العدد 373 -

السنة الثانية والثلاثين – محرم 1439هـ – تشرين الثاني 2017م

أثر الإرادة السياسية على نهوض الدول، وطريقة الإسلام في اكتسابها (2)

بسم الله الرحمن الرحيم

أثر الإرادة السياسية على نهوض الدول، وطريقة الإسلام في اكتسابها (2)

لقد شرع الإسلام طريقة منهجية منضبطة بأحكامه يجب الالتزام بها حين العمل لاسترداد العزة المفقودة بإقامة دولة الخلافة الإسلامية، ولعل من مقتضيات ولوازم هذه الطريقة أن الإسلام قد وضع لها قواعد شرعية، تضبط العمل السياسي وتوجهه، وتحول دون انتكاسته وارتكاسته، ومن ثم تُحتم وصوله إلى غايته، وهذه القواعد هي:

  • وجوب وجود كتلة أو حزب سياسي يعمل للتغيير:

      ودليل ذلك قوله تعالى: (وَلۡتَكُن مِّنكُمۡ أُمَّةٞ يَدۡعُونَ إِلَى ٱلۡخَيۡرِ وَيَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِۚ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ١٠٤) [آل عمران/104]. فالآية فيها أمر جازم يفيد الوجوب بتكوين كتلة سياسية تقوم على أساس الإسلام وتدعو إليه، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؛ لأن الدعوة إلى الخير أي الإسلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من أبرز الأعمال السياسية وأهمها، هذا بالإضافة إلى أن النبي – صلوات ربي وسلامه عليه – كَوَّن كتلة من الصحابة في مكة المكرمة، مارست أعمال الدعوة وخاضت غمراتها بوصفها كتلة انضبطت في عملها السياسي وفق طريقة ثابتة ومنهجية منضبطة في السير.

  • السيادة للشرع.

      فإنه لا يُتصور بلوغ العمل السياسي غايته، من تحرر سياسي وعسكري واقتصادي وفكري وثقافي من ربقة الكافر المستعمر إلا بسيادة المبدأ الذي يعتنقه المجتمع المراد تغييره، وتحويله إلى مجتمع إسلامي يُحكم بالإسلام، يقول الحق تبارك وتعالى: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤۡمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيۡنَهُمۡ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَرَجٗا مِّمَّا قَضَيۡتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسۡلِيمٗا ٦٥ ) [النساء/65] إن أسلوب القسم المتبوع بـ ( لَا ) النافية للجنس في الآية الكريمة، ليدل دلالة قطعية محكمة على وجوب سيادة الشرع على كل ما سواه. جاء عند الشوكاني في تفسيرها: “فَإِنَّهُ أَوَّلًا أَقْسَمَ سُبْحَانَهُ بِنَفْسِهِ، مُؤَكِّدًا لِهَذَا الْقَسَمِ بِحَرْفِ النَّفْيِ بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، فَنَفَى عَنْهُمُ الْإِيمَانَ الَّذِي هُوَ رَأْسُ مَالِ صَالِحِي عِبَادِ اللَّهِ، حَتَّى تَحْصُلَ لَهُمْ غَايَةٌ هِيَ: تَحْكِيمُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ لَمْ يَكْتَفِ سُبْحَانَهُ بِذَلِكَ حَتَّى قَالَ: ( ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَرَجٗا مِّمَّا قَضَيۡتَ ) فَضَمَّ إِلَى التَّحْكِيمِ أَمْرًا آخَرَ، هُوَ عَدَمُ وُجُودِ حَرَجٍ، أَيْ حَرَجٍ فِي صُدُورِهِمْ، فَلَا يَكُونُ مُجَرَّدُ التَّحْكِيمِ وَالْإِذْعَانِ كَافِيًا حَتَّى يَكُونَ مِنْ صَمِيمِ الْقَلْبِ عَنْ رِضًا، وَاطْمِئْنَانٍ، وَانْثِلَاجِ قَلْبٍ، وَطِيبِ نَفْسٍ. ثُمَّ لَمْ يَكْتَفِ بِهَذَا كُلِّهِ، بَلْ ضَمَّ إِلَيْهِ قَوْلَهُ: (وَيُسَلِّمُواْ ) أَيْ: يُذْعِنُوا وَيَنْقَادُوا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، ثُمَّ لَمْ يَكْتَفِ بِذَلِكَ، بَلْ ضَمَّ إِلَيْهِ الْمَصْدَرَ الْمُؤَكِّدَ فَقَالَ: (تَسۡلِيمٗا) فَلَا يَثْبُتُ الْإِيمَانُ لِعَبْدٍ حَتَّى يَقَعَ مِنْهُ هَذَا التَّحْكِيمُ، وَلَا يَجِدَ الْحَرَجَ فِي صَدْرِهِ بِمَا قُضِيَ عَلَيْهِ، وَيُسَلِّمُ لِحُكْمِ اللَّهِ وَشَرْعِهِ، تَسْلِيمًا لَا يُخَالِطُهُ رَدٌّ وَلَا تَشُوبُهُ مُخَالَفَةٌ” [فتح القدير/ج 1 /ص 559]

      ويقول صاحب الظلال (رحمه الله): “وبهذا يبقى المنهج الرباني مهيمنًا على ما يطرأ على الحياة من مشكلات وأقضية كذلك، أبد الدهر، في حياة الأمة المسلمة. وتمثل هذه القاعدة نظامها الأساسي الذي لا تكون مؤمنة إلا به، ولا تكون مسلمة إلا بتحقيقه” [في ظلال القرآن: ج2/ ص 687].

      ونُردف الآيات  السابقة بحديث شريف زيادة في الإفادة. روى البخاري عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: “أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ المرْأَةِ المخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ، فَقَالُوا: وَمَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالُوا: وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ؟!، ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ، أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الحَدَّ، وَايْمُ اللَّهِ، لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا“”.

  • السلطان للأمة.

      وهل يمكن لأمة أن تسوس نفسها بنفسها إلا بامتلاكها سلطانها؟ وهل يمكن لحاكم أن يقرر ويمرر ما يقرر إلا باحتضان الأمة التي يحكمها له ورضاها عنه؟ إن الأمة هي صاحبة اليد الطولى في تنفيذ أحكام الإسلام، وما كان للخلافة الإسلامية أن تستمر كيانًا سياسيًا للمسلمين ثلاثة عشر قرنًا إلا بتنصيب الأمة لحكامها عن رضى واختيار، وما كان للخلافة أن تُهدم إلا عندما انفصم المسلمون عنها، واعتصموا بحبال الوطنية والقومية والشيوعية والعلمانية. فإيمان الأمة بالمبدأ، وشعورها بعدالته، ومن ثم سلطان الدولة التي بايعتها الأمة عن رضى واختيار، هذه الأمور الثلاثة مجتمعة تضمن تنفيذ المبدأ في معترك الحياة، والاستمرار في تنفيذه. روى البخاري: عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ: “بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي المنْشَطِ وَالمكْرَهِ، وَأَنْ لاَ نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ، وَأَنْ نَقُومَ أَوْ نَقُولَ بِالحَقِّ حَيْثُمَا كُنَّا، لاَ نَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لاَئِمٍ”.

  • طريقة الرسول، عليه الصلاة والسلام، في إقامة الدولة الإسلامية ملزمة وواجبة الاتباع.

      وهذا الاتباع يقع على عاتق الحزب السياسي المتلبِّس بالعمل لاستئناف الحياة الإسلامية؛ لأن هذه الطريقة ثابتة بالوحي لفظًا ومعنى، أي في القرآن والسنة، واتباع النبي، صلوات ربي وسلامه عليه، والتأسي به وطاعته من الأمور المعلومة من الدين بالضرورة، قال تعالى: ( قُلۡ إِن كُنتُمۡ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحۡبِبۡكُمُ ٱللَّهُ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ٣١ ) [آل عمران: 31] وقال سبحانه: ( وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَلَا تَنَٰزَعُواْ فَتَفۡشَلُواْ وَتَذۡهَبَ رِيحُكُمۡۖ وَٱصۡبِرُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّٰبِرِينَ ٤٦ ) [الأنفال: 46] وقال جل وعلا: ( لَّقَدۡ كَانَ لَكُمۡ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسۡوَةٌ حَسَنَةٞ لِّمَن كَانَ يَرۡجُواْ ٱللَّهَ وَٱلۡيَوۡمَ ٱلۡأٓخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيرٗا ٢١ ) [الأحزاب: 21].

      لقد بَيَّن النبي صلى الله عليه وسلم معالم هذه الطريقة وتفاصيلها في الفترة المكية، حيث البعثة وحمل الدعوة، حيث الصراع والكفاح والمناجزة الفكرية والسياسية وحسب… كل ذلك حدث وفق طريقة منهجية واضحة في معالمها، وبارزة في مراحلها، كل مرحلة تفضي إلى الأخرى. فكان تكوين الكتلة الهاضمة للفكرة ابتداء مرحلةً أولى، ثم كان الصدع والجهر بالدعوة وما صاحبها من صد ورد احتدم فيه الصراع بين الإسلام دين الله المتنزل على نبيه، عليه الصلاة والسلام، ودين قريش موروث الضلال، مرورًا ببحث النبي، عليه الصلاة والسلام، عن قبيلة تنصره وتمنعه مرحلةً ثانيةً، وصولًا إلى ارتكاز الإسلام في دولة عظيمة في المدينة المنورة مرحلةً ثالثةً وأخيرة .

  • انطباق وصف دار الكفر على مكة المكرمة إبان البعثة، وعلى واقع المسلمين اليوم تمامًا بتمام.

      وهذا أمر غاية في الأهمية، يترتب عليه حسن تحقيق مناط الحكم الشرعي المتعلق بالواقع المراد تغييره، فكما أن مكة المكرمة كانت دار كفر، أي تخضع لسيادة عقيدة كفر تُعيِّن للناس طريقة عبادتهم وطريقة عيشهم، كذلك المسلمون اليوم، يعيشون في دار كفر سادت فيه أحكام الكفر وتحكمت واستحكمت في جميع نواحي الحياة، وتعيَّنت بموجبها المفاهيم والمقاييس والقناعات التي حددت للمسلمين طراز عيشٍ نشاز اضطرب بحسبه سلوك المسلمين بعيدًا عن مفاهيم الإسلام ومقاييسه وقناعاته، حتى لم يبقَ من الإسلام إلا الورق المعلق، والفكر المدوَّن في بطون الكتب. ولعل من المظاهر التي تعكس وتؤكد انطباق وصف دار الكفر على بلاد المسلمين:

1 – خضوع كل بلاد المسلمين للاستعمار الغربي الكافر المباشر مطلع القرن الماضي، وبقاء هذا الاستعمار لعقود.

2 – تقسيم بلاد المسلمين ورسم حدود سياسية بينها صار لها اعتبارها وفق أجندات وبروتوكولات جعلت منها الدول الكبرى عرفًا سياسيًا من أجل الحفاظ عليها وإبقائها لإبقاء حالة الانقسام السياسي والقومي والعرقي والطائفي قائمة في بلاد المسلمين.

3 – تشكيل دول الكفر للنخب الحاكمة – الأنظمة الحاكمة – التي أُوكلت إليها مهمة الحكم بالكفر في بلاد المسلمين بعد الخروج الصوري للاستعمار منها.

4 – تشكيل الوسط السياسي المحيط بهذه الأنظمة من سياسيين ومفكرين وإعلاميين وعلماء وأحزاب أُشربت الولاء للكفر وأفكاره، وانضبعت ببريق حضارته، وتلونت بقشور مدنيته.

5 – تأسيس سياسة حربية لجيوش المسلمين قائمة على ثقافة قومية أو وطنية، أو خليط بين هذه وتلك، تجعل من الجيوش حارسة على حدود البلد ونظامه الحاكم فقط.

6 – الهيمنة على ثروات الأمة ومقدراتها، وذلك بتطبيق أفكار الاقتصاد الرأسمالي على المسلمين، من خصخصة وعولمة وسوق حر…

7 – إقصاء الثقافة الإسلامية عن المدارس والجامعات، وتكريس ثقافة الغرب الكافر مكانها، عبر مناهج دراسية محشُوَّة بالسموم.

8 – إلزام المسلمين بالعلمانية قصرًا وجبرًا عنهم، أو عن رضى واختيار من المضبوعين والظلاميين الذين شكلوا واجهة المشهد السياسي في بلاد المسلمين.

      إن الباعث على حُسن تحقيق مناط الحكم الشرعي المتعلق بواقع المسلمين الذي نريد تغييره، يكمن في أنه يضع اليد على مكمن الجرح، ويعيِّن أصل الداء، ويُبصِّر المسلمين والعاملين على الساحة الإسلامية بالطريقة الصحيحة لتغيير هذا الواقع الفاسد؛ من هنا ينبغي علينا، ونحن نسبر أغواره، أن نفرق بين أمرين اثنين:

الأول: إننا لا نتحدث اليوم عن اليوم التالي لهدم الدولة الإسلامية، أي ليس موضوعنا الساعة التي أُقصي فيها الإسلام عن الحكم، وظهر فيها الكفر البواح الذي يستوجب حمل السلاح على الحاكم الذي أظهر هذا الكفر بعد أن لم يكن موجودًا ولا ظاهرًا في بلاد المسلمين؛ وذلك عملًا بالحديث الشريف: “… فَقَالَ فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا: “أَنْ بَايَعَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا، وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا وَأَثَرَةً عَلَيْنَا، وَأَنْ لاَ نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ، إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا، عِنْدَكُمْ مِنَ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ” [صحيح البخاري]. فقد كان على المسلمين في صبيحة اليوم التالي لظهور الكفر البواح على يد مصطفى كمال – عليه من الله ما يستحقه – أن يحملوا عليه السلاح حملة رجل واحد، حتى يعيدوا الحكم بالإسلام ويمنعوا ظهور الكفر البواح، ومن ثم استحكامه شيئًا فشيئًا، ولكن هذا لم يحدث وللأسف! وبالتالي لم يعد حمل السلاح في وجه الحاكم هو الطريقة الشرعية لاسترداد سيادة الشرع وسلطان الأمة.

الثاني: بما أن الكفر البواح قد تعدَّى مرحلة الظهور الأولي له في بلاد المسلمين، إلى مراحل التحكم والاستحكام والتغلغل في كل نواحي حياتهم، فقد انطبق بذلك وصف دار الكفر تمامًا على الدار التي نعيش فيها اليوم ومنذ عقود، وقد عرف الفقهاء دار الكفر بأنها الدار التي تجري فيها أحكام الكفر حتى وإن كان جل أهلها من المسلمين. قال الإمام أبو يوسف صاحب أبي حنيفة: “تعتبر الدار دار إسلام بظهور أحكام الإسلام فيها، وإن كان جُلُّ أهلها من الكفار. وتعتبر الدار دار كفر لظهور أحكام الكفر فيها، وإن كان جل أهلها من المسلمين. [المبسوط للسرخسي ج 10/ ص 144]. ويقول الإمام ابن القيم: “دار الإسلام هي التي نزلها المسلمون، وجرت عليها أحكام الإسلام، وما لم يجرِ عليه أحكام الإسلام لم يكن دار إسلام وإن لاصقها”. [أحكام أهل الذمة ج1 /ص266] ويقول الإمام ابن مفلح: “فكل دار غلب عليها أحكام المسلمين فدار الإسلام، وإن غلب عليها أحكام الكفر فدار الكفر، ولا دار لغيرهما” [الآداب الشرعية / ج1 /ص213].

      إذاً، فالواقع الذي نعيش فيه واقع كفر، والدار التي نعيش فيها دار كفر، والأنظمة التي تحكم المسلمين أنظمة كفر، ولا سيادة للإسلام، ولا سلطان للمسلمين، ولا إرادة سياسية لهم لا على أنفسهم ولا على غيرهم من الأمم والشعوب. والطريقة الوحيدة لتحقيق ذلك كله في حسن التأسي والاتباع لرسول الله، صلوات ربي وسلامه عليه، في حمل الدعوة الإسلامية لاستئناف الحياة الإسلامية التي انقطعت وتوقفت بهدم دولة الخلافة في 28 رجب/1342ه، وذلك بدراسة طريقته، عليه الصلاة والسلام، في حمل الدعوة في مكة المكرمة – دار الكفر – والكيفية التي تم بها إيجاد دار الإسلام في المدينة المنورة، وإقامة الدولة الإسلامية فيها. وهذا فهم شرعي تبناه حزب التحرير، وأكد حسنَ الاستنباط وصدقَه الواقعُ نفسُه، أما الشرع، فإن طريقة حزب التحرير في التغيير مستنبطة من الأدلة التفصيلية – الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والقياس – ولم يظهر لا للحزب نفسه على مدى أكثر من ستة عقود، ولا للمسلمين الذين يعمل الحزب فيهم ومعهم خطأ هذه الطريقة، أو حتى ضعف في استنباطها. وأما الواقع نفسه، فقد أكدت الحوادث وتجارب العمل السياسي على الساحة الإسلامية خلال العقود الماضية، أكدت خطأ المناهج الأخرى وصدق منهج حزب التحرير في التغيير، وصحة طريقته. فعلى الرغم من وصول الحركات الإسلامية إلى الحكم في غير بلد من بلاد المسلمين، إلا أن صعودها لم يكن إلا ضِغثًا على إبالة، ولم يحقق للمسلمين سيادة ولا شيئًا من إرادة سياسية، وجبهة الإنقاذ في الجزائر، والإخوان المسلمون في مصر، وحزب النهضة في تونس، والعدالة والتنمية في المغرب وتركيا، كلها نماذج وتجارب أخفقت بشكل فاضح كلَّفَ الأمة الكثير والكثير مما كان بالإمكان تلافيه فيما لو توحَّدت الحركات الإسلامية على طريقة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في العمل السياسي .

      إن دقةَ العمل السياسي لاكتساب إرادة المسلمين السياسية، توجب على العاملين لاستردادها، والمسلمين معهم، بعد أن تبين للقاصي والداني صدق طريقة حزب التحرير في العمل، توجب عليهم إنزال الفكر على الواقع، أي ممارسة العمل السياسي وخوض غماره تأسيًا واتباعًا للنبي – صلى الله عليه وسلم – في الطريقة التي أوجد بها دار الإسلام ودولة الإسلام، دون حيدٍ قيد شعرة عنها. ونحن لا نتحدث اليوم عن تأسيس حزب سياسي وإيجاد نقطة انطلاق ينطلق منها، فقد انطلق حزب التحرير وتوسع وانتشر والحمد لله حتى بات القوة السياسية والفكرية الأولى الفاعلة للمسلمين عالميًا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *