العدد 27 -

السنة الثالثة – العدد 27 – ذو الحجة 1409هـ، الموافق تموز 1989م

الخوف وأسبابه

خلق الله الإنسان، وفطره على غرائز وحاجات عضوية، فهو مفطور على الشعور بالعجز والاحتياج للخالق المدبر، كما أنه مفطور على حبه لبقاء ذاته واستمرارها، وحبه لبقاء نوعه واستمرار هذا النوع، والإنسان بحاجة للطعام والشراب، كما أنه بحاجة للنوم وقضاء الحاجة..

والخوف الذي يعتري الإنسان هو مظهر من مظاهر غريزة البقاء، وهو ليس عيباً بحد ذاته، لأن الإنسان يحب أن يبقى آمناً مطمئناً في هذه الحياة.

أسباب الخوف عند الإنسان:

1- غريزة حب البقاء ذاتها تقضي أن يخاف الإنسان من كل ما يهدد هذا البقاء.

2- يريد الإنسان أن يشبع غرائزه وحاجاته العضوية، فإذا بدا له ما يهدده بقطع رزقه كان ذلك سبباً من أسباب الخوف.

3- سيف المستبد الذي يهدد الإنسان بإنهاء حياته أو سجنه أو إيقاع الأذى عليه كان ذلك سبباً من أسباب الخوف أيضاً.

4- الإنسان متعلق بأسرته وأقاربه، فإذا لاح له ما يبعده عن الأسرة والأقارب بدا له الخوف سيفاً مشهوراً على عنقه، لأن الإنسان مجبول على الأمن والدعة في ظل أسرة تربطه بها رابطة تحقق له الهدوء والسلامة ورغد العيش.

5- قد يجمع ذلك كله سبب واحد وهو خوف الإنسان على حياته ورزقه لأنه متعلق بالحياة تعلقاً غريزياً يخشى من زوالها ويريد استمرارها، ولأن الرزق فيه بقاء هذه الحياة، وإشباع جوْعَاته.

الخوف عند الحيوان غريزي وعند المؤمن يكون من منطلق فكري:

هل الخوف بالنسبة للإنسان المؤمن يبقى في دائرة الغريزة كخوف الحيوان تسيره الرغبة والرهبة، وتمليه الحاجة والغريزة؟

في رأينا أن الإنسان مفكر خلقه الله وخلق له هذا العقل المميز الذي هو مناط التكليف، ومن أجل ذلك يتخذ الإنسان من تنظيم هذه الغرائز والحاجات مبدءاً يلتزم به، ومنهجاً يسير عليه. وعلى هذا الأساس يصبح المؤمن الملتزم يخشى على مبدئه وفكره أكثر من خشيته على نفسه، لأن في المبدأ وهذا الفكر تحقيقاً لذاته، واستمراراً لوجوده الإنساني الذي أراده الله له.

فما هو هذا المبدأ الذي هو ضر وروي ضرورتي؟

لا بد للمؤمن أن ينظر إلى الكون والحياة والإنسان نظرة شاملة مستنيرة واعية، فيدرك إدراكاً جازماً أن الله خالقه وفاطره، وأن الحياة منتهية لا شك في ذلك. وأن الإنسان وهو جزء من هذه الحياة، منتهٍ أيضاً، وأنه سيصير إلى يوم القيامة يوم الحساب.

إذن فالخوف الحقيقي يجب أن يكون من الله وحده، فأحرى بالمؤمن أن يخشى على مصيره الباقي، وحيته الخالدة، وليس على مصيره الفاني وحياته الزائلة.

ولهذا فالخوف خوفان: خوف مذموم وخوف ممدوح، فقد ذم الله اليهود والذين حرصوا على الحياة فقال: ]وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ[ وذم الله الخوف من الشيطان فقال: ]إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ[. وذم الله الخوف من الأعداء حين حض الله المؤمنين على القتال فقال: ]أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ[ وذم الله التعلق بالحياة الدنيا وما فيها من إغراءات فقال: ]يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ[.

والآيات في كتاب الله، والأمثلة من السنة المطهرة ومن السيرة العطرة، ومن تاريخ المؤمنين المجاهدين كثيرة جداً. ويقابل ذلك خوف مدحه الله، وأثنى على أصحابه فقال تعالى عن عبده زكريا وأهله: ]إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا[ وأثنى الله على المؤمنين فقال: ]إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ[.

وأثنى الله على عباده القائمين الليل الساجدين له خوفاً وطمعاً فقال: ]تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ[.

إذن: فالمؤمن يتجه بكليته إلى الله، ولا يخاف إلا منه لأن الله هو الخالق المتصرف في ملكه الذي إليه المرجع والمصير، ولأنه القادر المقتدر الذي لا حد لقدرته. ولا رادَّ لمشيئته ولا دفع لسلطانه.

أما الحياة الدنيا وما فيها من متاع فهي زائلة بما فيها ومن فيها، فلأجل ذلك لا بد أن يقع ما يخشاه الإنسان في هذه الحياة على مصالحه، فالحياة منتهية لا شك في ذلك، والموت واقع لا محالة.

فحرص الإنسان على هذه الحياة وَهمٌ لا مبرر له، والمطمع كل المطمع هو عند الله دار البقاء والنعيم المقيم.

فوضى الغرائز والانقياد لها انحطاط بالكرامة البشرية عما أراده الله لها:

لو تحكمت الغرائز والحاجات بالإنسان المؤمن كما تتحكم بالحيوان لما كان جهادٌ في سبيل الله ونشر لرسالات الله، ولما عزَّ الحق وأهله، وذل الباطل والمتمسكون به، فالخوف من المستبدين يزيد في أسبابه ولا يقلل منها، والرغبة بما عند الحكام المتسلطين من متاع زائل، ووظائف لا تسمن ولا تغني من جوع تدعم سلطان الباطل وتزيد من تسلطه على رقاب المسلمين مع أنها ليست تأميناً على الحياة وتدفق الأرزاق، فالمستبد نفسه لا يملك لنفسه نفعاً إذا أحاط به الخطر، وحانت ساعة زواله. وقد شاهدنا كثيراً من المتسلطين دكت عروشهم، وانهارت مناصبهم والخطر عليهم أشد من الخطر الذي يحيط بالضعفاء لأن المتسلطين يعيشون في دائرة الخوف، والضعفاء بعيدون عنه.

فأين فرعون الذي قال: أنا ربكم الأعلى وهو يعلم أنه كاذب، فقد طواه الردى وغيبه وجنودَه اليمُّ. وأين النمرود الذي قال: أنا أحيي وأميت وهو يعلم أنه كاذب فهو لا يملك الموت والحياة، فقد زال واندثر وأيد الله حجة إبراهيم وأعز دينه.

فلا تيأسوا أيها المسلمون من روْح الله، واعلموا أن الله ناصر من ينصره فحطموا حاجز الخوف بإيمانكم القوي، وتمردوا على سياط المستبدين فهم لا يملكون رزقاً ولا أجلاً وأنتم أبناء أمة عريقة دكت عورض الظلم والاستبداد، وداست تيجان الأكاسرة والقياصرة، ونشرت نور الله في كل بقاع الأرض. فلا تكونوا أقل من سحرة فرعون المؤمنين حيث ظهرت لهم آية الله وتبين لهم زيف فرعون، وصرخوا في وجهه، وتمردوا على سلطانه: وخروا لله ساجدين، فلما هددهم بالصلب والتقتيل والعذاب والتنكيل قالوا: ]إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنْ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى[.

وقالوا حين هددهم أيضاً: ]قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ[ وفرعون والنمرود رمزٌ لكل مستبد وكل طاغية، والله سبحانه وتعالى أعز وأجل: ]وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ[. وإنه لحري بكم أن تخافوا على دينكم لا أن تخافوا على طعامكم وشرابكم وحري بكم أن تخافوا على آخرتكم الباقية لا على دنياكم الفانية، فلا عزة لكم إلا بجهاد يسقط الظلم والظالمين ويشل سياط المستبدين، ويعلي كلمة الله حتى تكون هي العليا وتكون كلمة الذين كفروا السفلى.

إن اليأس هربٌ من الواقع وموقف سلبي من الخطر المحيط، وعلى العاقل أن يقف في وجه الحريق لا أن يهرب منه، وأن يقاوم الخطر وأسبابه لا أن يتركه يغزو المسلمين فرداً فرداً، ويتبع ديارهم شبراً شبراً، فعلينا أن نتمسك بحبل الله، ونخاف من الله وحده ولا نخشى أولياء الشيطان لأنهم ضعفاء في حقيقة الأمر، قليلون وإن كثروا عدداً والله يقول: ]الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا[.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *