العدد 27 -

السنة الثالثة – العدد 27 – ذو الحجة 1409هـ، الموافق تموز 1989م

الإمامة والخلافة (2)

هذا البحث منقول بحرفيته عن كتاب: (الشيعة والتصحيح: الصراع بين الشيعة والتشيع) تأليف العلامة الدكتور موسى الموسوي. وهو مطبوع في لوس انجلوس سنة 1087م.

المؤلف هو حفيد الإمام الأكبر السيد أبو الحسن الموسوي الأصفهاني. ولد في النجف الأشرف عام 1930، ونال الشهادة العليا في الفقه الإسلامي (الاجتهاد) من المرجع الديني الأعلى زعيم الحوزة العلمية في النجف الأشرف الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء. ثم حصل على شهادة الدكتوراه في التشريع الإسلامي من جامعة طهران عام 1955 وحصل على شهادة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة باريس ـ السوربون عام 1959. وعمل في جامعات طهران وبغداد وألمانيا الشرقية وليبيا وهارفارد ولوس انجلوس. وله مؤلفات كثيرة أخرها الكتاب المذكور أعلاه.

وقد رأت مجلة «الوعي» أن أبحاث هذا العالم تتصف بالإنصاف والجرأة في قول كلمة الحق، فأرادت أن تطلع قراءها على هذا البحث القيِّم، ونسأل الله أن يجعل فيه خيراً للإسلام والمسلمين والناس عامة.

[القسم الثاني]

وبعد كل ما أثبتناه فإن وجود نص إلهي في موضوع الخلافة يصطدم بخمس عقبات رئيسية كل واحدة منها تكفي لهدم الفكرة من أساسها وهذه العقبات الخمسة هي:

أ- صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم وموقفهم من الخلافة.

ب- أقوال الإمام في الخلافة.

ج- بيعة الإمام مع الخلفاء وإعطاء الشرعية لخلافة الخلفاء الراشدين.

د- أقوال الإمام في الخلفاء الراشدين.

هـ- أقوال أئمة الشيعة في الخلفاء الراشدين.

أ- صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم وموقفهم من الخلافة:

لقد أعطينا صورة واضحة المعالم عن عصر الرسالة في الصفحات السابقة وبيّنا مدى الحرية الفكرية والاجتماعية التي كانت تحكم آنذاك المجتمع الإسلامي الفتيّ واستشهدنا بالآيات الكريمات التي وردت في تقييد تلك الحريات الكلامية والاجتماعية التي كان فيها إيذاء للنبي وتجريح للمسلمين ويجب علينا أيضاً أن نذكر بوضوح وصراحة أن الصورة التي رسمناها لذلك المجتمع الإسلامي التفي إنما كانت صورة عامة لكل الطبقات التي اجتمعت في المدينة وحواليها وحول الرسول صلى الله عليه وسلم بما فيهم المنافقون والمؤلفة قلوبهم وغيرهم من ضعفاء الإيمان الذين يخاطبهم الله بقوله: ]قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ @ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ @ قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ @ يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لاَ تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ بَلْ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ[ [الحجرات: 14 ـ 17].

إن من يتدبر في هذه الآيات الكريمات يعلم علم اليقين أنه من ضمن الأكثرية التي أشرنا إليها كانت توجد تلك الصفوة المختارة من صحابة رسول الله التي مشت تحت راية الرسول صلى الله عليه وسلم ودافعت عن الإسلام بدمها ومالها واشتركت معه صلى الله عليه وسلم في بناء مجد الإسلام ودفع الأخطار التي أحدقت به. إنهم كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار الذين كانوا مع النبي في السراء والضراء يلازمونه ملازمة الظل لصاحبه حتى يكون لهم أسوة في حياتهم ويحمونه من الأعداء والمتربصين بالإسلام. وهناك صورة مشرقة نيرة لهذه الصفوة المختارة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم تعني كل كلمة منها صفاء ذلك العصر وعظمته وجلالته وروعته وإخلاص الصحابة وتفانيهم في الإسلام وفي الدفاع عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولنقرأ معاً هذه الآية الكريمة: ]مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا[ [الفتح: 29].

وهناك وصف آخر لهذا العصر المشرق ولصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرها الإمام علي ونثبته هنا: «لقد رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم فما أرى أحداً يشبههم. لقد كانوا يصبحون شعثاً غبراً وقد باتوا سجداً وقياماً يراوحون بين جباههم وخدودهم ويقفون على مثل الجمر من ذكر معادهم. كأن بين أعينهم ركب المعزي من طول سجودهم. إذا ذكر هملت أعينهم حتى تبل جيوبهم. ومادوا كما يميد الشجر يوم الريح العاصف خوفاً من العقاب ورجاء الثواب» [نهج البلاغة: ج1/ص 190].

ولنستمع إلى الإمام وهو يصف مرة أخرى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومدى إيمانهم المطلق واللامحدود بنبيهم وبرسالته: «ولقد كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وأعمامنا وما يزيدنا ذلك إلا إيماناً وتسليماً. ومضينا على اللّقَمِ. وصبراً على مضض الألم. وجداً في جهاد العدو. ولقد كان الرجل منا والآخر من عدونا يتصاولان تصاول الفحلين يتخالسان أنفسهما أيهما يسقي صاحبه كأس المنون. فمرة لنا من عدونا ومرة لعدونا منا. فلما رأى الله صدقنا أنزل بعدونا الكبت وأنزل علينا النصر حتى استقر الإسلام ملقياً جرأته ومتبوئاً أوطانه ولعمري لو كنا نأتي ما أتيتم ما قام للدين عمود ولا اخضر للإيمان عود. وأيم الله لتحتلبُنّها دماً ولتُتْبِعنّها ندماً» [نهج البلاغة ج1/ص 104].

وهنا لا بد من هذا السؤال: هل أن مثل هؤلاء الصحابة الذين أثنى عليهم الله هذا الثناء العظيم ومدحهم الإمام علي بهذا الوصف الكبير، خالفوا النص الإلهي في أمر ورد فيه تشريع من الله وهم حماة التشريعات الإلهية ومنفذوها. وقد ضحوا بالغالي والرخيص لأجلها ولا سيما لو كان لذلك التشريع صلة مباشرة بمصالح المسلمين ومستقبل أمرهم وإرساء القواعد التي بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لإرسائها؟

وبعد كل هذا ونحن نؤدي (رسالة التصحيح) في هذا الكتاب بعيدة عن الأهواء والعصبيات وتقاليد الآباء والأمهات. إنها رسالة موجهة إلى الطبقة المثقفة وأصحاب الأفكار الحرة من أبناء الشيعة الذين عليهم عقدت الآمال في السير وراء التصحيح. ولذلك أرى أن أعرج على البند الثاني وهو قول الإمام علي في الخلافة لنرى بوضوح كيف أن الإمام كان يقول بصراحة إنه لا نص هناك من الله في الخلافة.

ب- أقوال الإمام علي في الخلافة:

يقول الإمام علي: «دعوني والتمسوا غيري فإنّا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان، واعلموا أني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم ولم أصغ إلى قول القائل وعتب العاتب وإن تركتموني فأنا كأحدكم ولعلّي أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم وأنا لكم وزيراً خير لكم مني أميراً» [نهج البلاغة: ج1/ص 182].

ولنستمع إلى الإمام مرة أخرى وهو يخاطب أهل الشورى قبل بيعة عثمان: «ولقد علمتم أني أحق الناس بها من غيري، والله لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين. ولم يكن فيها جور إلا علّي خاصة، التماساً لأجر ذلك وفضله» [نهج البلاغة: ج1/ص 124].

وهذا هو الإمام يجيب بعض أصحابه وقد سأله: كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام وأنتم أحق به؟ «وقد استعلمت فاعلم أما الاستبدادُ علينا بهذا المقام ونحن الأعلون نسباً والأشدون برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نوطا. فإنها كانت أثرة شحت عليها نفوس وسخت عنها نفوسُ قوم آخرين والحَكَمُ الله، والمَعودُ إليه القيامة» [نهج البلاغة: ج2/ ص63].

ولنقرأ معاً نصوصاً أخرى للإمام فيها وضوح وصراحة في رغبته عن الخلافة وأنه كان يدفعها عن نفسه دفعاً ولكنه كان يعتقد بأنه أحق من غيره بها. ولم يذكر الإمام أن هناك نصاً من الله وتشريعاً إلهياً ورد في الخلافة. يقول الإمام: «والله ما كانت في الخلافة رغبة ولا في الولاية اربة. لكنكم دعوتموني إليها وحملتموني عليها. فلما أفضت إليّ نظرت إلى كتاب الله وما وضع لنا وأمرنا بالحكم به فاتبعته وما اسْتَسَنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاقتديته» [نهج البلاغة: ج2/ ص148].

ويقول في مكان آخر: «فأقبلتم إليّ إقبال العوذ المطافيل على أولادها تقولون البيعة البيعة. فبضتُ فبسطتموها ونازعتكم يدي فحاذيتموها» [نهج البلاغة: ج3/ ص119].

ويتحدث الإمام مرة أخرى في كتاب بعثه إلى مالك الأشتر جاء فيه: «فوا لله ما كان يلقي في روعي ولا يخطر ببالي أن العرب تزعج هذا الأمر من بعده صلى الله عليه وآله وسلم عن أهل بيته ولا أنهم مُنَحّوه عني من بعده فما راعني إلا انثيال الناس على ابن أبي قحافة يبايعونه فأمسكت يدي» [نهج البلاغة: ج3/ ص119].

وبعد أن قرأنا هذه العبارات الواضحات في اعتقاد الإمام بأولويته في الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لا بد وأن نقرأ أيضاً ما قاله في شرعية الخلفاء الذين سبقوه حتى نعلم مدى إيمان الإمام واعتقاده بصحة وشرعية بيعتهم. يقول الإمام: «لأنها بيعة واحدة لا يُثَنّى فيها النظر ولا يُستأنف فيها الخيار. الخارج منها طاعن والمُرَوِّي فيها مداهن» [نهج البلاغة: ج3/ ص8].

ويقول في مكان آخر: «ألا وإنكم قد نفضتم من حبل الطاعة وثلمتم حصن الله المضروب عليكم بأحكام الجاهلية. فإن الله سبحانه وتعالى قد أمتن على جماعة هذه الأمة فيما عقد بينهم من حبل هذه الإلفة التي ينتقلون في ظلها ويأوون إلى كنفها بنعمة لا يعرف أحد من المخلوقين لها قيمة. لأنها أرجح من كل ثمن وأجل من كل خطر. واعلموا بأنكم صرتم بعد الهجرة أعراباً وبعد الموالاة أحزاباً. ما تتعلقون من الإسلام إلا باسمه ولا تعرفون من الإيمان إلا رسمه» [نهج البلاغة: ج2/ ص154].

ولنستمع إلى الإمام مرة أخرى وهو يؤكد شرعية الخلافة والإمامة بعد أن اجتمعت الأمة عليها إجماعاً مصغراً حيث يجب على عامة المسلمين والأكثرية الغائبة إطاعة الخليفة المنتخب: «ولعمري لئن كانت الإمام لا تنعقد حتى يحضرها عامة الناس فما إلى ذلك سبيل. ولكن أهلها يحكمون على من غاب عنها، ثم ليس للشاهد أن يرجع ولا للغائب أن يختار» [نهج البلاغة: ج2/ ص86].

ج- بيعة الإمام من الخلفاء والتأكيد على شرعية الخلفاء الراشدين:

لقد أسهبنا في ذكر النصوص الواردة من الإمام علي حول الخلافة وعدم ذكر كلمة واحدة بوجود نص إلهي فها والآن لا بد أن نعرج على موضوع آخر هو إذا كانت الخلافة بنص سماوي وكان هذا النص في علي، هل كان بإمكان الإمام أن يغض النظر عن هذا النص ويبايع الخلفاء ويرضخ لأمر لم يكن من حقهم؟

لقد حلل علماء الشيعة في الكتب العديدة التي ألفوها بيعة الإمام علي مع الخلفاء بأمرين: فهناك من ذهب إلى أن الإمام علياً بايعاً الخلفاء حشية منه على ضياع الإسلام وإيجاد الفرقة التي كانت تؤدي إلى هدم الإسلام. فلذلك ترك حقه ورضخ لخلافة خلفاء غصبوا حقه. والتعليل الثاني أنه بايع الإمام الخلفاء خشية منه على نفسه وعمل بالتقية التي سنتطرق إلى ذكرها في مواطن عديدة.

أما الذين عللوا بيعة الإمام بالخوف على الإسلام من الضياع لأن الناس كانوا حديثي عهد بالإسلام ولم يكن الإسلام بعد صلب العود فيدحضه بيعة علي مع عثمان التي كانت في عصر امتدت فيه الخلافة الإسلامية من الشرق حتى بخارى ومن الغرب حتى شمال أفريقيا، وكانت الخلافة الإسلامية تحكم أكبر رقعة من الأرض المسكونة في ذلك العصر.

وبعد فإن أغرب الأمور وأعظمها خطراً في مبحث الخلافة والتي لم يتحدث عنها كل من أسهب فيها من رواة الشيعة وعلمائها ومن الفرق الإسلامية أخرى هي أنهم لم يبحثوا الخلافة الإلهية بصورة مستقلة عن الإمام علي ولا عن الخلفاء الذين سبقوه بل ربطوها ربطاً وثيقاً بالأشخاص والأسماء. ويدهشني ويحيرني حقاً هذا التحوير في الخلافة لأنها إذا كانت تبحث بصورة مستقلة عن شخص على لكانت تصطدم بعقبة كبيرة تنسف كل القواعد التي بنيت في عصر الصراع بين الشيعة والتشيع.

وإذا كانت الخلافة تبحث حقاً في العقيدة الإسلامية بغض النظر عمن هو المراد بأن يتولاها لما واجه المسلمون ما واجهوه من الحيرة والضياع في شؤون الخلافة وما ترتب عليها. وهذا هو بيت القصيد لما أريد أن أذهب إليه وهو أن الخلافة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم وإن شئت فقل الإمامة إذا كانت بنص إلهي وفيها أمر من السماء سواء أكان علي هو المراد بتوليها أو غير علي لكانت كلُّ المبررات والأقاويل التي ذكرها رواة الشيعة وعلماء المذهب الإمامي (والتي تنصب كلها على أن الإمام علياً بايع الخلفاء الذين سبقوه للحفاظ على الإسلام من الضياع وخوفاً من ارتداد الناس بعد الرسول أو للتقية) تذهب أدراج الرياح وتصبح هباءاً منبثاً، لأن الخلافة عندما تكون بنص الهي وبأمر من الله لا يستطيع أحد مهما كان مقامه أو منزلته من الإسلام أن يقف ضدها أو يخالفها للمبررات التي يتصورها أو يعتقد بها فلم يكن باستطاعة علي أو غير علي من الصحابة أن يوقف نصاً إلهياً صدر بالوحي.

فإذا كان محمد وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستطيع ولا يحق له أن يتلكأ في أداء الرسالة الإلهية أو يخفيها كما صرحت بذلك الآية الكريمة: ]يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ[ [المائدة: 67]. فكيف يستطيع من هو دون مرتبة الرسول صلى الله عليه وسلم أن يغض النظر عن النص الإلهي أو يخفيه، وهل هناك أمر الهي أكثر صراحة ووضوحاً لإبلاغ الرسالة والوحي من الآيات الكريمات التاليات: ]وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ[. [العنكبوت: 18]. ]فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاَغُ[ [الشورى: 48]. ]فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ[ [هود: 18]. إن ربط الخلافة بالخليفة وعدم التفريق بينهما هو الذي مهد الطريق للرواة من الشيعة كما قلنا أن يدونوا ما شاؤوا في إبان عصر الصراع بين الشيعة والتشيع. فالإمام لم يكن مشرعاً ولم يكن يدعي ذلك. ولا اجتهاد أمام النص حتى أن يجتهد أمام نص الخلافة ويسكت عنها كما أنه لا يستطيع أن ينقضه لأنه هو موضوع ذلك النص.

فالخلافة إذا كانت إلهية وسماوية كانت حقاً عاماً للمسلمين ودستوراً سماوياً لهم بغض النظر عن الشخص الذي يتولاها.

ومع كل ما فصلناه في الخلافة وأنها لو كانت بالنص الإلهي لم يستطع أحد مهما كان شأنه أن يعمل خلافها أو يتجاهلها أو ينكرها. إلا أننا أمام فئة كبيرة من علماء المذهب الشيعي وقد أغفلوا هذا الأمر إغفالاً، ولذلك ذهبوا إلى تأويل بيعة الإمام بالتقية أو الخوف أو أنه أرغم على أمر لا يعتقد به وخلاف إرادته.

وهنا يأتي دور أولئك الذين أرادوا تحطيم الإمام علي وشخصيته والطعن فيه بصورة غير مباشرة. وهكذا تحطيم كل ما يتعلق بعصر الرسالة وصحابة الرسول صلى الله عليه وسلم لأن الطريق الوحيد في إظهار عصر الرسالة بما فيه كبار الصحابة رسول الله بالمظهر القاتم هو إعطاء صورة عن خروج ذلك المجتمع الإسلامي عن أوامر الله الصريحة. وهذا الأمر يتوقف على تصوير الخلافة في علي بنص الهي ومخالفة الصحابة كلهم لهذا النص مع علمهم بذلك وإبلاغ الرسول صلى الله عليه وسلم إياهم ثم إعطاء صورة عن الإمام علي وهو صاحب الحق في صورة رجل مخادع مداهن مجامل كان مع الخلفاء الثلاثة الذين سبقوه طيلة خمسة وعشرين عاماً في ظاهر الأمر كمستشار أمين وكصديق حميم مُطْلِقاً في مدحهم وقائلاً خير الكلام بحقهم ولكنه في واقع الأمر غير معتقد بما يقول وغير مؤمن بما يفعل حتى أنه زوج ابنته أم كلثوم لعمر بن الخطاب وهو مرغم عليه. وسمّى أولاده أبو بكر وعمر وعثمان وهو غير راض عن تسميتهم، وهكذا دواليك.

هذه خلاصة ما كتبه بعض علماء الشيعة ورواه بعض رواة حديث الشيعة ـ سامحهم اله ـ عن الإمام علي نصاً وتلويحاً ولست أدري ماذا يكون موقف هؤلاء يوم القيامة إذا احتكم الإمام إلى ربه فيهم. كما أني اعتقد جازماً أن بين هؤلاء الأكثرية توجد فئة غير قليلة ساهمت في تغيير مسار الفكر الإسلامي الموحد إلى طريق الشقاق والنفاق ولضرب الإسلام والمسلمين بما فيهم علي وعمر. مع أنهم في ظاهر الأمر كانوا يظهرون بمظهر حماة المذهب الشيعي. إلا أن الغرض كان هدم المذاهب كلها وإن شئت فقل الطعن في الإسلام. فحتى في أوائل القرن الرابع الهجري وهو عصر الغيبة الكبرى لا نجد أي أثر لفكرة اغتصاب الخلافة من الإمام علي أو أنها حق الهي اغتصب منه، أو أن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتركوا وساهموا في ذلك الأمر. وهكذا وكما قلنا تغيرت فكرة الأولوية بخلافة علي إلى فكرة الخلافة الإلهية ومخالفة النص الإلهي.

ولا شك أن دخول الفلسفات اليونانية إلى الفكر العربي والأفكار الفلسفية الأخرى التي لعبت دوراً كبيراً في تأسيس المدرستين الاعتزالية والأشعرية كانت وراء الصراع بين الشيعة والتشيع وإظهار الشيعة بالمظهر الذي نحن عليه الآن. ولا شك أيضاً أن عرض الخلافة بالصورة التي عرضها علماء المذهب مستندين على روايات رواة الشيعة كان سبباً لانعزال المذهب الشيعي عن سواه وابتعاده عن المذاهب الأخرى محتفظاً بحالة انعزالية وهجومية بعيدة عن كل ألفة وانسجام مع الفرق الإسلامية الأخرى. وكان لا بد لإبقاء المذهب محصوراً على الطائفة وعدم الانسجام بينها وبين الفرق الأخرى هو إيجاد حالة من التنافر تمنع كل تقارب وتقريب مع الآخرين ولذلك أخذت الشيعة تسلك طريق تجريح الخلفاء الراشدين وذمهم مستندة على الروايات التي وضعها الرواة على لسان أئمة الشيعة مخلفة وراءها من الخراب والدمار ما لا يحصده إلا الله.

ونحن هنا نتحدث مع الشيعة بالمنطق الشيعي البحث ولذلك نثبت أقوالاً للإمام علي في حق الخلفاء الراشدين ثم نستشهد بما يقول الإمام عن نفسه ثم نسأل أنفسنا: هل أن مثل هذا الإمام بايع الخلفاء وهو مرغم عليه وغير راض عنه أو أنه خادع المسلمين في عمله والخلفاء في بيعته. وهل أنه قال كلاماً لا يعتقده فيه وعمل عملاً لا يؤمن به؟

أحقاً أن الشيعة تحب علياً وهي التي نسبت إليه مثل هذه الأمور أو أنها سلكت هذا الطريق الشائك حتى تثبت حقها في استلام السلطة وتأسيس الدولة ولو أدى ذلك إلى التضحية بسمعة علي وجلالة قدره وعظمة نفسه وعلو مقامه؟

د- أقوال الإمام علي في الخلفاء الراشدين:

ولنستمع إلى الإمام علي وهو يتحدث عن الخليفة ابن الخطاب: «لله بلاء عمر فقد قوَّم الأمد. وداوى العمد. خلف الفتنة. وأقام السنة. ذهب نقي الثوب. قليل العيب. أصاب خيرها، وسبق شرها. أدى إلى الله طاعته، وأتقاها بحقه، رحل وتركهم في طريق متشعبة لا يهتدي فيها الضال ولا يستيقن المهتدي» [نهج البلاغة: ج2/ص 222].

ومرة أخرى يخاطب الخليفة عندما استشاره في الخروج إلى غزو الروم بنفسه: «إنك متى تسر إلى هذا العدو بنفسك. فتقلهم بشخصك فتنكب، لا تكن للمسلمين كأنفة دون أقصى بلادهم وليس بعدك مرجع يرجعون إليه. فابعث إليهم رجلاً مجرباً واحفز معه أهل البلاء والنصيحة. فإن أظهر الله فذاك ما تحب. وإن تكن الأخرى كنت رداء للناس ومثابة للمسلمين» [نهج البلاغة: ج2/ص 18].

ويستشير الخليفة عمر بن الخطاب علياً بن أبي طالب مرة أخرى للشخوص لقتال الفرس بنفسه فينصح الإمام الخليفة بعدم الخروج ويقول له: «والعرب اليوم إن كانوا قليلاً فهم كثيرون بالإسلام وعزيزون بالاجتماع فكن قطباً واستدر الرحى بالعرب وأصْلِهِمْ دونك نار الحرب… إن الأعاجم أن ينظروا إليك غداً يقولوا. هذا أصل العرب، فإذا قطعتموه استرحتم فيكون ذلك أشد لِكَلِبِهْم عليك وطمعهم فيك… وأمّا ما ذكرت من عددهم فإنّا لم نكن نقابل فيما مضى بالكثرة وإنما كنا نقاتل بالنصر والمعونة» [نهج البلاغة: ج2/ص 29].

وهذا هو الإمام علي يتحدث مع الخليفة عثمان بن عفان ويصفه بصفات الصحابي المقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. «إن الناس ورائي وقد استفزوني بينك وبينهم. والله ما أدري ما أقول لك. ما أعرف شيئاً تجهله. ولا أدلك على أمر لا تعرفه. إنك لتعلم ما نعلم. وما سبقناك إلى شيء فنخبرك عنه. ولا خلونا بشيء فنبلغكه. وقد رأيت كما رأينا وسمعت كما سمعنا وصحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما صحبنا وما ابن أبي قحافة ولا ابن الخطاب أولى بعمل الحق منك. وأنت أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشيجة رحم منهما. وقد نلت من صهره ما لم ينالا. فالله الله في نفسك. فإنك والله ما تُبَصّرُ من عمى ولا تُعَلَّمُ من جهل» [نهج البلاغة: ج2/ص 68].

ومرة أخرى يتحدث الإمام حول الخليفة عثمان مع ابن عباس فيقول: «يا ابن عباس ما يريد عثمان إلا أن يجعلني جملاً ناضحاً بالغرب. أُقْبلُ وأُدْبرُ. بعث إليَّ أن أخرج ثم بعث إليَّ أن أقْدَم. ثم هو الآن يبعث إلىَّ أن أخرج. والله لقد دَفعت عنه حتى خشيت أن أكون آثماً» [نهج البلاغة: ج2/ص 233].

ويذكر الإمام علي موقفه من الخليفة عثمان بن عفان في كتاب بعثه إلى معاوية بن أبي سفيان يقول فيه: «ثم ذكرت ما كان من أمري وأمر عثمان. فلك أن تجاب عن هذه لرحمك منه، فأيُّنا كان أعدى له وأهدى إلى مقاتِلِه. أمّنْ بذلك له نصرته فاستقعده واستكفّه أمّنْ استنصره فتراخى عنه وبث المنونَ إليه… وما كنت لاعتذر من إني كنت أَنْقِمُ عليه أحداثاً. فإن كان الذنب إرشادي وهدايتي له فَرُبَّ ملومٍ لا ذنب له» [نهج البلاغة: ج3/ص 34].

وهذا هو سفيان شيخ الأمويين يزور الإمام علياً في داره ويقول له: «غلبكم على هذا الأمر أرذل بيت في قريش. أما والله لاملأنها خيلاً ورَجِلاً. اعطني يدل لأبايعك». فيقول له الإمام: «ما زلت عدو الإسلام وأهله فما ضر ذلك الإسلام وأهله شيئاً إنّا رأينا أبا بكر أهلاً لها إنما تريد الفتنة».

فإن كان هذا هو موقف الإمام من الخلفاء الراشدين وهو يصرح بذلك فهل نستطيع أن نقول إن الإمام كان يظهر شيئاً ويضمر شيئاً آخر؟ معاذ الله من ذلك. فإن كان الإمام يريد أن يظهر شيئاً ويضمر شيئاً آخر لما كان له ذلك الموقف الذي لا ينساه تاريخ الإنسان إلى الأبد. إنه موقف صدق وإخلاص وإيمان من رجل هو مع الحق والصدق قبل كل الاعتبارات وبعدها ويضحي في سبيلهما مهما كانت التضحيات غاليات. ففي يوم الشورى عرض عبد الرحمن بن عوف على الإمام علي الخلافة بقوله: «أبايعك على كتاب الله وسنة رسوله وسيرة الشيخين». فقال الإمام: «كتاب الله وسنة رسوله واجتهاد رأي». فكرر عبد الرحمن ابن عوف المقالة نفسها وكرر الإمام الإجابة نفسها إلى ثلاث مرات ثم انحاز عبد الرحمن إلى عثمان وعرض عليه الخلافة بالصورة التي عرضها على الإمام فقبلها عثمان وتمت البيعة له.

فهل علي الذي يغض النظر عن خلافة إسلامية كان لواؤها يرفرف على أكبر رقعة من الأرض المسكونة في ذلك التاريخ لأجل كلمة واحدة هي (نعم) وهو لا يريد الإيفاء بها يجامل أو يخادع أو يقول شيئاً ويضمر غيره أو يبايع الخلفاء ويقول في مدحهم الكلام الكثير ويقف معهم موقف الناصح الأمين وهو لا يعني كل هذا؟

ومع أن هذه الصورة الرائعة المشرقة لموقف الإمام علي في تلك اللحظة الخالدة في تاريخ الإسلام تكفي عن الأسباب في فضائل علي وصدقه وإخلاصه وعزوفه عن الدنيا. ولكننا نسجل هنا بعض الأقوال الصادرة عن الإمام حول نفسه وإخلاصه وتفانيه في الله، يقول الإمام: «فوا لله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصى الله في نملة أسلبها جِلْبَ شعيرة، ما فعلت وإن دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضَمها» [نهج البلاغة: ج2/ص 218].

ويقول الإمام في مكان آخر: «هذا ماء آجن. ولقمةَ يَغَصُّ بها آكلها. ومجتني الثمرة لغير وقت إيناعها كالزارع بغير أرضه. فإن أقُلْ يقولوا حَرَصَ على الملك! وإن أسكُتْ يقولوا جَزَعَ من الموت! هيهات بعد اللتيا والتي والله لابن أبي طالب آنسُ بالموت من الطفل بثدي أمه»  [نهج البلاغة: ج1/ص 40].

ويقول في ضمن رسالة بعثها إلى والي البصرة عثمان بن حنيف جاء فيها: «فوا لله ما كنزت من دنياكم تبراً ولا أدخرت من غنائمها وفراً. ولا أعددت لبالي ثَوْبَيَّ طِمْرا… أأقنع من نفسي بأن يقال أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر وجشوبة العيش. أو أبيت مبطاناً وحولي بطون غرثى وأكباد حرى. فهيهات أن يقودني هواي إلى تخير الأطعمة ولذائذها ولعل بالنجد أو اليمامة من لا طمع له بالقرص ولا عهد له بالشبع… وكأني بقائلكم يقول: إن كان هذا قوت ابن أبي طالب لقعد بن الضعف عن قتال الأقران ومنازلة الشجعان. إلا وأن الشجرة البرية أصلب عوداً والروائع الخضرة أرق جلوداً، وأنا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كالصنو من الصنو والذراع من العضد فوا لله لو تظاهرت العرب على قتالي لما وليت عنها» [نهج البلاغة: ج3/ص 07].

ويقول الإمام في مكان آخر: «والله لئن أبيت على حسك السعدان مُسَّهَدَا. وأُجَرُّ في الأغلال مصفداً. أحب إلي من أن ألقى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم يوم القيامة ظالماً لبعض العباد وعاصباً لشيء من الحطام» [نهج البلاغة: ج2/ص 216].

وهذا هو عبد الله ابن عباس يدخل على علي بذيقار فيرى الإمام يخصف نعله فيسأله الإمام: ما قيمة هذا النعل؟ فيقول: لا قيمة لها يا أمير المؤمنين. فيقول الإمام: «والله لهي أحب إلي من إمارتكم إلا أن أقيم حقاً أو أدفع باطلاً».

ولا بد أن أذكر أيضاً موقف الإمام علي من السيد عائشة بعد حرب الجمل فقد كرَّم الإمام السيدة أم المؤمنين وأكرمها إكراماً يليق بزوجة الرسول صلى الله عليه وسلم حينما أعادها من ساحة الحرب مصحوبة بعدد من النساء القرشيات.

أما الشيعة فلن تغفر للسيدة عائشة خروجها على الإمام في تلك الحرب، وهذا هو سبب موقفها المعارض لأم المؤمنين. ولست أريد أن أذكر في هذا المجال المبررات التي ذكرها أنصار السيدة عائشة في تبريرهم لخروجها على الإمام، ولا الآراء التي ذكرها علماء الشيعة في تبرير موقفهم المناهض لأم المؤمنين، فهذه أمور معروفة ذكرت في عشرات المجلدات من الكتب ولا فائدة من تكرارها فنحن في غنى عنها، ولكنني أريد إنهاء هذا الصراع الفكري بالمنطق الشيعي البحث. وهو إن الإمام برأ ساحة السيدة عائشة من الحرب التي قادتها، والإمام هو الخليفة الذي كان يقضي بين الناس بالحق ولا يحيد عنه قيد أنملة. فإذا كان الإمام قد ألقى اللوم على فئة استغلوا سذاجة أم المؤمنين وأخرجوها من دارها لتقود حركة مناهضة للخليفة المنتخب والشرعي، فيعني هذا أن السيدة عائشة بريئة من كل ما ينطق بحرب الجمل وذيولها في نظر الإمام ولذلك أمر بإكرامها وإرجاعها إلى المدينة بالصورة التي أجمعت عليها كتب التاريخ لثبت براءتها من تلك الحرب في نظر القاضي العادل الذي هو الإمام. فلا يحق لأحد أن يطعن أن يجرح السيدة عائشة متحدياً عمل الإمام ورأيه الذي يؤكده بصريح العبارة عندما يتحدث عن حرب الجمل وإخفاق أم المؤمنين في قيادتها فيقول: «ولها (أي للسيدة عائشة) بعد حرمتها الأولى والحساب على الله تعالى» [نهج البلاغة: ج2/ص 48].

وفي مواطن كثيرة يُلقي الإمام علي المسؤولية على الذين استغلوا حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم وجروها وراءهم حسب تعبيره.

إن من حسن التوفيق أن بعض علماء الشيعة وقف موقفاً لائقاً بأم المؤمنين ونهى عن تجريحها فقد قال السيد مهدي الطباطبائي وهو من علماء القرن الثاني عشر في أرجوزته الفقهية مخاطباً السيدة عائشة:

«أيا حُمِيراءُ سَبُّكِ محرمٌ    لأجلِ عينٍ ألفُ عينٍ تُكرمُ»

هـ- أقوال أئمة الشيعة في الخلافة والخلفاء الراشدين:

ونختتم هذا الفصل بإعطاء صورة واضحة المعالم عن موقف أئمة الشيعة حول الخلافة وعدم وجود نص إلهي فيها ليكون البحث متكاملاً كما قلنا في مقدمة هذا الفصل.

إن الإمامة إذا كانت إلهية كما تذهب الشيعة وأنها في أولاد علي حتى الإمام الثاني عشر لعيَّن الإمام ابنه الحسن خليفة وإماماً من بعده ولكن الذي اتفق عليه الرواة والمؤرخون أن الإمام عندما كان على فراش الموت وذلك بعد أن ضربه ابن ملجم المرادي بالسيف السموم وسئل عن الشخص الذي يستخلفه قال: «أترككم كما ترككم رسول الله صلى الله عليه وسلم» وبعد وفاة الإمام اجتمع المسلمون واختاروا ابنه الحسن وبايعوه خليفة للمسلمين ولكن الإمام الحسن صالح معاوية وتنازل هل عن الخلافة والإمام علل الصلح بأنه لحقن دماء المسلمين.

فيا ترى لو كانت الخلافة منصباً إلهياً هل كان يستطيع الإمام الحسن أن يتنازل عنه بذريعة حقن الدماء.

فكما نعمل أنه لا مكان لحق الدماء عندما يكون هناك دفع عن أمر الله وشريعته. وماذا يعني إذن الجهاد والقتال في سبيل الله لإرساء دينه وشريعته وأوامره ونواهيه. إن حقن الدماء أمام حق الهي وسماوي يتناقض مناقضة صريحة مع هذه الآية الكريمة: ]إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ[ [التوبة: 111]. والإمام الحسين عندما ثار وهو يريد الإطاحة بخلافة يزيد بن معاوية واستشهد في كربلاء ومعه أولاده وصحابته. لم يذكر قط بأنه يدافع عن خلافة سماوية اغتصبها يزيد بل كان يقول أنه أولى بالخلافة منه وإن مثله لا يبايع يزيداً وأنه ثار لإحياء دين رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي انحرف على يد يزيد.

كما أننا لم نجد في أقوال الإمام علي بن الحسين الملقب بالسجَّاد أية عبارة تدل على كون الخلافة إلهية. وبعد الإمام السجَّاد يأتي دور الإمام محمد الباقر والذي في عهده بدأ يتبلور مذهب أهل البيت الفقهي الذي أكمله ابنه الإمام جعفر الصادق. فنحن لا نجد أثراً لفكرة الخلافة الإلهية في عهدهما ولا في عهد أئمة الشيعة الآخرين حتى الغيبة الكبرى.

وهناك شيء جدير بالاهتمام لا بد من التركيز عليه لتفنيد كل الروايات التي ذكرها بعض رواة الشيعة في تجريح الخلفاء الراشدين بما فيهم الخليفة أبو بكر وهو أن الإمام الصادق الذي يعتبر رئيس ومؤسس المذهب الجعفري الإمامي الأثنا عشري قال مفتخراً وفي مواطن عديدة: «أولدني أبو بكر مرتين». فالإمام الصادق ينتمي نسبه إلى أبي بكر عن طريقين: عن طريق والدته فاطمة بنت قاسم بن أبي بكر وعن طريق جدته أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر. ولكن الغريب أن رواتنا ـ سامحهم الله ـ رووا عن هذا الإمام الذي يفتخر بجده أبي بكر روايات في تجريح هذا الجد لا تعد ولا تحصى. فهل يعقل أن يفتخر الإمام بجده من جهة ويطعن فيه من جهة أخرى؟ إن مثل هذا الكلام قد يصدر من السوقي الجاهل ولكن معاذ الله أن يصدر من إمام يعتبر أفقه وأتقى أهل عصره وزمانه.

وهكذا نرى رواة الشيعة ساهموا مساهمة فعالة ولكن بصور غير مباشرة حتى في الإساءة إلى أئمة الشيعة الذين يدعون أنهم من أنصارهم وأنهم ألفوا كتباً عديدة لإحياء تراثهم. ونحن نسمي عصر تأليف تلك الكتب وما جاء فيها من الروايات الملفقة بالعصر الأول لظهور الصراع بين الشيعة والتشيع. وأعتقد أننا أسهبنا القول في الخلافة وكل ما يتعلق بها، وأن الذي علينا الآن هو التحدث عن الفكرة التصحيحية التي ننادي بها وننشدها ونرغب من أبناء الشيعة الإمامية أن يسيروا عليها وينضووا تحت لوائها.

وندعو أن تقف الشيعة بكل ما أوتيت من جهد وقوة في وجه المرتزقين بالأقلام والألسنة والدعوات المفرقة ونطلب من الطبقة الواعية المثقفة من أبناء الشيعة التي نعقد عليها الآمال في نجاح مسيرتنا التصحيحية التي ندعو إليها أن تكون منار الهداية للأكثرية التي آمنت بما سمعت من دعاة التفرقة وأصحاب العقول المتحجرة والنفوس المريضة والأهواء والمصالح.

التصحيح:

وهنا أبدأ بتحديد النقاط الأساسية للتصحيح وأملي معقود لضمانه على الطبقة الواعية المثقفة من أصحاب العقول النيرة التي أشرت إليها أعلاه.

1- أن موضوع الخلافة يجب وينبغي أن لا يخرج عن إطاره الحقيقي الذي نص عليه القرآن الكريم: ]وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ[ وأن تنظر الشيعة إلى الخلفاء الراشدين بنفس النظرة والطريقة التي أقرها الإمام علي نزولاً عند نص القرآن الكريم وإجماع المسلمين. وأن الخلفاء الراشدين من بناة الإسلام الأوائل وقد اجتهدوا في مدة خلافتهم فأصابوا وأخطأوا وخدموا الإسلام ما استطاع كل واحد منهم إلى ذلك سبيلاً.

فالخليفة الأول أبو بكر حفظ الإسلام من خطر الردة بحزمه وصبره وصرامته. تلك الردة التي كانت السبب في الحروب التي استشهد فيها عشرون ألف صحابي للدفاع عن الإسلام وأبلى المسلمون فيها بلاء حسناً.

وهذا هو الإمام علي يقف على باب أبي بكر في يوم وفاته ويخاطبه بقوله: «رحمك الله يا أبا بكر كنت أول القوم إسلاماً وأخلصهم إيماناً وأشدهم يقيناً وأعظمهم غناءاً وأحفظهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنسبهم برسول الله خلقاً وفضلاً وهدياً وسمتاً، فجزاك الله عن الإسلام وعن رسول الله وعن المسلمين خيراً صدقت رسول الله حين كذبه الناس وواسته حين بخلوا وقمت معه حين قعدوا وأسماك الله في كتابه صديقاً، والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون يريد محمداً ويريدك. وكنت والله للإسلام حصناً وعلى الكافرين عذاباً. لم تقلل حجتك ولم تضعف بصيرتك ولم تجبن نفسك. وكنت كالجبل الذي لا تحركه العواصف كنت كما قال رسول الله ضعيفاً في بدنك قوياً في أمر الله متواضعاً في نفسك عظيماً عند الله. جليلاً في الأرض، كبيراً عند المؤمنين ولم يكن لأحد عندك مطمع، ولا لأحد عند عندك هوادة، فالقوي عندك ضعيف حتى تأخذ الحق منه، والضعيف عندك قوي حتى تأخذ الحق له، فلا حرمنا الله أجرك ولا أضلنا بعدك». [الصديق أول الخلفاء ـ عبد الرحمن الشرقاوي].

والخليفة الثاني عمر بن الخطاب أعطى للإسلام قوة عظيمة بفتوحاته مواقفه الخالدة في توسيع الرقعة الإسلامية شرقاً وغرباً وهو الذي أرسى قواعد الإسلام في بلاد واسعة شاسعة منها فارس وفلسطين والشام ومصر.

والخليفة الثالث عثمان بن عفان صاهر الرسول مرتين ولولا أنه رجل يمتاز عن كثير من أقرانه لما زوجه الرسول بنتين. وكان له جهاد كبير في إبان الدعوة الإسلامية وكفاه فخراً أنه كان من أغنياء قريش يملك ألف جمل من حُمْر النَّعم باعها وصرف ثمنها في سبيل دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين وقدر ثمن تلك الإبل بمليون سكة ذهبية في ميزان ذلك العصر، وكان عصره عصراً امتدت فيه الفتوحات الإسلامية حتى وصلت إلى تخوم الهند. وإذا أخفق في الخلافة في أواخر حياته إلا أنه قُتِلَ وهو شيخ بلغ الثمانين وهو مكب على قراءة القرآن الكريم.

ولا يجوز تجريح الخلفاء وذمهم بالكلام البذيء الذي نجده في أكثر كتب الشيعة. الكلام الذي يغاير كل الموازين الإسلامية والأخلاقية وبناقض حتى كلام الإمام علي ومدحه وتمجيده في حقهم كما أثبتناه قبل قليل. ويجب على الشيعة أن تحترم الخلفاء الراشدين وتقدر منزلتهم من الرسول. فالنبي صلى الله عليه وسلم صاهر أبا بكر وعمراً. وعثمان صاهر النبي مرتين، وعمر بن الخطاب صاهر علياً وتزوج من ابنته أم كلثوم. ولا أطلب من الشيعة في هذه الدعوة التصحيحية أن تقول وتعتقد في الخلفاء الثلاثة الذين سبقوا الإمام علياً أكثر مما قاله الإمام في حقهم. فلو التزمت الشيعة بعمل الإمام علي لانتهى الخلاف وساد الأمة الإسلامية سلام فكري عميق فيه ضمان الوحدة الإسلامية الكبرى.

2- غربلة الكتب الشيعية التي ذكرت روايات عن أئمة الشيعة في ذم الخلفاء الراشدين وإعادة طبع تلك الكتب منقحة مغربلة مما ورد فيها.

3- على الشيعة أن تعتقد جازمة أن كل الروايات التي ذكرتها كتب الشيعة في حق الخلفاء وفي وجود نصوص إلهية في موضوع الخلافة هي روايات وضعت بعد عصر الغيبة الكبرى وذلك بعد أن سدت الأبواب كلها في الوصول إلى آخر إمام للشيعة وهو المهدي كما قلنا، فلذلك لا نجد أثراً للروايات الجارحة في حق الخلفاء الراشدين وموضوع النص الإلهي في الخلافة إلى عصر الإمام الحسن العسكري وهو الإمام الحادي عشر للشيعة الإمامية حيث كان باستطاعة الشيعة أن تتصل بالإمام مباشرة وتسأله عن صحة ما ينسب إلى آبائه الأئمة من الروايات. ولكن بعد الإعلان الرسمي عن غيبة الإمام الثاني عشر وتكذيب كل من ادعى رؤيته بعد الغيبة بنص صريح صدر منه وضع بعض الرواة روايات باسم أئمة الشيعة لتعذر الوصول إلى الإمام والسؤال عن صحتها وسقمها فكان ما كان من حديث وأحاديث تندى منها الجباه.

4- أن تخرج الشيعة من الانطواء على نفسها وتسلك طريق الإمام علي إن كانت حقاً من أنصاره وتسمى أولادها بأسماء الخلفاء الراشدين وتسمي بناتها بأسماء أزواج النبي وأقصد السيدة عائشة وحفصة بالذات لأن الشيعة تعزف عن هذين الاسمين فالإمام علي قد سمى أولاده أبا بكر وعمر وعثمان، وأئمة الشيعة سلكوا الطريق نفسه وكم من بنات الأئمة سمين بعائشة وحفصة هذا بغض النظر عن أن التسمية بأسماء الخلفاء الراشدين خروج من جاذبة الفرقة والانطواء على الطائفية والدخول إلى صفوف الوحدة الكبرى مع المسلمين.

ويعز على المصلحين من أبناء الإسلام أن لا يصادفوا في البلاد الشيعية أناساً من الشيعة يحملون أسماء الخلفاء. وإذا ما طاف أحد البلاد الشيعية بطولها وعرضها لا يصادف هذه الأسماء إلا نادراً، ففي إيران مثلاً وفي البلاد الشيعية التي يكثر فيها الخلاف مع الفرق الإسلامية الأخرى لا نجد لمثل هذه الأسماء أثراً يذكر.

5- أن تعلم الشيعة ف يكل مكان تتواجد فيه على هذا الكوكب أن السبب الحقيقي والأساسي لتخلفها الفكري والاجتماعي هو السير وراء زعاماتها المذهبية وإطاعتها إطاعة عمياء جعلتهم كالأغنام تساق إلى حيثما تريد وان تلك الزعامات هي التي سببت للشيعة شقاء وعناء ومحنة سعتها سعة السماوات والأرض.

ومع أنني استثني بعض هذه الزعامات من هذه القاعدة إلا أن الأكثرية منهم كانت ولا زالت هي الماسكة بزمام البدع الفكرية في عقول الشيعة من عصر الغيبة الكبرى وإلى هذا اليوم، ولا شك أن التكوين الفكري المغلق لهذه الزعامات، والامتيازات المالية الكبيرة التي حصلوا عليها من أموال الشيعة باسم الخمس في أرباح المكاسب تلك البدعة التي سنشير إليها في الفصل الخاص بها والقدرة المطلقة التي زعموها لأنفسهم في التحكم  برقاب الشيعة كانت السد المنيع لرفع الغطاء عن العيون المحجبة والترفع عن الدنيا وحطامها، وكأنهم لم يسمعوا كلام الله حيث يقول: ]تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ[ [القصص: 82].ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «آخر ما يخرج من رأس الصديقين حب الجاه».

وحتى هذا اليوم فإن الزعامات المذهبية الشيعية لعبت بالشيعة كالكرة فرمتها بأقدامها هنا وهناك وهم بها ساخرون وجعلت منها أمة يسخر بها العالم وتضحك منها الأمم.

ومع أنني سأذكر في فصل من فصول التصحيح شواهد وأدلة لاستغلال الزعامات المذهبية الشيعية للشيعة عبر التاريخ وحتى هذا اليوم وفي كل فصل سأضع النقاط على الحروف كي لا يختلط الحديث بالحديث ولا الفكرة بالفكرة.

انتهى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *