العدد 373 -

السنة الثانية والثلاثين – محرم 1439هـ – تشرين الثاني 2017م

الخدمات والمرافق العامة (2)

الخدمات والمرافق العامة (2)

المبحث الثاني: الإنفاق على الخدمات الجماعية.

هناك العديد من الخدمات التي يتوجب على دولة الخلافة توفيرها والإنفاق عليها لكونها من أعمال الرعاية، ومنها توفير: المجاري، ومياه الشرب، وتمهيد الطرق، وتأمين الكهرباء. فهذه الخدمات تقوم بها الدولة نظرًا لأهميتها وعموم نفعها، ولا يوجد مانع من قيام القطاع الخاص بالمساهمة في تأمينها بالتعاون مع الدولة. وهناك اتجاه قوي نحو خصخصة  هذه القطاعات بدأ تطبيقه منذ ثمانينات القرن العشرين في العديد من بلدان العالم، بما في ذلك العالم الإسلامي.

وبما أن واقع إشراف الدولة المعاصرة على هذه الخدمات ماثل للعيان، واختبره الناس، ويعرفون إيجابياته وسلبياته؛ فإن الباحث سوف يكثف الشق الإسلامي بإذن الله؛ لأنه أقل وضوحًا للناس، بسبب طول الأمد بين هذا العصر وزمان تطبيق الإسلام في واقع الحياة.

أولًا: الإنفاق على المجاري:

يطلق البعض على المجاري مصطلح “الصرف الصحي”، وبالرجوع إلى كتب الحسبة، يلاحظ أن المحتسب كان يمنع “كل ما فيه أذية وإضرار على السالكين، كالميازيب الظاهرة من الحيطان زمن الشتاء، ومجاري الأوساخ الخارجة من الدور في زمن الصيف إلى وسط الطريق… بل يأمر المحتسب أصحاب الميازيب أن يجعلوا عوضها مَسيلًا محفورًا في الحائط مكلسًا، يجري فيه ماء السطح، وكل من كان في داره مخرج للوسخ إلى الطريق فإنه يكلفه سده في الصيف، ويحفر له في الدار حفرة يجتمع إليها…” [عبد الرحمن بن نصر الشيزري: نهاية الرتبة في طلب الحسبة، ص 14].

وكانت أنظمة الصرف الصحي تختلف من مدينة إلى أخرى حسب موقعها من الأنهار والبحار،، فإذا كانت المدينة على مجرى نهر، فإن مجاري المياه الوسخة والحمامات والمدابغ تصرف إلى النهر، وما كان من المدن على نهر غزير الماء مثل نهر دجلة ونهر النيل كانت المياه الوسخة تصرف إليه [مصطفى شاكر: المدن في الإسلام حتى العصر العثماني، 2/667]. وكان المحتسب يأمر السقائين بالدخول في النهر حتى يبعدوا عن ضفة النهر ومواضع الأوساخ “ولا يستقون من موضع في النهر بقربٍ من سقاية [للدواب] أو مستخدم [مجرى أوساخ]، أو مجرى حمام، بل يصعدون عنه، أو يبعدون من تحته” [عبد الرحمن بن نصر الشيزري: نهاية الرتبة في طلب الحسبة، ص117].

 وكان أهل المدن يحتفرون حفرًا في البيوت تجري إليها الأوساخ والأقذار حتى يتسرب ماؤها شيئًا فشيئًا، ثم يجري نزح الفضلات بين فترة وأخرى. وفي عهد صلاح الدين الأيوبي كانت نظافة المدينة من عمل المحتسب، وكان ينفق على تنظيفها من خلال المال الموقوف لعمارة الطرق، وتنظيفها، وتشييد جوانبها، وترصيعها (رصفها بالحجارة لحجب الطين والوحل) باعتباره [المحتسب] متولي أوقافها، الناظر في مصالحها ومصارفها [العماد الأصفهاني: البرق الشامي، ص 138].

وهذا الإشراف من قبل المحتسب، هو إشراف من دولة الخلافة؛ لأن المحتسب موظف لدى الدولة التي تدفع له راتبه، ولا يعمل من تلقاء نفسه تطوعًا، وهذا يظهر قيام الدولة بهذه الخدمة العامة وما يلزمها من نفقات مالية.

ثانيًا: الإنفاق على مياه الشرب:

كانت دولة الخلافة تهتم بحفر الآبار، والأنهار، والترع (الترعة هي فم الجدول ينفجر من النهر)، لري الأرض، ولشرب الإنسان والحيوان. وتروي كتب التاريخ أن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه خصص ثلث الإيرادات المجلوبة من مصر لإنشاء الجسور، والترع لإصلاح الريِّ [عبد الحي الكتاني: التراتيب الإدارية، 2/48].

كما أن الخليفة يزيد بن الوليد كتب إلى عامله على العراق عبد الله بن عمر بن عبد العزيز، بأن يحفر لأهل البصرة النهر الذي طلبوا حفره حتى وإن بلغت تكاليفه خراج العراق كله، فحفر النهر الذي يعرف بنهر عمرو [ البلاذري: فتوح البلدان،ص: 363].

 وأنفق يحيى البرمكي، وزير الخليفة هارون الرشيد، على حفر أحد الأنهار، والمسمى بنهر “أبي الجند” 20 ألف ألف درهم (عشرين مليون درهم) [الجهشياري: الوزراء والكتاب، ص: 177].

ومن أعمال دولة الخلافة حفر خليج القاهرة، والذي امتد من الفسطاط إلى السويس، حفر في مدة لا تتجاوز ثمانية أشهر، وجرت فيه السفن بالطعام من عامه، فكان يُنقل منها إلى السفن ببحر القلزم (البحر الأحمر) فيحمل منها إلى المدينة المنورة [القلقشندي:مآثر الإنافة في معالم الخلافة، 3/339].

واهتمت دولة الخلافة اهتمامًا كبيرًا بأمر السدود؛ وذلك لحفظ المياه، وتخزينها، والتحكم فيها واستغلالها، وأنفقت عليه المال اللازم، وهذه أمثلة من بعض تلك الأعمال:

  • من بين السدود التي أقيمت في الحجاز، سد معاوية بن أبي سفيان، ويقع على الطريق بين المدينة المنورة ومعدن بني سُلَيْم، ويبعد عن المدينة عشرين ميلًا.

  • أقيم عدد من السدود في العقيق؛ للاستفادة من مياه السيول، كسد عبد الله بن عمر بن عثمان.

  • كان على نهر النيل، في جزئه الأدنى، سدان، في القرن الرابع الهجري، أحدهما بعين شمس، وكان يسمى بسد خليج أمير المؤمنين، والثاني بسد دوس أسفل عين شمس [عمر رضا كحالة: العلوم العملية في العصر الإسلامي، ص208].

  • بنى عمرو بن العاص مقياسًا للنيل بأسوان عند فتحه لمصر، ثم بُني في أيام معاوية مقياس آخر، ثم بنى عبد العزيز بن مروان مقياسًا آخر بحلوان” [المقريزي: المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، المعروف بالخطط المقريزية 1/170].

  • بُني مقياس للماء على نهر دجلة في مدينة بغداد؛ وذلك لمراقبة كميات المياه التي تصل إلى النهر في مختلف المواسم، وكان طوله خمسة وعشرين ذراعًا، وعلى كل ذراع علامة مدورة، وعلى كل خمسة أذرع علامة مربعة مكتوب عليها، بحديدة، علامة الأذرع التي تعرف بها كميات الزيادات [عمر رضا كحالة: العلوم العملية في العصر الإسلامي، ص 214].

وبذل ولاة الأمر دون انقطاع الكثير من “الجهود والأموال لتوفير المياه للمدن التي يبنون، فقد كانت مشاريعها تُبنى على حسابهم، وتنوعت طرائقهم في توفيرها تنوعًا كبيرًا يتناسب مع الشح والحاجة، فما من مصدر من مصادر الماء يمكن أن يستغل إلا مدوا إليه أيديهم، وما من تقنية يمكن أن تتبع إلا اصطنعوها للوصول إلى المياه [مصطفى شاكر: المدن في الإسلام حتى العصر العثماني، 2/626-627].

ومن الأمثلة على اهتمام دولة الخلافة بتأمين الموارد المائية قيام عبد الله بن عامر بن كريز والي البصرة المعين من الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه بتنفيذ حفر نهر الأيلة حتى بلغ البصرة، وأكمل بذلك ما بدأ به أبو موسى الأشعري الذي حصل سابقًا بأمر من الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وكتب معاوية بن أبي سفيان إلى زياد بن أبي سفيان بحفر نهر مَعْقَل. وكتب عديّ بن أرطأة إلى عمر بن عبد العزيز، وأمر أهل البصرة أن يكتبوا في حفر نهر لهم، فَحُفِر نهر عديّ [البلاذري:فتوح البلدان، ص:348،359].

ثالثًا: الإنفاق على تمهيد الطرق:

لم يكن عند المسلمين في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم طرق معبدة، بل كانوا يسلكون طرقًا برية صحراوية تطرقها قوافل التجارة التي تسافر شتاءً نحو اليمن، وصيفًا نحو الشام، قال تعالى: (لِإِيلَٰفِ قُرَيۡشٍ ١ إِۦلَٰفِهِمۡ رِحۡلَةَ ٱلشِّتَآءِ وَٱلصَّيۡفِ ٢)وكانت خبرتهم بالبادية وطرقها تؤهلهم لسلوك الطرق المناسبة خلال الغزوات، أو خلال السير للتجارة في قوافل.

وبقيت الأمور عند هذا الحد في زمن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وزمن سيدنا أبي بكر رضي الله عنه. ولما تولى الخلافة سيدنا عمر ابن الخطاب رضي الله عنه، أوجد في الطرق ما يكفل أمن السالكين؛ فوضع في الطرق العسكرية محطات بريدية، بين الواحدة والثانية اثنا عشر ميلًا، فيها الحراسة، والزاد، والماء، والعاملين. ووضع في الطرق التجارية سبل ماء، ما بين مكة والمدينة، حتى لا ينقطع العابر من الماء [ابن سعد: الطبقات الكبرى، 1/202-203].

وتطرقت كتب الحسبة إلى الطرق التي تقع في الأسواق العامة، فقال الشيزري في ذلك: “ينبغي أن تكون الأسواق في الارتفاع، والاتساع، على ما وضعته الروم قديمًا، ويكون من جانبي السوق إفريزان (الإفريز هو الحائط، وهو ما أشرف خارجًا عن البناء) يمشي عليهما الناس في زمن الشتاء، إذا لم يكن السوق مبلطًا، ولا يجوز لأحد من السوقة (الرعية) إخراج مصطبة دكانه عن سمت أركان السقائف (جمع سقيفة وهي الصفة) إلى الممر الأصلي؛ لأنه عدوان على المارة يجب على المحتسب إزالته والمنع من فعله؛ لما في ذلك من لحوق الضرر بالناس” [عبد الرحمن بن نصر الشيزري: نهاية الرتبة في طلب الحسبة، ص11]

ويقول الماوردي: “وإذا بنى قوم في طريق سابل (مسلوك) منع [المحتسب] منه وإن اتسع الطريق، يأخذهم [المحتسب] بهدم ما بَنَوه، ولو كان المبنيُّ مسجدًا؛ لأن مرافق الطرق للسلوك لا للأبنية” [الماوردي: الأحكام السلطانية، ص321]. وقد كانت هناك أوقاف في دمشق مخصصة لتعديل الطرق ورصفها [محمد كرد علي:خطط الشام، 5/99]. ولم تأتِ السنة الثالثة من خلافة الوليد بن عبد الملك، إلا وكانت جميع الطرق في الدولة الإسلامية قد عُبِّدت، وأقيم على جوانبها الشواهد الحجرية، وبنيت الاستراحات على طولها، “ووجهت الدولة عناية كبيرة  للطرق البرية، وتوالت الجهود لتعبيدها وتأمينها” [د.يوسف إبراهيم يوسف: النفقات العامة في الإسلام، ص 295-296].

وأنشأت دولة الخلافة في الماضي طرقًا برية عديدة من اليمن إلى الشام، ومن مكة إلى البحرين مرورًا باليمامة، ومن مكة إلى حضرموت مرورًا بالسواحل، ومن بغداد إلى الصين مرورًا بسمرقند وتركستان، ومن الإسكندرية إلى المغرب [د. عبد الله محمد السيف: الحياة الاقتصادية والاجتماعية في نجد والحجاز في العصر الأموي، ص111-113]. كما اهتمت الدولة بسلامة العابرين وأمنهم على الطرقات. وكان أهل القرى، ورجال الدولة يكلَّفون أمن المارة أو السابلة.

رابعًا: الإنفاق على تأمين الكهرباء:

عرف العرب في الجاهلية جميع وسائل وطرق الإنارة التي كانت معروفة في عهدهم، وكانت أكثرها شيوعًا الإنارة بالزيوت، ثم بالشموع، والإنارة بالنفط (القطران)، والذي استخدمه الساسانيون في أطراف العراق.

وفي عصور الخلافة لم تتغير وسائل الإنارة. فالأسرجة كانت شائعة، وهي وعاء فيه زيت، وله فتيل، وكانت تنار به المساجد. أما شوارع المدن وأزقتها، فكانت تضاء من قبل السكان القاطنين على جنباتها، ثم شاع استخدام القناديل في المساجد، والبيوت الميسورة. وأول من أجرى للمسجد زيتًا وقناديل معاوية بن أبي سفيان [السيوطي: الوسائل في مسامرة الأوائل، ص36-37]. وأول من استصبح بين الصفا والمروة خالد بن عبد الله القسري في خلافة سليمان بن عبد الملك [السيوطي: الوسائل في مسامرة الأوائل، ص37].

أما في العصر الحالي، فإن الكهرباء يختلف واقعها عن واقع الأسرجة والقناديل؛ لأنها أصبحت تستعمل لغير الإنارة، ولتشغيل العديد من الآلات، والأدوات، والمصانع؛ فهي طاقة محركة، ولا يستغني عنها الناس في صيفٍ ولا شتاءٍ، وتوليدها يكلف مالًا كثيرًا، لا يقدر على تأمينه شخص بمفرده، بل تؤمنه الشركات الكبرى، أو الدول بإمكاناتها الضخمة. وينبغي لدولة الخلافة أن تشرف على هذا المرفق الحيوي، وتديره لتؤمن هذه الخدمة للناس بأدنى التكاليف، أو مجانًا. أما الشركات التي تسعى لتحقيق أقصى الأرباح، فإنها غير مأمونة على ذلك؛ لأنها تتصيد الفرص لابتزاز الناس، وتكديس الأرباح، ولا يهمها صرخة الفقير والمسكين، أو ذوي الدخل المحدود؛ فمن يدفع يزوَّد بالكهرباء، ومن لا يستطيع الدفع يبقى محرومًا. وعلى دولة الخلافة أن تختار الوجه المشرق العادل الذي ينبغي أن تظهر به لرعيتها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *