لماذا تتغير المواقف والأهداف
1988/09/05م
المقالات, كلمات الأعداد
2,106 زيارة
من المعروف أن المبادئ الوضعية لا تتغير في المدى القصير، وأما المبدأ الإلهي فإنه لا يتغير مطلقاً. ومن المعروف أن معتنقي المبادئ لا يتخلون عنها بسهولة ولو أدى ذلك إلى تعرضهم للعَنَت والمشقة والتضحيات الجسام، ومن هنا يصفهم البعض (بالمبدئيين).
ومن الواضح لدى غالبية المسلمين أن الأحكام الشرعية لا تتغير بتغير الزمان والمكان، ولكن تقيدهم بهذه الأحكام يخضع للأهواء والأمزجة وأحياناً للألاعيب السياسية، والذين يمارسون تلك الألاعيب يعرفون مدى تمسك المسلمين بدينهم، لذلك يلجأون إلى غطاء شرعي لكل عمل سياسي يتعلق بالأمة وبمصيرها فينجحون حيناً ويفشلون أحياناً أخرى، وذلك لأن الأمة أصبحت على مستوى من الوعي يخولها كشف ما يمارس عليها من زيف وخداع.
ومن المحن التي تعرض لها المسلمون وذاقوا مرارتها محنة الحرب العراقية الإيرانية أو ما يسمونه (بحرب الخليج)، تلك الحرب التي تغيرت فيها المواقف والأهداف وكذلك المواقع مع مرور الأيام. ومعروف أن العراق كان هو البادئ بالمعركة ولكنه بعد شهور من بدايتها بدأ يستصرخ العالم لنجدته من أجل وقف الزحف الإيراني صوب البصرة وبغداد، ومن أجل وقف الحرب ولكن إيران لم تستجب، واستمر العراق في النداء والحرب معاً حتى رجحت كفته العسكرية وأخذ دور الهجوم بدل الدفاع، واسترجع مواقعه التي خسرها وأخذ مواقع جديدة للطرف الآخر.
ولا شك أن العراق حين بدأ المعركة واستمر في خوضها لم يعلن أنها كانت استجابة لحكم شرعي، ولم يعلن من أهدافه شيئاً سوى ادعائه بأنه يدافع عن العرب تجاه المدّ الإيراني، وأنه (يخوض قادسية جديدة) لحماية العرب.
وبالمقابل فإن إيران أطلقت على الحرب تسمية (الحرب المفروضة) وبدأت بصد الهجوم العراقي وحققت الغلبة في الهجوم المعاكس وانتزعت أراضي جديدة من العراق، ولم تلبث أن خسرتها، رافق ذلك رفض تام من قبل إيران لكل النداءات المطالبة بوقف الحرب وأنها لن توقفها إلا إذا تحققت الأهداف التي تسعى للوصول إليها، وكانت أهدافها تتخلص في البداية بما يلي:
1- استرجاع الأراضي التي احتلت.
2- إسقاط النظام العراقي.
3- إقامة جمهورية إسلامية في العراق.
4- الحصول على تعويضات لخسائر الحرب يدفعها العراق.
5- إدانة النظام العراقي من قبل مجلس الأمن على أنه هو البادئ بالحرب. ثم تقلصت هذه المطالب حتى أصبحت:
إدانة النظام العراقي على انه هو البادئ بالحرب وتعويض الخسائر التي نجمت عنها. وبما أن النظام العراقي لا يتبنى الإسلام ولا يعترف به كنظام ينظم كل شؤون الحياة فإن أحداً لن يتوقع منه التقيد بالحكم الشرعي، ولن يستغرب مخالفته للأحكام الشرعية من أول الحرب لآخرها. أما إيران فإن تصرفها على أساس أنها تتبنى الإسلام يتطلب منها الالتزام برعاية شؤون الناس، خصوصاً وأنها تعلم بأن الحرب منذ أن انطلقت كانت فكرة استعمارية خبيثة خططت لها ونفذتها الدول الغربية الطامعة في العالم الإسلامي وعلى رأسها أميركا، ولكنها رغم علمها بذلك استُدرجت إلى المحرقة الخليجية ودخلت في اللعبة السياسة وأمعنت في رفض إيقافها واستمرت في طرح شعار مفاده أن (طريق القدس تمر من بغداد) وأنها تريد إسقاط النظام العراقي للوصول إلى القدس، ولكن هذا الشعار لم يلبث أن تلاشى ولم يبق إلا مطلب الإدانة والتعويض.
ومن البديهي أنه ليس هناك من عاقل يريد للحرب أن تستمر في حصد الأرواح والأموال بل على العكس فإنه يغتبط بتوقفها بأي شكل من الأشكال، ولكن السؤال الذي يرد هو: إذا كانت المطالب الإيرانية مطالب شرعية يوجبها الشرع فلماذا تخلت عن أهمها وهو إسقاط النظام العراقي ولماذا تقلصت تلك المطالب حتى وهي في موقع الهجوم والغلبة؟ هل يعني القبول بوقف الحرب تنازلاً عن تلك المطالب أو أنها مطالب سياسية وغير شرعية تخضع للأخذ والرد وللموقف الدولي؟ يحق لكل مسلم أن يتساءل هذه التساؤلات وأن يطلب إجابة صريحة عنها:
وهنالك سؤال آخر وهو: لما لم تستجب إيران لنداءات (المؤتمرات العربية) و(القمم الإسلامية) ولجنة المساعي الحميدة (بغض النظر عن خفايا تلك المؤتمرات وعن أهدافها)، وأعلنت بالمقابل أنها استجابت لقرار مجلس الأمن رقم 598 بوقف الحرب ولم تعلن أنها استجابت للنداءات الصادرة من العالم الإسلامي؟ ثم لماذا اعترفت أخيراً بمجلس الأمن وقراراته بعد أن كانت ترفض الاحتكام له وتقول عنه إنه العوبة في يد أميركا وقد كانت صائبة في رفضها ولكنها تراجعت ورضخت له ولقراراته المهيمَن عليها أميركياً؟ ثم لماذا قدمت شكوى لمجلس الأمة (الأميركي) ضد أميركا نتيجة لإسقاطها للطائرة المدينة في مياه الخليج مع علمها أنه لا يجوز شرعاً الرجوع إلى هذا المجلس ولا أي من المنظمات والهيئات التي انبثقت عن هيئة الأمم المتحدة؟ وكما قلنا سابقاً فإن الموقف الشرعي يبقى ثابتاً ويجب الالتزام به مهما كانت الظروف ولا يجوز تعديله أو تبديله تحت أية حجة، والمطالب الشرعية يجب التمسك بها دون النظر إلى الضغوط الدولية والإقليمية، والاحتكام يكون لله ولشرعه ولا يكون للطاغوت وهيئاته، والخلاف بين المسلمين لا يُحل في أروقة الأمم الكافرة والملحدة. ثم إن القضية المبدئية والمركزية لدى المسلم لا تكون باسترجاع قطعة من الأرض انتزعها مسلم آخر، ولا هي استمرار القتل والقتال للحصول على تعويض لخسائر القتال تلك التي تتضاعف خلال السعي لتحقيق هذا المطلب، بل القضية الأساسية هي إعلاء كلمة الله وإعزاز دينه وذلك بأن يسود الإسلام ويحكم كل بقاع الأرض، أما قيام فئة من المسلمين بمطالبة فئة أخرى بتعويضات مالية عن طريق قصف المدن الآهلة بالسكان فإنه ليس من الأمور المصيرية، ولا يقره الشرع، بل إنه يزيد من خسائر المسلمين، ومعروف أن كل خسارة في جانب العراق هي خسارة في رصيد المسلمين وكل خسارة في جانب إيران هي خسارة من رصيد المسلمين، لذلك لا يجوز تكثير الخسارة في طرف للتعويض عن الخسارة في الطرق الآخر لأن ذلك يضاع الخسارة الكلية ويزيد من هدر الأرواح والأموال.
ونعود للقول أن الحرب كان يجب أن لا تحصل بين المسلمين، وبما أنها اندلعت وصار ما صار، فإنه كان من الواجب العمل على وقفها بكافة السبل لا تأجيجها واستدعاء أساطيل الدول الكبرى لمياه الخليج ولحماية الناقلات النفطية مما يكرس هيمنة الدول الكبرى على بلاد المسلمين، ودون أن يحقق المسلمون أية فائدة من وراء استمرارها، وأما التذرع بذريعة تحديد البادئ بها أو أنه يحل له الاستمرار فيها، والتذرع بأن الطرف الأول هو من قصف المدن لا يعطي مبرراً للطرف الآخر بقصف المدن لأن الحجة إما أن تكون شرعية وإما أن لا تكون، وإذا صادف ووجُد مطلب شرعي فإنه لا يجوز التنازل عنه تحت ضغط الأحداث، نقول هذا الكلام ليس لترجيح كفة فريق على آخر، ولا للمساواة بين الفريقين، فشتان بين من يقرَ بالإسلام وبصلاحيته، وبين من يتنكر للإسلام ويناصبه العداء ويتبنى كل عمل يحطم الإسلام ويذل المسلمين، لكن اللوم على مخالفة الحكم الشرعي ينصبّ على من ينكر الدين جملة وتفصيلاً، لأنه منكر للدين ويجب اقتلاعه من جذوره لا إلقاء اللوم والحساب عليه. وهذا هو الباعث على محاسبة المخالف للأحكام الشرعية، والباعث على إسقاط المتنكر للدين والمعادي له. نسأل الله أن تحقن دماء المسلمين وأن تصان حرماتهم ويرد كيد الكافرين المستعمرين إلى نحورهم.
وبعد، فقد روي عن الإمام علي كرم الله وجهه قوله: الرجال تعرف بالحق، ولا يعرف الحق بالرجال.
نسأل الله أن يوفقنا لما فيه مرضاته. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أسرة «الوعي»
1988-09-05