العدد 375 -

السنة الثانية والثلاثون، ربيع الآخر 1439هـ، كانون الثاني 2018م

حدائق ذات بهجة

حدائق ذات بهجة

 

كان الشعبيُّ، نَديمُ الخليفةِ عبد الملك بن مروان، كوفيًا، تابعيًا، جَليلَ القَدْرِ، وافرَ العلمِ.‏‏ حكى الشعبيّ فقال: ‏ ‏ أنْفَذَني عبدُ الملك بن مروان إلى ملكِ الرومِ. فَلمّا وصلتُ إليه جَعل لا يسألُني عن شيءٍ إلا أجبتُه. وكانت الرُّسُلُ لا تُطيلُ الإقامةَ عندهُ، غَيرَ أنَّهُ استبقاني أيامًا كثيرةً، حتى استحثثتُ خُروجي. فلما أردتُ الانصرافَ قال لي:‏‏ مِن أهل بيتِ الخليفة أنت؟‏ قلت: لا، ولكنِّي رجلٌ مِن عامةِ العرب.‏ فَهَمَسَ لأصحابهِ بشيءٍ، فدُفعتْ إليّ رقعةٌ، وقال لي:‏ إذا أدّيتَ الرسائلَ إلى الخليفة فأوصلْ إليه هذهِ الرُّقعةَ.‏‏ فأديتُ الرسائلَ عِندَ وصولي إلى عبد الملك، ونسيتُ الرقعة. فلما خرجتُ مِن قصرهِ تذكّرتها، فرجعتُ فأوصلتُها إليه. فلما قرأها قال لي:‏ ‏ أقالَ لك شيئًا قبل أنْ يَدفَعَها إليكَ؟‏ قلت: نَعم، قال لي: مِن أهلِ بيتِ الخليفةِ أنت؟ قلت لا، ولكنّي رَجلٌ مِن عامةِ العرب.‏ ثم خرجتُ من عند عبد الملك، فلما بلغتُ الباب ردّني، فلما مثلتُ بين يديه قال لي: أتدري ما في الرقعة؟‏ قلت: لا.‏‏ قال: اقرأها.‏ فقرأتُها، فإذا فيها:‏ “عجبتُ مِن قومٍ فيهم مثل هذا كيف ملّكوا غيرَه!”‏ فقلت له:‏‏ والله لو عَلِمتُ ما فيها ما حَمَلتُها، وإنما قال هذا لأنه لم يَرَك.‏ قال عبد الملك:‏ أفتدري لِمَ كَتَبَها؟‏ قلت: لا.‏ ‏قال: حَسَدنِي عليك، وأرادَ أن يُغريني بِقَتلك.‏‏ فلما بلغت القصَّةُ مَسامِعَ ملكِ الروم قال:‏ ما أردتُ إلا ما قال!

– تحدث الشعبي عن أعرابي كان يجالسه ويطيل الصمت، فقال له الشعبي: ألا تتكلم؟ فقال الأعرابي: أسكتُ فأسلم، وأسمع فأعلم، إنَّ حظ المرء في أذنه له، وفي لسانه لغيره.

– كان للشعبي أقوال جرت مجرى الحكمة على لسانه، وكلها تنطق بالإسلام، ومن ذلك: لا تمنعوا العلم عن أهله فتأثموا، ولا تحدثوا به غير أهله فتأثموا. وقوله: من زوَّج كريمته من فاسق فقد قطع رحمها. وقوله: ما بكيت من زمان إلا بكيت عليه. وقوله: أسقني أهون موجود وأشد مفقود (يعني الماء). ومن حكمته أن رجلًا أقذع فيه، فقال له: إن كنت صادقًا غفر الله لي، وإن كنت كاذبًا غفر الله لك.

– ذكر بعض أهل العراق إمامة أبي بكر وعمر وعثمان بسوء أمام الإمام جعفر الصادق، فغضب لذلك، وقال لهم باستنكار: أنتم من المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم؟ قالوا: لا. قال: أنتم من الذي تبوؤوا الدار والإيمان؟ قالوا: لا. فقال مؤنباً: ولستم من الذين جاؤوا من بعدهم يقولون: ﴿رَبَّنَا ٱغۡفِرۡ لَنَا وَلِإِخۡوَٰنِنَا ٱلَّذِينَ سَبَقُونَا بِٱلۡإِيمَٰنِ. ثم استطرد فقال: قوموا عني، لا قرَّب الله داركم، تُقرون بالإسلام، ولستم من أهله. ص51

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *