العدد 16 -

السنة الثانية – العدد الرابع – محرم 1409هـ، الموافق أيلول 1988م

سؤال وجواب

 سؤال (1)

هناك أشخاص يذهبون للعمل في بلد غير بلدهم، وتفرض عليهم السلطة في بلد العمل أن ينفقوا القسم الأكبر من رواتبهم حيث يعملون، ولا تسمح لهم أن يخرجوا إلا نسبة محددة من رواتبهم، فهل يجوز شرعاً لهؤلاء أن يهربوا أموالهم دون علم السلطة؟

جواب (1)

إن طاعة الحاكم في دار الكفر ليست واجبة إلا في حالات معينة، ذلك أن الله يقول: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ) وولي الأمر هذا الذي أمرنا الله بطاعته بشكل مطلق، ما لم يأمر بمعصية، هو الحاكم المسلم الذي تتوفر فيه الشروط الشرعية، ويحكم بالشريعة الإسلامية، وبذلك تكون داره إسلام، والحكام الموجودون الآن في البلاد الإسلامية لا يحكمون بالشريعة الإسلامية وبذلك فإن طاعتهم غير واجبة شرعاً، ولكنها جائزة ما لم يأمروا بمعصية.

وهنا يرد سؤال، وهو أن السلطة تشترط على الموظف أن لا يخرج من راتبه إلا نسبة معينة وهو يقبل هذا الشرط، وإلا لما كانت وافقت على أن يعمل في بلدها، وما دام الموظف قبل بالشرط، أليس هو ملزماً شرعاً بمراعاته بناء على الحديث الشريف: «المسلمون على شروطهم»؟

وللإجابة عن هذا التساؤل نسوق حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعائشة رضي الله عنها في قصة بَريرة. وقد أورد الشوكاني في نيل الأوطار [ج5/ ص 180] الحديث تحت عنوان: (باب أن من شرط الولاء أو شرطاً فاسداً لغا وصح العقد).

«عن عائشة قالت: دخلتْ عليّ بريرة وهي مكاتبة فقالت: اشتريني فاعتقيني، قلت: نعم، قالت: لا يبيعوني حتى يشترطوا ولائي، قلتُ: لا حاجة لي فيك. فسمع بذلك النبي صلى الله عليه وسلم أو بلغه، فقال: ما شأن بريرة؟ فذكرت عائشة ما قالت، فقال: اشتريها فاعتقيها، واشترط أهلها ولاءها. فقال النبي r: الولاء لمن اعتق وإن اشترطوا مائة شرط». رواه البخاري ولمسلم معناه. وللبخاري في لفظ آخر: «خذيها واشترطي لهم الولاء فإنما الولاء لمن اعتق».

من هذا الحديث نفهم أنه إذا كان أمام المرء فعل خير، وأن أصحاب الشأن يمنعون فعل الخير إلا باشتراط شروط فاسدة، فإنه يجوز للمرء أن يوافق على الشرط الفاسد من أجل إتمام فعل الخير وبعد ذلك لا إثم عليه في نقض الشرط الفاسد.

والشرط المذكور في السؤال، وهو أن لا يُخرج من راتبه خارج البلد إلا جزءاً محدداً، هذا الشرط فاسد شرعاً لأنه يتناقض مع النصوص التي تعطي المرء حق التصرف بماله وتمنع وضع الحجر عليه. فليبيا، مثلاً، حين تشترط على الموظف أن لا يُخرج من ماله إلا نسبة محددة، إنما هي تفرض عليه حجراً، وتمنعه من التصرف ملكيته، فهذا الشرط يعتبر فاسداً لأنه يتصادم مع النصوص.

والموظف لا إثم عليه حين يقبل مثل هذا الشرط الفاسد لأنه بحاجة إلى العمل، وهذا العمل يعتبر من أعمال الخير ما دام من الأعمال المشروعة، وما دام يسد منه حاجته وحاجة من يعول. فإذا استطاع هذا الموظف أن يخرج أمواله تهريباً، فلا إثم عليه شرعاً.

وقد نقل الشوكاني عن النووي أن الشرط الذي يزيد على مقتضى العقد ولا مصلحة فيه للمشتري كاستثناء منفعته فهو باطل.

وحديث الرسول r لعائشة في شأن بَريرة يخصص النصوص العامة مثل قوله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)، ومثل قوله r: «المسلمون على شروطهم».

السؤال (2)

لقد وردت نصوص في السنة تفيد أن الكذب يُباح في الحر وللإصلاح بين اثنين وكذب الرجل على زوجته ليرضيها. ثم قرأنا حديث الحجاج بن علاط السلمي كما ورد في سيرة ابن هشام عند الحديث عن عزوة خيبر، والظاهر منه أن الرسول صلى الله عليه وسلم أباح له الكذب في غير الحالات الثلاث المذكورة.

الجواب (2)

نعم لقد وردت نصوص الحديث التي تبيح الكذب في الحرب، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «الحرب خدعة». ولكن إباحة الكذب في الحرب هي على العدو المحارب، وليس على كل الناس. وإذا كانت خدعة العدو تتطلب أن يكذب المرء على غير العدو حتى تتسرب الخدعة إلى العدو فلا بأس.

وكذلك وردت نصوص تبيح الكذب لإصلاح ذات البين.

ووردت نصوص تبيح أن يكذب الرجل على زوجته ليرضيها، أو أن تكذب المرأة على زوجها لترضيه. أما إذا كان الكذب بين الزوجين لإغاظة أحدهما الآخر فهو حرام.

وهذه الحالات الثلاث مشهورة.

وأما حديث الحجاج بن علاط السلمي فإنا ننقل منه جانباً: «فقال: يا رسول الله، إن لي بمكة مالاً عند صاحبتي [أي زوجته] أم شيبة بنت أبي طلحة،.. ومال متفرق في تجار أهل مكة، فأذنْ لي يا رسول الله فأذنَ له. قال: انه لا بد لي يا رسول الله من أن أقول [أي أكذب]، قال: قُلْ».

قد يتبادر إلى الذهن أن الرسول صلى الله عليه وسلم أباح له الكذب على أهل مكة وعلى التجار وعلى زوجته من أجل أن يجمع ديونه. وربما يستنبط بعضهم من ذلك أنه يباح لصحاب المال أن يختلق القصص ويجترح الأكاذيب من أجل الإسراع في استرداد أمواله. وليس الأمر كذلك. وهناك من جعل هذه الحادثة حادثة عين خاصة بالحجاج هذا، وليست عامة في المسلمين، وليس الأمر كذلك. وهناك من أدخل هذه الحادثة تحت نص: «الحرب خدعة» إذ اعتبروا أن المسلمين كانوا في حالة حرب مع أهل مكة، وليس الأمر كذلك لأن المسلمين وأهل مكة كانت بينهم معاهدة الحديبية آنذاك، وحادثة الحجاج لم تكن خدعة من أجل الحرب بل من أجل جمع ماله.

والمدقق في حادثة الحجاج وحديثه يجد أنه كان يخشى على ماله الضياع، فها هو يخبر العباس رضي الله عنه: «احفظ عليّ حديثي يا أبا الفضل… لقد افتتح خيبر [أي الرسول r]… وصارت له ولأصحابه… ولقد أسلمت وما جئت إلا لآخذ مالي، فرقاً من أن أُغلب عليه».

وهناك لهذه المسألة في الفقه نظائر. ومن هذه النظائر حكاية هند زوج أبي سفيان. فقد ورد في الحديث الصحيح: «عن عائشة أن هنداً قالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم. فقال: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» والأصل أن المرأة لا يحل لها أن تسرق من مال زوجها أو تأخذ منه بغير علمه إذا كان لا يأذن لها. ولكن إذا كان الرجل يمنع النفقة الكافية عن زوجته وأولاده فإنه يصبح لهم حق في ذمته بحسب ما هو متعارف عليه عند أمثالهم. وهذا الحق يجوز للزوجة أن تأخذه خفية إذا كان يصعب عليها تحصيله منه بالطرق المشروعة. وقد قاس بعض العلماء الحقوقَ الأخرى على النفقة، فقالوا: إذا عمل شخص عند آخر بأجر ولم يدفع له الآخر أجره، وهو موسر، فإن للأجير أن يأخذ من ماله مقدار حقه بدون أن يعلمه. وقالوا: إذا ماطل الغني بدفع الدين فإن لصاحب الدين أن يأخذ من ماله مقدار دينه دون علمه.

والأصل في هذه الأعمال أنها غير مشروعة، ولكنها تصبح مشروعة عندما يخشى صاحب الحق أن يضيع حقه.

والحجاج بن علاط السلمي كانت له أموال في مكة حين كان ما زال مشركاً. وقد أسلم يوم خيبر، فخشي إن علم مشركو مكة بإسلامه أن يجحدوا ديونه، فهو يقول: «ولقد أسلمتُ وما جئت إلا لآخذ مالي، فرقاً من أن أُغلب عليه». فالكذب الذي أباحه له رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس حالة رابعة تضاف إلى الحالات الثلاث، وليس هو عزيمة من العزائم، بل هو رخصة تشبه الرخصة التي أعطاها رسول الله لهند. وهذه الرخص ليست خاصة بالحجاج أو بهند، بل هي عامة للمسلمين.

وقد رخص بعض العلماء لصاحب الدين أن يسرق أو يختلس من مال المدين المماطل مقدار حقه، قياساً على ما رخصه رسول الله لهند وللحجاج.

وهذه الرخصة في تحصيل الحقوق بالطرق غير المشروعة عند تعسر الحصول عليها بالطرق المشروعة تشكل دليلاً إضافياً للسؤال الأول، أي تشكل دليلاً على مشروعية تهريبه لأمواله عندما تريد السلطة أن تحد من تصرفه بماله. وكذلك إذا استطاع أن يتهرب من دفع الرسوم الجمركية فإن له ذلك، لأن هذه الرسوم تفرضها السلطات، والشرع يحرمها لأنها هي المكوس.

وهذه الرخصة لا تتوقف عند تحصيل الحقوق المالية، بل تتعدى ذلك إلى تحصيل سائر الحقوق. فلو أرادت السلطة أن تسحب الجنسية من شخص لتحرمه من حق الإقامة أو التملك أو الانتخاب أو ما شاكل ذلك فإن لهذا الشخص شرعاً أن يحصل على الجنسية بطريق غير مشروع، إذا استطاع، ما دام حقاً ثابتاً من حقوقه ويريدون حرمانه منه بدون وجه حق.

اللهم لا تجل الدنيا أكبر همنا

عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو: «اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما يهون علينا مصيبات الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، وأجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا. ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا».

[حديث حسن رواه الترمذي والحاكم في مستدركه    

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *