العدد 32 -

العدد 32 – السنة الثالثة – جمادى الأولى 1410 هـ الموافق كانون الأول 1989م

المعركة المتجددة حول الدين والدولة

الخلاف حول الخلاف 1

تحت هذا العنوان نشرت مجلة «العالم» مقالاً موزعاً بين الأعداد 299، 300، 301 وقد رأي الوعي ضرورة نشر هذا المقال لإتاحة الفرصة لقرائها لمطالعة هذا البحث الذي يحمل وجهة نظر كاتبه والذي وقع اسمه بالأحرف الأولى (ع.ح) يقول الباحث في هذا المقال:

في العشرينات من هذا القرن ألغى كمال أتاتورك نظام الخلافة وفصل سياسة الدولة عن الدين، ثم سعى في تهميش دور الدين وتغيير هوية الدولة والمجتمع. وقد صدرت حينذاك كتب عدة ناقشت موضوع الدين والدولة ومنها كتاب «الإسلام وأصول الحكم» لعلي عبد الرزاق الذي أقام ضجة بالدعاوي التي أثارها. وبعد قرابة نصف قرن من ذلك أعيد نشر الكتاب محققاً وأثير النقاش مرة أخرى حول هذه القضية الهامة.

صدر كتاب «الإسلام وأصول الحكم» عام 1952 وهو يقع في ثلاثة فصول سماها المؤلف كتباً وأعطاها ترتيباً متسلسلاً، ووردت فيه إشارات إلى أنه قد كتبها في فترات زمنية مختلفة، ففيه فقرات ذكر أنه كتبها أيام السلطان محمد الخامس (1915 ـ 1916) بينما جرت الإشارة في فقرات أخرى إلى كتاب «الخلافة للمستشرق الإنجليزي ـ أرنولد» الصادر عام 1924 وكتاب «الخلافة أو الإمامة العظمى» للشيخ محمد رشيد رضا الذي نشر عام 1923. والكتاب بمجمله لا يزيد على سبعين صفحة من الحكم الكبير في الطبعة الحديثة (نشره محمد عماره محققاً عام 1972). ونرى أن حجم الكتاب لا يتناسب مع مقدار الزمن المصروف في الكتاب كما أن مناقشاته لا تحمل الصفة العلمية الدقيقة بل هي خلاصات سريعة ولكنها متتابعة في عُجالة المتلهف لوصول دف محدد. وقد استفاد المؤلف كثيراً من كتاب أرنولد ونقل ليس مجرد أفكاره، بل الروح الصليبية التي صدر عنها أيضاً. وكان هدف «أرنولد» الطعن في شرعية الخلافة الإسلامية، والتدليل على أنها تفتقر إلى سند من القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف. ومضى عبد الرزاق قد هذا الاتجاه لا ليعلن عدم شرعية الخلافة فحسب، بل تجاوزها إلى القول إن نظام الحكومة ذاته ليس متطلبات الدين وأن النبي الأكرم r لم يكن مؤسس دولة دينية بل كان مبلغ رسالة أخلاقية، وأنه عن طريق الصدفة إن شئت، كوّن «مملكة دنيوية». إن النظرة المسيحية واضحة في فصل عبد الرزاق بين الدعوة الدينية والمملكة الدنيوية، حيث يدعي أرنولد أن سيدنا عيسى لم تتح له الفرصة لتكوين دولة يهودية فبقي الأمر في يد القيصر، ولما كان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم قد افلح في بناء الدولة الإسلامية الأولى في مجتمع المدينة وما بعد الفتح، فإن أرنولد، وغيره من المسيحيين المتعصبين قد نفوا عنه ذلك. وإذا كان الأمر كذلك فما هو شأن شيخ أزهري مثل عبد الرازق بما ذهب إليه أرنولد؟ الإجابة على ذلك لا تكشف نفسها على الصعيد النظري الخالص بل ينبغي البحث عما وراء ذلك.

عبد الرازق والسير أرنولد في اكسفورد

إن عبد الرازق كان مديناً في محاججاته إلى السير أرنولد والذي نعتقد أنه ربما اتصل به خلال السنتين اللتين قضاهما في اوكسفورد (1912 ـ 1914) طالباً للغة الإنكليزية ثم دارساً للاقتصاد والعلوم والسياسية (لم يكمل دراسية بسبب قيام الحرب العالمية الأولى). وقد ذهب أحد الأساتذة إلى أن أرنولد نفسه ربما يكون المؤلف الحقيقي للكتاب (الدكتور محمد ضياء الدين الريس: الإسلام والخلافة في العصر الحديث ص 166). وقال عنه الدكتور محمد محمد حسين أنه «يعتمد على المستشرقين قيما لا يوثق بهم فيه، بينما يفرط تفريطاً ظاهراً في الرجوع إلى المصادر العربية الأصلية على كثرتها وأهميتها وتوافرها» (الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر ج2، ص 74). إلا أن حصر النقاش بالصلة بين أرنولد وعبد الرازق يخفي واقعاً أعمق، ذلك هو: ما جدوى الاهتمام بطرح موضوع الخلافة، خصوصاً وأنها كانت قد ألغيت قبل صدور كتاب عبد الرازق؟؟

هناك إجابتان عن هذا السؤال، الإجابة الأولى صدرت عن مؤيدي الكتاب من المتأخرين الذين أوّلوا التاريخ فقالوا إنما قصد من وراء كتابته قطع الطريق على تفكير الملك فؤاد (ملك مصر وقتها) بترشيح نفسه خليفة للمسلمين بعد أن أصبح منصب الخلافة شاغراً.

والجواب الثاني ما قال به فريق من الكتاب المسلمين (محمد نجيب، محمد محمد حسين، ضياء الدين الريس، محمد حسين الخضر، رشيد رضا) وفحوى جوابهم أن كتاب عبد الرازق ليس حادثة مفردة تتعلق بشخص، وإن كانوا قد كتبوا ودوداً عليه، وإنما هو حلقة من مخطط واسع تقف وراءه إنجلترا ويهدف إلى قطع السبيل على أي تفكير بعودة الوحدة السياسية للعالم الإسلامي، والذي كان قسم كبير منه نهباً ممزقاً بيدها.

أما الجواب الأول فهو مردود من ناحيتين، الأولى أن الملك حتى لو أنه رشح نفسه لمنصب الخلافة فليس هو المرشح الوحيد لها، ولا يوجد افتراض مسبق بأن الأمر سيصير إليه، فلا داعي لقلق عبد الرازق والثانية أن المؤلف عبد الرازق كان منتمياً إلى حزب الأمة الذي كان موالياً للإنجليز ومشاركاً في الحكومة.

وأما الجواب الثاني فله سند من التاريخ، ولكنه سند لم يعرض بشكله الكامل وبقي محتوياً على ثغرات مهمة نحاول إيجازها في الفقرات التالية.

إنجلترا وهدم الخلافة

قال الكتاب المسلمون (خصوصاً في تعقيبات الشيخ رشيد رضا المنشورة في المنار مجلد 26: 1925/ 1926) إن كتاب عبد الرازق مؤامرة إنجليزية هدفها إضعاف الإسلام من الداخل. هو موجه ضد مصلحة الأمة الإسلامية. واستندوا في ذلك إلى وقائع الحرب العالمية الأولى ونتائجها، بل إلى ما قبل ذلك فيما عرف بالمسألة الشرقية. وكان الاحتلال الإنجليزي ـ لمصر ـ منذ ثمانينات القرن الماضي وانتقامهم من عرابي وتشجيعهم للمخالفين للسلطان العثماني وإعطاؤهم فرصة التحرك من أراضي مصر، شواهد بينة على سوء طوية الإنجليز وإضمارهم الشر للخلافة الإسلامية.

التاريخ السري للاحتلال البريطاني لمصر

وينبغي لنا أن نمسك هنا بالخيط الذي يقدمه السير «ويلفريد بلنت» في كتابه (التاريخ السري للاحتلال البريطاني لمصر) حول صلة إنجلترا بالخلافة في مرحلة تغير مواقفها منها. وهذا الرجل الغريب، والذي يندر أن تجد كتابة عربية مستوفية حول حياته وأعماله هو الوحيد الذي باستطاعته أن يعطينا الحلقة المفقودة. لقد أُعطيت لهذا الرجل مهمة غريبة ففي حوالي عام 1969 استقال من خدماته في السلك الدبلوماسي واعتزل في حياة هادئة، ولكنه ومنذ عام 1873 بدأ بجولات مريبة، ليس هنا مجال تفصيلها، في كل من اسطنبول والجزائر والقاهرة وبلاد الشام وحائل ونجد. وقد رافقته زوجته في هذه الرحلات وجمعت رحلتيهما الشامية والنجدية في كتابين هما «عشائر غربي الفرات» و«رحلة إلى نجد». ولكن الأهم من ذلك توثيقه للصلات مع جماعات (الإصلاح) في المنطقة العربية لا سيما الشيخ محمد عبده في مصر، وعبد القادر الجزائري أثناء وجوده في بلاد الشام وتقربه من الحلقات العلمية والسياسية في حلب ودمشق.  ولم تعد متعة السفر وحب الصحراء والبداوة كافية لتبرير اهتمامه بالمنطقة، بل تجاوزها إلى جمع معلومات مهمة عن التوجهات الفكرية الموجودة وآفاق الاستفادة منها، وتبادل مع رجال (الإصلاح) ومشاريع مهمة، أصدر بعضها في كتابه «مستقبل الإسلام»، وهذا الكتاب هو دراسة ميدانية لتوجهات الرأي في المنطقة العربية، ممزوجة ببوتقة إنجليزية ومقطراً من خلال قلم «بلنت».

وهو أول كتاب يناقش بصراحة مستقبل الخلافة الإسلامية ويقترح فيه تحويلها من قوة سياسية إلى سلطة روحية تشبه الفاتيكان ويخص بها العرب. وكان لكتابه أثراً لم يكشف عنه في الكتابات العربية وإن توفرت عنه مصادر أجنبية، ذلك هو أنه الأب الروحي لفكرة الكواكبي عن الخلافة العربية إلى دعا إليها في كتابه «أم القرى». وقد بقيت هذه النقطة مبهمة في الفكر العربي الحديث لا يجرؤ أحد على مسها لأنها توضح الكثير مما تلاها، وسنعرض لها بالتفصيل في مقال مستقل إن شاء الله. ولم تبق الفكرة أسيرة الكتابة المحددة، بل إن بلنت اعتبرها مشروع عمله، ورأت فيها السياسة الإنجليزية أموراً أبعد من طرحه المشوش. والثابت أن «بلنت» قد طرحها على الشيخ محمد عبده، ولكن الأخير لم ير إمكانية تحققها (محمد رشيد رضا: تاريخ الأستاذ الإمام، ج1، ص 914) فحملها إلى الشام وطرحها على الأمير عبد القادر الجزائري، واقترح عليه أن يكون مرشحاً لها، وقد اعتذر الأمير عبد القادر عن القيام بالثورة المطلوبة لتحقيق انفصال الأقطار العربية عن الخلافة لإقامة خلافة جديدة بسبب سنّه، واقترح أن يتولى التفاصيل ولده محمد، ولكنه قبل الترشيح لها حال تحققها (بلنت: التاريخ السري للاحتلال البريطاني لمصر، ص 118) واجتمع رأي الرجلين على أن أمراً مثل هذا لا يكتب له النجاح إلا بمساعدة أجنبية، وقام «بلنت» بالكتابة إلى «غلادستون» في مقر الحكومة بلندن ولكن الأخير لم ير حاجة ماسة للقيام بذلك في وقت اشتعال الحرب التركية ـ اليونانية، ورأى أن مستقبل علاقتهم بالخلافة يرتبط بنتائج الحرب.

إنجلترا تواصل العمل لهدم الخلافة

ولم تترك إنجلترا الموضوع إلى غير رجعة، فإنها بعد احتلالها لمصر عام 1982 أخذت تطور معرفتها بالعالم العربي، مستفيدة من خبرتها في الهند. وقد اجتمعت الخبران في اللورد كرومر الذي أعطى لمرحلة قلقة من تاريخ مصر طابعها واتجاهها الخاصين. وإلى كرومر يعود تأسيس حركة التغريب في مصر، وكذلك تنشيط جماعة «المقتطف» وتمويلها وتحريك الجماعات الليبرالية والتي ستجد صوتها الواضح مع أحمد لطفي السيد وصحيفته «الجريدة» وجماعته «حزب الأمة» ومحمد حسين هيكل وصحيفته «السياسة الأسبوعية» وقد سعت هذه الجماعات جميعاً إلى إدخال الفكر الغربي، خصوصاً في إطار التفكير السياسي.

وكانت السلطة المحتلة (إنجلترا) قد خاضت معركة ضاربة ضد الاتجاه الذي تزعمه الحزب الوطني بقيادة مصطفى كامل قبل الحرب العالمية الأولى، والذي يدعو إلى دعم الخلافة وربط مصر بها.

ويظهر أن إنجلترا قررت وقت الانقلاب العثماني الأول عام 1908 والثاني 1909 وتلاعب شباب الاتحاد والترقي بالخلافة وطردهم عبد الحميد وتنصيبهم محمد الخامس، إن الخلافة سوف لن تستمر طويلاً. ورجعت خطة «بلنت» إلى الذاكرة السياسية الإنجليزية ولكن في صورة جديدة. إن إنجلترا لا تريد للخلافة أن تستمر في يد العثمانيين الأتراك على الطريقة التي عهدها المسلمون، أي سلطة سياسية روحية، ولم تعد قابلة حتى بمجرد طرحها على أنها مهمة أخلاقية دينية (بابوية)، وإنما أعادت التفكير بالمسألة في ضوء جديد. وقد تبين لبريطانيا أن نزع البلاد العربية من يد الأتراك في حال قيام حرب شاملة أمر لا يحتاج افتراض خلافة تعيد إلى الذاكرة وحدة العالم الإسلامي، وتثير لها المشاكل في الهند ومصر وغيرها، وإنما يتم لها ذلك عن طريق إثارة النزعة القومية. وسنجد هنا خطاباً مماثلاً لخطاب «بلنت» يتولاه عدد من البريطانيين الذين سيؤلفون فيما بعد «المكتب العربي» بالقاهرة وينسقون مهمات التجسس والتآمر على الوطن العربي والإسلامي، وأبرز هؤلاء لورنس، مس بيل، سانت جون فيلبي. وأن حديث هؤلاء الثلاثة عن العرب لا يختلف في شيء عن حديث «بلنت» وفكرتهم عن إقامة دولة عربية موحدة هي صورة لتفكير «بلنت» مع نزع الخلافة عنها بكل اهتمام واعتبار.

إن الدين في النظرة الجديدة أمر فردي لا يقوم أمام الأمر العام الذي هو الإحساس بعروبة ابن المنطقة واعتداده بأصله. وكان «بلنت» قد سجل في مذكراته: إن البدو ليسوا مهتمين بالدين على أية حال وقلّ من بينهم من يعرف الأحكام البسيطة والفرائض، كالوضوء والصلاة. إن الخلافة إذن أمر يعود للتاريخ في هذه الصورة الجديدة التي رسمتها الأجهزة الإنجليزية، وطالما كانت قد انتزعت من العرب وتغافل هؤلاء عنها فلا حاجة لبعث التاريخ القديم. ثم إن إنجلترا سعت في هذا الطريق فوصلت إلى أشواط هامة فالعرب هم الذين طردوا الترك نيابة عنها من كامل الجزيرة العربية وبلاد الشام، وقد حان الوقت لأن تُقبر الخلافة بعد أن خرجت مدحورة في الحرب العالمية الأولى. وكانت إنجلترا تطور معرفتها بهذه القضية الهامة، وأولاها مؤرخوها قدراً كبيراً من الاهتمام الذي تجلى في كتاب أرنولد. إن الخلافة حادثة تاريخية في تصور أرنولد لا يقوم عليها دليل من الكتاب والسنة، ويضيف تلميذه العربي عبد الرازق.

إنهاء الخلافة

وما أن أعلن أتاتورك إنهاء الخلافة في 3 آذار (مارس) 1924 حتى شغر منصب الخلافة وقد قامت أطراف إسلامية تطالب بها، وكان أولهم الشريف حسين، فقام الإنجليز بدعم خصمه ابن سعود لقمعه إلى الأبد، ومن مفارقات الأحداث أن ابن سعود ذاته طرح فكرة إقامة مؤتمر إسلامي بعد استيلائه على الحجاز، وقد جرى فعلاً عقد المؤتمر في مكة عام 1926 ولكن ابن سعود أعلن قبل افتتاحه لأنه لا علاقة له بالخلافة (حسن. ع: المجتمع الإسلامي في أزمة، أطروحة دكتوراة غير منشورة) وبعد فشل مؤتمر القاهرة أيضاً في الاتفاق على خليفة جاءت ضربة أرنولد لتلغي كل تفكير مستقبلي فيها حتى حين.

إن زوال الخلافة على يد مصطفى أتاتورك لم يكن حدثاً منفصلاً عن سلسلة من التطورات التاريخية، ويرجع أغلب المؤرخين والدارسين بداية تقويض أسس الخلافة إلى مرحلة التنظيمات منذ عهد سليم الثالث وحتى حكم عبد الحميد الثاني، إذ أنها خطت في طريق تحديث منقول لم يراع كثيراً طبيعة الدولة ولم ينظر إلى الآفاق البعيدة وقد ساعدت الجماعات الماسونية على توجيه هذه التطورات بما يخدم علمنة الدولة على المدى الطويل، وهو الهدف الذي تحقق في قرار إلغاء الخلافة، وتعتبر السنوات الواقعة ما بين الانقلاب العثماني الأول عام 1908 وتاريخ قرار الإلقاء من أشدّ الفترات التي اهتز فيها عرش الخلافة وفقد معناه. ويمن القول بلا تجاوز، إن الفترة ما بين الانقلابين العثمانيين الأول والثاني الذي تلاه بعد أقل من سنة هي المسافة الزمنية التي حسم فيها موضوع الخلافة. وليس أصدق دليلاً على ذلك من أن الخلفاء محمد الخامس (1909 ـ 1918) ومحمد السادس (1918 ـ 1922) وعبد المجيد (1922 ـ 1934) لم يلعبوا أي دور يذكر في الأحداث التي مرت بها الدولة العثمانية. ويكفيك أن وحيد الدين الملقب محمد السادس قد فضّل الخروج منفياً على ظهر باخرة إنجليزية ملتجئاً إلى قبرص ومن ثم إلى الشريف حسين في مكة المكرمة. وأن عبد المجيد وُليّ أمر الخلافة كمنصب اعتباري (تقليدي أو روحي) وأن أمر السلطنة (الحكم) قد وضع فعلياً في يد أتاتورك.

والحقيقة التي تطرح نفسها أمام الدارس للتاريخ هي أن هناك خطأ معيناً لتطور الأحداث كان يشير بشكل قاطع إلى أن الخلافة في طريقها إلى الزوال. وليس هذا الخط الحتمي الذي صارت إليه الأمور هو من قبيل الأقدار التي تجهل أسبابها، بل إن لها مقدمات مشخصة في ذات التحركات التاريخية التي انطوت عليها تلك الفترة. وإذا تم تجميع خيوط تلك الأسباب ونظمها في سلك واحد (وهو ما يحتاج إلى بحث تفصيلي ومستقل ليس هنا موضعه) لاتضح أن قرار إلغاء الخلافة وسلسلة الأحداث التي سبقته، وتلك التي تلته، لم تحصل من قبيل الصدفة والاتفاق، بل إن وراءها مؤامرة ضلعت فيها أطراف كثيرة. خذ مثلاً أن العشرينات كانت من أوسع فترات تمدد الاستعمار وانتشاره خصوصاً في الأراضي الإسلامية، وأن أساليب كثيرة قد ابتدعت (ومنها الغزو الثقافي) لربط البلاد المستعمرة بالمركز الاستعماري، وهي في كثير منها محاولات متعسفة، فكيف تفكر دولة مثل تركيا الأتاتوركية بالتخلي، ليس فقط عن السيادة الواقعية على الأطراف التابعة لها، بل تبر أية صلة روحية وثقافية تربطهما معاً وهو المعنى المتضمن في إلغاء الخلافة؟ وليس هذا فحسب بل السعي لإماتة هذا الحس في صميم الشعب التركي ذاته وقلب الأمة الإسلامية الواسعة وهو ما سنعرض له في هذا المقال.

هول المفاجأة

لا شك أن المسلمين قد رُزئوا خلال الحرب العالمية الأولى بفاجعة اندحار عاصمة الخلافة واحتلال الحلفاء لاستانبول. وقد سجل بعض الذين عاشوا تجربة سقوط تركيا بيد القوات الغازية المسيحية صوراً تدمي القلب ولكنها في الوقت نفسه تبين واقع الإحساس الشعبي الإسلامي بما كان يجري آنذاك. وقد غُيب ذلك عن الأجيال التالية من الشباب العربي وبأسلوب ماهر أُذيب لديهم فيه الإحساس بالمكانة الخاصة للعالم الإسلامي ووحدته وجرى التركيز على الوحدات المستقلة المنفصلة والمجزأة التي ورثت وحدته الشاملة. ويكاد يكون أغلب العرب الذين عاشوا تلك الفترة واحتلوا فيها بعد مناصب في السياسة والحياة العامة وقد قلبوا انطباعاتهم عنها وتجاهلوها إن لم يكونوا قد استهجنوها وهناك لفتات عابرة تجدها في مذكرات بعضهم هي كل ما تركوا للجيل الجيد. من ذلك مذكرات بعضهم هي كل ما تركوه للجيل الجديد. من ذلك مذكرات طالب مشتاق التي نشرها أواخر الستينات بعنوان «أوراق أيامي» وفيها صورة محزنة لعاصمة الخلافة وقد اقتطعت إلى مناطق نفوذ عُلّق على كل ناحية منها علم دول الحلفاء، واستهتر بها أفراد جيشهم المحتل. وكان صاحب المذكرات شاباً لم يتجاوز الثامنة عشرة من عمره، توجه من العراق إلى تركيا لغرض الدراسة. وبقي لهذه تأثير في حياته حتى عندما استغرقته أحداث السياسة وأدخلته في تشعبات كثيرة بعيدة عن مجد الخلافة التليد، وكان شعور الحزن مستولياً على جميع المناطق الإسلامية وأن نصرة الخلافة جاءت من مناطق لا يصدق أحد أنها ستبدي ولاء ثابتاً للأتراك، مثال ذلك العراق بأكمله وهو الذي كان يقال عنه أنه منفي الولاة وجنوبه بالخصوص المعروف بالنزاعات العشائرية المستحكمة ضد الإدارة العثمانية.

وفي هذه الظروف ثارت الحمية في الجيش التركي فتقدمت قطاعاته بقيادة مصطفى كمال الذي لقب بالغازي وأخذ يستنقذ أطراف تركيا [وكل ذلك بترتيب الإنجليز لكي يصبح في نظر الأتراك بطلاً وليس عميلاً لهم] فعمت الفرحة قلوب المسلمين وأمّلوا من ذلك خيراً وتوقعوا لمجد الخلافة أن يتجدد. ووقف شوقي منشداً للفتح:

قل للخلافة قول باكٍ شمسها

                     بالأمس لما آذنت بدلُوك

يا جذوةَ التوحيد هل لكِ مطفيءٌ

                    والله ـ جل جلاله ـ مُذكيك

ولكن هذا التفاؤل لم يعمّر طويلاً فسرعان ما رجع أتاتورك إلى حقيقته التي داهن فيها طويلاً وهي أنه قومي علماني لم يحمل يوماً همّ الخلافة ولم يفكر في أمر الإسلام ووحدته. وقد كشف أتاتورك عن نواياه في مجموعة خطب ألقاها في الشهر الأول من تعيينه رئيساً لجمهورية تركيا عام 1927، وكان صريحاً في أن نية إلغاء الخلافة والتصميم على تنفيذها تعود للعام الذي انتهت فيه الحرب العالمية الأولى (1918) وقال ما نصّه: «لو تم تمحيص توجهنا وأفعالنا خلال السنوات التسع في سياقها المنطقي لتبين من اليوم الأول أن سلوكنا العام لم ينحرف عن الخط الذي رسمناه في قرارنا الأساسي أو عن الهدف الذي انطلقنا لتحقيقه» وذكر أتاتورك أن وحيد الدين قد أدرك ذلك من البداية فوقف ضد هذه المساعي لأنه كان عالماً بأن هدفها النهائي إلغاء الخلافة. وفعلاً كان السلطان وحيد الدين قد أعلن العصيان على أتاتورك وأهدر دمه، ولكن الأمور تغيرت لصالح أتاتورك وفرّ السلطان فصدر قراراً يقضي بأن منصب الخلافة قد أصبح شاغراً وجرى بذلك تنصيب عبد المجيد خليفة ولكن نزعت منه جميع الصلاحيات التي يتميز بها الحاكم السياسي واصبح وجوده مجرد استمرار لمنصب أُلغي فعلاً إذ أصبحت الأمور في يد أتاتورك. وقد شق ذلك على المسلمين، إلا أن ما جاء بعده كان أشد هولاً إذ أن قرار آذار 1924 قد ألغى حتى هذا المنصب الفخري.

المعترك الفكري

إن المعركة التي سبقت قرار الإلغاء وتلك التي تلهّها بجلاء أن الأطراف ذات المصلحة في هذا القرار قد استعدّت لذلك منذ فترة طويلة. ويذكر الدكتور علي حسني الخربوطلي أن «من أبرز الكتب التي اهتمت بالخلافة الإسلامية في الفترة ما بين قيام حكومة الاتحاد والترقي سنة 1908 وقيام الحرب العالمية الأولى سنة 1914 كتاب كتبه بالألمانية «وايت» تحت عنوان «سياسة الأتراك والخلافة» وترجمه إلى العربية ورد على ما جاء فيه من آراء كاتب تركي مؤيد لحكومة الاتحاد والترقي هو محمد بك صفا ونشر في استنابول سنة 1331 هـ (الإسلام والخلافة)، ص 278) ويظهر من تلخيص الخربوطلي أن الكتاب كان مؤيداً لوحدة الخلافة الإسلامية ومحذراً من إمكانية إقامة الإنجليز لخلافة مستقلة في مصر، ومناصراً لسياسة الحزب الوطني في مصر ومشيداً بجهود مؤسس الحزب الذي أراد تخليص مصر من يد الإنجليز وربطها بمقر الخلافة. إلا أن مترجم الكتاب محمد صفا رأى «أن غرض «وايت»كان الإيقاع بين الخديوي وعرش الخلافة لتنال ألمانيا من وراء ذلك مأرباً، والظاهر أن المسألة لا تتعلق بذم ألمانيا المتحالفة مع دولة الخلافة، بل تكشف عن جزء من النوايا المضمرة، هذا إذا أخذنا السرعة التي ترجم بها الكتاب والتعقيب الذي نشر حتى لكأن فكرة التعقيب أهم من الأصل الألماني.

لقد كانت الخطة العامة كما ذكر أتاتورك السعي خطوة خطوة تحسباً لعاقبة ردة الفعل الإسلامية داخل تركيا وخارجها. وكان التحضير الفكري جزءاً مهمّاً من ذلك. وليس غريباً إذن أن يصدر عقب قرار إلغاء الخلافة مباشرة كتاب ترجم بسرعة إلى اللغة العربية بعنوان «الخلافة وسلطة الأمة» نقله إلى العربية عبد الغني سنى بك والكتاب مجهول المؤلف ولا تزيد صفحاته عن السبعين من القطع الصغير (محمد محمد حسين: الاتجاهات الوطنية في الأدب الحديث، ج2، ص57) وكان سني بك ـ كما عرّف في ظهر الكتاب: نزيل القاهرة السكرتير العام لولاية بيروت ومتصرف اللاذقية سابقاً ـ قد نشر مقالاً في الأهرام مهّد فيه لفكرة الكتاب، ثم ضمّنه في المقدمة والكتاب مساق على شكل أفكار سريعة موجزة تستهدف نزع أساس وتثبيت آخر محله فيما يخدم خطة الكماليين ومليء بنقد آل عثمان وسيرتهم في الخلافة. وخوفاً من ردّ الفعل فقد بقي الكتاب على احترام لأصل فكرة الخلافة، ولكنه أمعن في إشكالاته على صور تطبيها. وحاول إبطال الخلافة العثمانية على أساس أن شرط القُرَشِيّة غير متوفر فيها وأنه أهم الشروط في نظر الفقهاء. ولكنه استدرك على مطالبة الشريف حسين بها (والذي يقال إنه قرشي أصيل) بأن سطوة قريش قد زالت بمرور الأيام فلم يبق لهذا الشرط موجب. وفي قوله الأخير تناقض مع ما كان قد بدأ به مقاله وقد عقب الدكتور محمد محمد حسين على ذلك بأن «الكتاب لا يبحث بحثاً حراً ولكنه يهدف إلى خدمة أعراض معينة، ويستطيع المتفحص له أن يحس أن الكماليين كانوا يمهدون به لإلغاء الخلافة»وذهب المؤلف المجهول إلى أن الخلافة تتم بالانتخاب ولكن التجربة التاريخية أظهرت تعسفات كثيرة، ويرى أن هدف الخلافة تحقيق العدالة فإذا تمت عن طريق آخر انتفى أصل وجودها، كما أنه يجوز للخليفة أن يفرض حقوق الخلافة وواجباتها إلى واحد أو أكثر، مبرراً بذلك انتزاع الكماليين لها فيما بعد من يد السلطان عبد المجيد.

والواقع أن ترجمة الكتاب وصدوره في القاهرة في شهر كانون الأول من عام 1923 أمر ملفت للنظر، إذ أنه سبق إلغاء الخلافة بثلاثة أشهر وجاء عقب كتابة الشيح محمد رشيد رضا لكتابه «الخلافة أو الإمامة العظمة» الذي نشر في «المنار» في أيار 1923. وقد مثلت محاولة الشيخ رضا بلورة للموقف الإسلامي وصياغة للاتجاهات التي سعت إلى الحفاظ على الخلافة ووحدة العالم الإسلامي وتحرير المناطق التي وقعت تحت سطوة الاستعمار الأجنبي. وناقش رضا في كتابه جميع الأمور المتعلقة بالخلافة، والاعتقاد الأساسي في كتابه هو «مسألة الخلافة كانت مسكوتاً عنها فجعلها الانقلاب التركي الجديد أهم المسائل التي يُبحث فيها» ومن هنا جاء بحثه في إشكال الخلافة وطرق عقدها وانتصر لطريقة الانتخاب الشوروي بضرورة تطويرها على أساس يوافق الشرع من جهة والمعرفة بتطور (الزمن والحضارة!). ولا يتم ذلك والفقه على جموده وإنما ينبغي فتح باب الاجتهاد. وقال بضرورة تآزر جهود العرب والأتراك على تقوية عمودها وحماية بيضتها، وعرّف بأسبقية العرب وأحقيتهم ولكنه اعترف أيضاً بما للترك من جهد يُذكر فيُشكر، وألحّ على ضرورة تأسيس حزب للإصلاح وتهيئة كوادر ضرورية للقيام بواجبات الإدارة والخلافة. وحذر من مساعي الغرب الاستعماري والإنجليز تخصيصاً ومساعيهم لهدم الخلافة. وحاول إغراء الأتراك بالمنافع التي يدرّها عليهم احتفاظهم بالخلافة لو أنهم أخلصوا لها وأبرز أهميتها في حفظ وحدة العالم الإسلامي. وداعب في أتاتورك غروره إذ قال: «لو عرف هذا الرجل العالي الهمة مصطفى كمال من الإسلام ما أعلم لأمكنه أن يكون رجل العالم لا رجل الترك فقط». ولكن التاريخ أخذ مجرى آخر بعد أن أمعن أتاتورك في طريق العلمانية وأسقط الخلافة وألغى الهوية الروحية والسياسية التي وحدت العالم الإسلامي فتهشمت الأجراء وبقيت تبحث عن هوية ضائعة.

تحديد الهوية والاتجاه

حينما أنهارت الخلافة وسقطت الدولة العثمانية التي جمعت رباط أجزاء كثيرة في العالم الإسلامي، أضحت المنطقة ضحية التجزئة وأسيرة الإقليمية وقد طرحت هذه المشكلة على الصعيد السياسي ولكن آثارها على الصعيد الفكري لا تقل خطوة عن ذلك.

لقد كتب المستشرق «مارغليوث» معقباً على ذلك الحدث بعد مدة وجيزة من حدوثه متهكماً من حالة العالم الإسلامي ومشيراً إلى الاتجاه الذي رسمه الغرب لمستقبل المنطقة حين يقول: «إذا كان العالم الإسلامي قد بقي سنة كاملة من دون خليفة فلربما أمكنه أن يظل كذلك إلى أمدٍ غير محدود» (مجلة العالم الإسلامي، العدد 14، الصادرة عام 1924 ص 334). وقد شهد عام 1925 محاولات متعددة للإبقاء على وحدة العالم الإسلامي خصوصاً من قبل مسلمي الهند، وكان المسلمون الهنود سباقين إلى عقد المؤتمرات والاحتجاج على مقررات معاهدة «سيفرز» التي منحت الحلفاء حق التصرف بممتلكات الدولة العثمانية.

وانعقد مؤتمر للخلافة في القاهرة عام 1926 بعد طور تأخير ولكنه لم ينجح في وقف التداعي، ولم يستطع أن يقرر شيئاً سوى الاعتراف بالواقع المر وجاء في بيانه الختامي «إن الخلافة الشرعية بمعناها الحقيقي إنما قامت على ما كان للمسلمين في الصدر الأول من وحدة الكلمة واجتماع الممالك مما جعل الإسلام كتله واحدة يأتمر بأمر واحد ويخضع لنظام واحد.. أما وقد تناثر عقد هذا الاجتماع وأصبحت ممالكه وأممه متفرقة بعضها عن بعض في حكوماتها وإدارتها وسياستها وكثير من بنيها تملكته نزعة قومية تأبى على أحدهم أن يكون تابعاً للآخر فضلاً أن يرضخ لحكم غيره ويدخله في شؤونه العامة فمن الصعب تحققها الآن». لقد وضع المجتمعون أصابعهم على مواطن الداء ولكنهم لم يروا سبيلاً للعلاج. والمعنى الحقيقي لبيانهم هو أن تعابير مثل «الأمة الإسلامية» و«دار الإسلام» و«المسلمين» تواجه تحدياً فريداً للمرة الأولى في تاريخها. الأمة الإسلامية أضحت معزولة عن بعضها، ودار الإسلام مقطعة إلى أجزاء محتلة من قوى صليبية ونظم الحكم والإدارة والتعليم المستحدثة تهدد أصل الإسلام وتفرض إعادة تحديد كلمة «المسلمين» وللمرة الأولى يطرح المسلم على نفسه سؤال الهوية في عالم سريع التغير وبشكل لا يرحم.

يتبع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *