتفاق ويحصل الاعتراف الدولي بهذا التقسيم. أما القبرصة فهي نسبة إلى ما حصل في قبرص سنة 1974 حيث دخلت القوات التركية إلى الجزيرة وفصلت قسمها الشمالي ذا الغالبية التركية وشكلت فيه حكومة قبرصية موالية لتركيا، بينما بقيت الحكومة الأخرى الموالية لليونان تسيطر على القسم الجنوبي من الجزيرة. ولم يحصل اعتراف بالحكومة القبرصية التركية حتى الآن إلا من حكومة تركيا. ورغم أن العالم لم يعترف بها فهي مستمرة. وهذه حكومة عون فقدت اعتراف العالم بها بعد أن شكل الحص حكومته في عهد الهراوي، ولكنها ما زالت مستمرة، وربما تستمر دون اعتراف معلن بها. ويراهن الموارنة على هذا الاستمرار لتصبح هذه القبرصة أمراً واقعاً مدعوماً بإرادة شعبية، والإرادة الشعبية الكثيفة تكسبه شرعية تبرر لبعض الدول أن تعلن اعترافها بهذه القبرصة أو بالكيان اللبناني الصغير.

إن هذا الذي يسعى إليه الموارنة سيركز كياناً غربياً مثل الكيان اليهود في فلسطين. وهذه جريمة كبرى. واليهود سيتم القضاء عليهم قريباً بإذن الله رغم أنف هؤلاء الحكام والقادة العملاء. والكيان الماروني سيتم القضاء عليه قريباً بإذن الله.

إن الجرائم التي ارتكبها عون باسم الموارنة والتي ارتكبتها القوات باسم الموارنة هي التي ستحرقهم بنارها. وكلما تكبروا وتجبروا كلما عجلوا بنهايتهمo

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *