العدد 370 -

السنة الثانية والثلاثون، ذو القعدة 1438هـ، الموافق آب 2017م

مدلول (لا إله إلا الله)

مدلول (لا إله إلا الله)

 

إن كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) هي أصل الإسلام، وأساس الشريعة والمنهاج، الإيمان بها تكليف واجب على كل إنسان، وبالنسبة للمسلم هي أول تكليف عليه، وبالتالي هي أصل وأساس كل التكاليف.

فـ (لا) هنا في (لا إله إلا الله) هي لا النافية للجنس، وهي حرف يدخل على الجملة الاسمية؛ فيعمل بها عمل (إنَّ). فمثلما أن (إنَّ) تؤكد الإثبات وتبالغ فيه؛ فإن (لا) تؤكد نفي ما بعدها وتبالغ فيه. و(لا) أيضًا تدل على نفي حكم الخبر عن جنس اسمها. واسم (لا) هنا هو (إله)، وهو جنس؛ لأنه نكرة في سياق النفي. أما خبرها فهو محذوف تقديره (معبود بحق) فيكون معنى اللفظ مع تقديره (لا إله معبود بحق إلا الله). وهذه الصيغة تحمل معنيين:

  • الإخبار بنفي العبودية الحقَّة عن كل ما عدا الله.

  • الإخبار بأن الله وحده هو المعبود بحق.

ووصف أنَّ الله وحده هو الإله المعبود بحق الوارد في كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) هو إخبار مطلوب منه التصديق الجازم؛ فهو واجب اعتقادي يكفر منكره. كما أن وصف الآلهة غير الله بأنها باطل الوارد في كلمة التوحيد، هي كذلك إخبار مطلوب فيه التصديق الجازم، فهو واجب اعتقادي يكفر منكره أيضًا. إذًا، فكلمة التوحيد (لا إله إلا الله) قد نطقت صراحة ملزمة بواجبين اعتقاديين هما:

  • وجوب الإيمان بالله وحده أنه الإله المعبود بحق.

  • وجوب الإيمان بأن كل الآلهة غيره باطلة.

وبالعودة إلى كلمة التوحيد مرة أخرى، نرى بعد التدقيق فيها أنها تضمنت ودلت على واجبين عمليين قد ارتبطا ارتباطًا وثيقًا بالواجبين الاعتقاديين الآنفين، بحيث إن الإقرار بالواجبين الاعتقاديين يفرض معه الإقرار بهذين الواجبين العمليين، وبحيث إن هذين الواجبين العمليين لا بد من امتثالهما مع امتثال الواجبين الاعتقاديين ليتم تحقيق كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) في واقع الحياة. فوصف الله بأنه الإله المعبود بحق هو من المدح، ووصف الآلهة الأخرى بأنها لا تستحق العبادة هو من الذم، والإخبار إن كان يتضمن مدحًا فهو طلب فعل، وإن كان يتضمن ذمًا فهو طلب ترك أي نهي، وعليه يكون المقصود بـ (إله) الوارد في كلمة التوحيد هو (معبود).

والذي يؤكد هذا المعنى هو أن لفظ (إله) في اللغة ليس له إلا معنى واحد هو المعبود، وليس له أي معنى شرعي غير ذلك. فـ (لا إله) معناها في اللغة وفي الشرع: لا معبود. ومن دلائل رحمة الله وإقامة حجته على الناس جميعًا هو حصر معنى الإله لغة وشرعًا بمعنى واحد وهو (المعبود) حتى لا تتعدد المعاني وتتعدد الأفهام،، وليكون المعنى قطعيًا، وليكون المعنى محكمًا، وكيف لا وهو كما قلنا: إن كلمة التوحيد هي أس الدين: اعتقادًا والتزامًا

 و(إلاّ الله) معناها في اللغة وفي الشرع: الذات الواجب الوجود، وهو الله. وعلى هذا فيكون المراد من الشهادة الأولى في الإسلام، ليس شهادة بوحدانية الخالق فحسب، كما يتوهم الكثيرون، وإنّما المراد من الشهادة هو أن يشهد أنه لا معبود إلاّ الله الواجب الوجود، حتى يُفرَد وحده بالعبادة والتقديس، وتُنفى نفيًا قاطعًا العبادة عن أي شيء غير الله.

ومن هنا كان الاعتراف بوجود الله غير كاف في الوحدانية، بل لا بد من وحدانية الخالق، ووحدانية المعبود، لأن معنى (لا إله إلاّ الله) هو لا معبود إلاّ الله. ولذلك كانت شهادة المسلم بأنه (لا إله إلاّ الله) ملزِمة له قطعًا بالعبادة لله، وملزِمة له بإفراد العبادة بالله وحده. فالتوحيد هو توحيد التقديس بالخالق، أي توحيد العبادة بالله الواحد الأحد.

فالتقديس في الإنسان فطري، ففي فطرة كل إنسان أن يعبد شيئًا، فالعبادة رَجْع طبيعي لغريزة التدين؛ ولذلك يشعر الإنسان حين يؤدي العبادة براحة وطمأنينة؛ لأنه في أدائه العبادة يكون قد أشبع غريزة التدين. إلاّ أن هذه العبادة لا يجوز أن تُترك للوجدان أن يقررها كما يتطلب، وأن يؤديها الإنسان كما يتخيل، بل لا بد أن يشترك العقل مع الوجدان لتعيين الشيء الذي يجب أن يُعبد؛ لأن الوجدان عُرضة للخطأ، ومدعاة للضلال. وكثيرًا ما يدفع الوجدان الإنسان لعبادة أشياء يجب أن تحطَّم، وكثيرًا ما يدفع لتقديس أشياء يجب أن تُحتقر. فإذا تُرك الوجدان وحده يقرر ما يعبده الإنسان، أدى ذلك إلى الضلال في عبادة غير الخالق، أو إلى الخرافات في التقرب إلى الخالق بما يُبعِد عنه.

ولذلك لا يجوز أن يقوم الإنسان بالرجع الذي تتطلبه الغريزة، إلاّ مع استعمال العقل، أي لا يجوز أن يقوم بأعمال بناء على دافع الوجدان وحده، بل لا بد من استعمال العقل مع الوجدان. ومن هنا كان لا بد أن يكون التقديس مبنيًا على التفكير مع الوجدان؛ لأنه رجع لغريزة التدين، فلا يجوز أن يحصل هذا الرجع دون تفكير؛ لأنه قد يؤدي إلى الضلال أو الخطأ. فوجب أن لا يُحدث الإنسان هذا الرجع لغريزة التدين إلاّ بعد التفكير، أي إلا باستعمال العقل. ولذلك لا يجوز أن تكون عبادة إلاّ وفق ما يرشد إليه العقل، حتى تكون هذه العبادة لمن تهدي الفطرة لعبادته، وهو الخالق المدبر الذي يشعر الإنسان أنه محتاج إليه.

والعقل يحتم أن لا تكون العبادة إلاّ للخالق لأنه هو الأزلي، وهو واجب الوجود؛ فلا يجوز أن تكون العبادة لغيره؛ فهو الذي خلق الإنسان والكون والحياة، وهو المتصف بصفات الكمال المطلق. فإذا اعتقد الإنسان بوجوده فيتحتم أن يعبده، ويتحتم أن تكون العبادة له وحده. فالإقرار بكونه خالقًا، فطريًا وعقليًا، يحتم على المــُــقِر أن يعبده؛ لأن العبادة رجع لشعوره بوجوده، وهي أعظم مظهر من مظاهر الشكر التي يجب أن يقوم بها المخلوق لمن أنعم عليه بنعمة الخلق والإيجاد. فالفطرة تحتم العبادة، والعقل يحتم العبادة. والفطرة تحتم أن تكون هذه العبادة لهذا الخالق وحده دون غيره، والعقل يحتم أن يكون الذي يستحق العبادة والشكر والثناء هو الخالق وحده دون سواه؛ ولذلك نجد الذين استسلموا للوجدان وحده في إحداث رجع التقديس دون أن يستعملوا العقل، ضلّوا، فعبدوا معبودات متعددة مع اعترافهم بوجود الخالق الواجب الوجود، ومع اعترافهم بأن هذا الخالق واحد. ولكنهم حين أحدثوا رجع التدين، قدّسوا الخالق، وقدّسوا معه غيره، فعبدوا الخالق، وعبدوا المخلوقات، إما باعتبارها آلهة تستحق العبادة لذاتها، وإما ظنًا منهم أن الخالق حلّ بها، أو أنه يرضى بالتقرب إليه في عبادتها

فالفطرة تحتم وجود الخالق، ولكن رجع التقديس الذي يتحتم إحداثه حين يحصل ما يحرك مشاعر التدين يؤدي إلى جعل التقديس لكل ما يُظن فيه أنه المستحق للعبادة، إما لكونه خالقًا، أو لتصور رضا الخالق بتقديسه، أو للظن بأنه حلّ به. فيؤدي ذلك إلى تعدد المعبودات، مع وحدة الخالق. ولذلك جاء ظن التعدد متجهًا نحو المعبود، لا نحو الخالق، فكان النفي للتعدد يجب أن يكون نفيًا للمعبودات، وحصرًا للعبادة بالخالق الأزلي الذات، الواجب الوجود.

ولذلك جاء الإسلام مبينًا لبني الإنسان كلهم، أن العبادة لا تكون إلاّ للذات الواجب الوجود، وهو الله سبحانه وتعالى، وشارحًا هذا البيان بطريق عقلي صريح. فسألهم عن الأشياء التي يجب أن يقوم بها المعبود، فأجابوا أنه هو الله، وألزموا أنفسهم الحجة، قال تعالى في سورة المؤمنين:( قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (84)سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ۚ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ۚ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ۚ قُلْ فَأَنَّىٰ تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْنَاهُم بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَٰهٍ ۚ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَٰهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۚ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ). فباعترافهم هذا من أن الله هو خالق كل شيء، وبيده ملكوت كل شيء، فقد ألزموا أنفسهم بعبوديته وحده، لأنه حسب اعترافهم هو وحده المستحق للعبادة. وقد بيَّن لهم في آية أخرى أن غير الله لا يفعل شيئًا يستحق العبادة، فقال: ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَىٰ قُلُوبِكُم مَّنْ إِلَٰهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِهِ ۗ  )، وقال: ( أَمْ لَهُمْ إِلَٰهٌ غَيْرُ اللَّهِ ۚ  ). وقد أكد الله في القرآن وحدانية المعبود في آيات كثيرة، أكد فيها توحيد الإله، فقال: ( وَإِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ) ( اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ) ( وَمَا مِنْ إِلَٰهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) أي ما من معبود إلاّ الذات الواجب الوجود، وهو الله الواحد، وقال: (وَمَا مِنْ إِلَٰهٍ إِلَّا إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۚ  ) أي ما من معبود إلاّ معبود واحد.

فالإسلام جاء بتوحيد العبادة بالذات الواجبة الوجود، الذي يحتم العقل والفطرة وجودها وهو الله. والآيات القرآنية تدل دلالة صريحة في نفي تعدد الآلهة، (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ۚ  ) أي جاءت الآيات في نفي تعدد المعبودات، وفي حصر العبادة بالإله الواحد وهو الله، أي جاءت بأن المعبود واحد هو الذات الواجب الوجود.

هناك كثيرون على وجه الأرض، ولا سيما في العالم الغربي، يعتقدون بالله ويؤمنون به، ولكن اعتقادهم وإيمانهم مبني على أن الله فكرة وليس حقيقة. وهؤلاء يرون أن الإيمان بوجود “إله” إيمان بوجود فكرة الألوهية، وهي فكرة يقولون عنها إنها جميلة!! لأنه ما دام الإنسان يتخيلها، ويعتقد بها، ويخضع لسلطانها، فهو يبتعد عن الشر ويقترب من الخير بدافع هذه الفكرة. فهي رادع داخلي يفعل أكثر مما يفعله الدافع الخارجي. ولذلك يرون أنه يجب الإيمان بالله، ويجب تشجيع الإيمان به، حتى يظل الناس خيّرين مدفوعين إلى الخير بدافع داخلي يسمونه “الوازع الديني”!!..

وهؤلاء ما أسهل ما يجرون إلى الإلحاد، وما أقرب ما يرتدون عن إيمانهم هذا بمجرد أن يندفع العقل بالتفكير للمس وجود هذه “الفكرة”. فإذا لم يلمس وجودها، ولم يدرك لهذا الوجود أثرًا، جحد وجود إله وكفر بالله. وفوق هذا، فإن الإيمان بأن الله عند هؤلاء فكرة وليس حقيقة يجعل الخير أيضًا فكرة وليس حقيقة، ويجعل الشر أيضًا فكرة وليس حقيقة، فيقوم الإنسان بالأعمال بقدر ما يتخيل فيها من فكرة الخير، ويبتعد عنها بقدر ما يتخيل فيها من فكرة الشر.

والذى أدى بهؤلاء إلى هذا النوع من الإيمان هو أنهم لم يستعملوا العقل في الوصول إلى الإيمان بالله، ولم يهتدوا لحل العقدة الكبرى الناشئة من الأسئلة الطبيعية عن الكون والإنسان والحياة، وعما قبل الحياة الدنيا وعما بعدها، وعن علاقتها بما قبلها وما بعدها، حلًا عقليًا، وإنما لُقّنوا الحل الذي يريده ملقّنهم، فسلّموا بهذا الحل وظلوا مؤمنين دون أن يدركوا حسًا وجود الذي آمنوا به. وكثير منهم من كان يحاول أن يستعمل عقله فيجاب أن الدين فوق العقل ويُجبَر على السكوت!.

والصواب أن الله حقيقة وليس فكرة، وأن وجوده ملموس محسوس، وإن كانت ذاته يستحيل إدراكها. فالإنسان قد أدرك المخلوقات بحسه وعقله، وأدرك من الإحساس بها وجود خالق لها قطعًا. فوجود الخالق حقيقة قد لمس الإنسان وجودها بالحس وليس فكرة تخيلها الإنسان في ذهنه؛ لذلك كان الغرب وكل من يؤمن بأن الإيمان بالله هو فكرة جميلة تعود بالخير على صاحبها، ولم تكن عنده حقيقة قد تلمَّسَ وجودها، إنما يقوم بنيانه على أساس متهاوٍ سرعان ما ينخسف به.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *