العدد 370 -

السنة الثانية والثلاثون، ذو القعدة 1438هـ، الموافق آب 2017م

لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب: سيدنا يوسف عليه السلام

لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب: سيدنا يوسف عليه السلام

 

حمد طبيب – بيت المقدس

ما أشبه حال حملة الدعوة اليوم، وهم يعملون بكل حزم وعزم لإعادة حكم الله في الأرض، بحال الأنبياء والرسل عليهم السلام، ومن تبعهم على دينهم وسار معهم؛ حيث لاقَوا الأذى والشدة والضيق الشديد، ولاقَوا كذلك التكذيب والإعراض والصدّ والردّ عن دين الله عز وجل، ولاقى بعضٌ منهم القتل والاستئصال؛ وذلك كما حصل مع بعض أنبياء بني إسرائيل كزكريّا ويحيى عليهما السلام، قال تعالى: (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِّنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ ) آل عمران 112؛ ولكن كل ذلك لم يثنهم عن دعوتهم، ولم يوقف مسيرتهم النورانية الهادية المستقيمة نحو هدفهم السامي العظيم، ولم يفتَّ من عضدهم وعملهم المتواصل الدؤوب، ولم يُفتر عزيمتهم الوقَّادة، بل ظلوا سائرين – في هدفهم – إلى مرضاة الله عز وجل؛ متجاوزين كل الصعاب، ومتخطين كل العقبات، ومتحملين كل صنوف الأذى والعذاب والاضطهاد… حتى نصرهم الله عز وجل على أعدائهم، ومكّن لهم في الأرض واستخلفهم فيها، وجعل لهم العزة والرفعة بعد الذل والاستضعاف؛ فصدق فيهم قوله عز وجل: ( إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ) غافر 51،  وقوله: ( وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5)  وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ) القصص 6.

وفي هذا الموضوع نريد أن نقف عند واحدة من هذا القصص العظيم في الثبات والصبر واليقين بالله عز وجل، وبنصره ونصرته، رغم الشدة والابتلاء الشديد في الغربة والبعد عن الأهل والديار. إنها قصة نبي الله يوسف (عليه السلام) الصادق الأمين، العفيف، الصابر على الشدائد والبلاء… وقبل أن نذكر هذه القصة العظيمة والدروس والعبر فيها نقول: إن الأنبياء جميعًا هم حملة أمانة وحي السماء؛ فهم المبلِّغون عن ربهم عز وجل، وهم القدوة والأسوة الحسنة، وخاصة في موضوع الدعوة إلى الله، والصبر والثبات عليها، قال تعالى: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ ۚ ) الأحقاف 35.  (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ ۖ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) قَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ ۚ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6)) الممتحنة 6. وقال في آخر قصة يوسف عليه السلام: ( لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ ۗ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) يوسف 111. فالصبر والثبات، وحمل الرسالة وأداؤها بصدق وعزم وإخلاص، هو أمر واحدٌ- عند كل الأنبياء وأتباعهم ممن ساروا على نفس الطريق – لا اختلاف فيه؛ فقد ثبت وصبر أنبياء الله، من عهد نوح عليه السلام، إلى عهد محمد صل الله عليه وسلم، على أداء الرسالة وتبليغها بحقّ وصدق، وإن حملة الرسالة أيضًا – من أتباع هؤلاء الرسل، ممن ناصروهم وساروا معهم – قد ساروا على نفس النهج الذي سار عليه أنبياؤهم، فنصرهم الله وأيدهم بروح منه. فهؤلاء أتباع موسى عليه السلام من بني إسرائيل، ممن اتبعوا رسالته دون تحريف ولا تبديل، قد نصرهم الله عز وجل على عدوهم، وثبتهم ومكّن لهم في الأرض… وهؤلاء أتباع عيسى عليه السلام، من الحواريين، قد ثبتهم  الله عز وجل وأيدهم بنصره ونصرته… وهؤلاء أصحاب الكهف من أتباع النصرانية الصحيحة، قد ثبتوا على الحق ولم يغيروا ولم يبدلوا، فنصرهم الله تعالى وأيدهم وصرف كيد أعدائهم عنهم… وهؤلاء أيضًا أتباع هذا النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم قد نصرهم الله عز وجل وثبَّتهم، ومكَّن لهم في الأرض في جميع المراحل التي مروا بها بعد وفاة الرسول الكريم، تمامًا كما نصر نبيهم، عليه الصلاة والسلام، ورسالته … وما زالت هذه السُنَّة الربانية العظيمة قائمة لا تتبدَّل ولا تتحَّول حتى يرث الله الأرض ومن عليها قال تعالى: (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62)) الأحزاب 62.

  أما ما يتعلق بهذه القصة العظيمة، قصة يوسف (عليه السلام)، فلا نريد أن نفصّل في أحداث هذه القصة ومجرياتها، ولكن نريد أن نقف عند دروس وعبرٍ تتعلق بحمل الدعوة والثبات على المبدأ، وعلى الخطى العملية التي سار فيها يوسف عليه السلام، من بداية الابتلاءات والمحن والشدائد، حتى تمَّ له التمكين في الأرض؛ لتكون هذه الرحلة الإيمانية نورًا نستضيء به في حملنا للأمانة العظيمة لاستئناف الحياة الإسلامية… وسنقف على دروس  وعبر هذه القصة العظيمة من عدة زوايا هي:

  1- الإيمان الراسخ الثابت عند سيدنا يوسف عليه السلام، وعمله الدؤوب في إيصال هذا الإيمان إلى كل الناس وحرصه على ذلك… وكيف نتمثل هذا النهج كحملة دعوة لإقامة الحكم بما أنزل الله، وكيف نرغِّب الناس بهذه الفكرة والسير في طريق العمل لها.

 2- تحمل الأذى وكافة صنوف التعذيب والتضييق، والإصرار على التزام طريق الله عز وجل الهادي المستقيم، وعدم الانجرار وراء مغريات الحياة الدنيا وشهواتها وبهارجها الزائفة الزائلة.

3- الثقة بالله سبحانه وتعالى وبوعده ونصره ونصرته، النابع من إيمان سيدنا يوسف (عليه السلام) وكيف نتمثل نحن حملة الدعوة إلى الله – هذه الأيام – طريق هذا النبي الكريم، الثابت الصابر، في ثقته العظيمة بالله، وبأنه ناصره ومؤيده، بأن الله سينصرنا رغم الشدائد، وسيزيل كل هذه الشدائد والكربات من طريقنا.

4- العاقبة العظيمة والجزاء الأوفى لنبي الله يوسف (عليه السلام) بسبب الإيمان الراسخ، والثقة بوعد الله، وسبب التزامه المنهج الإيماني أمام المغريات، وأمام الصد والتعذيب ومحاولات ثنيه عن طريقه.

أما ما يتعلق بالأمر الأول؛ فقد حرص يوسف (عليه السلام) على التزام منهج الإيمان في كل مراحل حياته، وفي كافة الأحداث التي اعترضته، حتى داخل السجن، وهو في أشد الظروف ابتلاء وقسوة. فقد وجد في بيئة موبوءة بعبادة الأوثان وتقديسها، وإعطاء الولاء المطلق لسدنتها، من الكهان… لكن يوسف (عليه السلام)، رغم غربته ووحدته وبعده عن الأهل والأنصار، أبى أن يحني هامته لتلك الأوثان، وأبى أن يسير مع ذلك التيار المشرك بربه عز وجل. وهذا الأمر ليس سهلًا، وخاصة في ظروف كهذه الظروف الصعبة؛ ولكنه الإيمان والثبات عليه… الإيمان الذي يضع مرضاة الله عز وجل في كفة، وسخط العالمين وعدم رضاهم في الكفة المقابلة. وفوق ذلك كان (عليه السلام) يتصدَّى ويبيِّن زيف هذه الأوثان، كلما سنحت الفرصة بذلك؛ كما فعل مع الفتية داخل السجن؛ حيث خاطبهم فقال: (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ ۚ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۚ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40)) يوسف

وفي هذا درس وعبرة لحملة الدعوة هذه الأيام، في الثبات على الإيمان – وسط غربة هي أشد من الغربة التي لاقاها الرعيل الأول من أمة الإسلام – ووسط تيارات جارفة يصنعها الاستعمار وعملاؤه من الحكام، ووسط تأويلات وتبريرات من علماء السوء، ووسط تيارات إسلامية تدّعي لنفسها الفهم للإسلام وتُضلّل الناس بذلك، وتُسخّر طاقات الأمة – كذبًا وزورًا – في خدمة عملاء الاستعمار من الحكام، وفي تثبيت كراسيّهم الزائفة الظالمة. ففي وسط هذه الأجواء المشحونة، ووسط الضلال والزيف، يقف حملة الإيمان الراسخ (من حملة الدعوة) بثبات وطمأنينة؛ لا يلتفتون يمينًا ولا شمالًا، وإنما يسيرون إلى الأمام في خط مستقيم، يرفعون رؤوسهم إلى أعلى، إلى الله عز وجل ومرضاته.

ففي مصر الكنانة، حاول من يدعون السير في طريق التغيير على أساس الإسلام، أن يحرفوا البوصلة عن مسارها واتجاهها المستقيم نحو الديمقراطية الزائفة المضللة، ونحو تطويع الإسلام لقبول القوانين الدولية الكافرة، ونحو الاعتراف بسطوة أميركا وكيان اليهود ومنظوماتهم الدولية، ونحو مشاركات تحت مظلة مؤسسات قائمة على الكفر والضلال، مثل مجلس الشعب وغيره من مؤسسات…

وفي تونس أيضًا، التفّ الكفار على نقمة الشعب الثائر، وتطلعاته لتطبيق الإسلام؛ وذلك بحرف الاتجاه بواسطة (حركة النهضة الإسلامية)؛ فصارت تؤوّل تأويلات ما أنزل الله بها من سلطان، وتُدخل في الإسلام ما ليس منه؛ مثل الديمقراطية والحرية .. وتُدخل في الأحكام ما ليس منها؛ مثل السماح ببيع الخمور في الأماكن العامة، والسماح بلبس أزياء الكفر في الأماكن السياحية؛ مثل لباس البحر الغربي؛ حتى وصل الأمر بهم إلى (فصل الدين عن السياسة) إرضاءً للكفار ومشاريعهم المضللة في بلاد المسلمين… وكان حملة الدعوة في كلتا الحالتين؛ يقفون وسط الجموع وفي المنابر، ووسائل الإعلام المتاحة؛ يقولون بأعلى صوتهم: ليس هذا من الإسلام، ولا من جنسه؛ والإسلام بريء من برامج الكفار، ومن مشاريعهم السياسية التضليلية .. وفي نفس الوقت يبيّنون للناس طريق الإسلام الصحيح الذي سار فيه الأنبياء، وسار فيه رسولنا عليه الصلاة والسلام وصحابته، غير مبالين بما يقع من صَدٍّ ورَدٍّ؛ من أبواق الأنظمة ومن الجماعات الإسلامية التي رضيت لنفسها ما رضيت، مما ليس من الإسلام!!..

أما الأمر الثاني؛ فهو (تحمل الأذى) في سبيل حمل الحق والثبات عليه ؛ فلا يترك أتباع الباطل -على مر العصور –  أتباع الحق والهداية يمضون في طريقهم بطمأنينة وأمان، بل إنهم يقفون في وجه الحق؛ يصدون عن سبيل الله من آمن يبغونها عوجًا وضلالًا وانحرافًا .. وهذا ما حصل بالفعل مع سيدنا يوسف (عليه السلام)؛ عندما وقف عزيز مصر في بداية الأمر مع الباطل وأنصاره، وأودع يوسف (عليه السلام) السجن، رغم أن يوسف عليه السلام قد سار في طريق الاستقامة، ورفض السير حسب رغبات سيدة القصر (امرأة العزيز)، وأيقن العزيز هذه الحقيقة تمامًا؛ أي أيقن براءة يوسف عليه السلام من التهمة الملفقة المزيفة. ورغم كل ذلك أودع يوسف (عليه السلام) السجن، وبدأت مع ذلك رحلة المعاناة والقسوة والشدائد… فهل انحرف يوسف (عليه السلام) عن مبدئه، أم أنه ظلّ ثابتًا صابرًا؛ يتحمل الأذى في سبيل الحق، موقنًا بأن الله سبحانه سينصره ولو بعد حين؟!. لقد ثبت يوسف عليه السلام على أحكام دينه، ورفض الشهوات ومغريات الحياة الدنيا، وآثر السجن على كل ذلك..

وهكذا الأمر يجب أن يكون، مع كل حاملٍ للحق، في أي وقت وحين… فان ثمن الاستقامة والثبات عليها كبير؛ وخاصة أن حملة الدعوة يعيشون هذه الأيام في ظل أحوال قاتمة؛ من سيطرة الكفار وتفوق قوتهم، ومن إنفاقهم للأموال في كل اتجاه. يقول الحق تعالى في وصف مكر الكفار وحربهم على الإسلام وأهله: ( وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ) إبراهيم 46  

فحملة الدعوة في هذا الزمان لا يجدون الطريق مفروشًا بالورود، فالطريق صعب كأداء، وشاقةُ ووعرة، ومليئة بالأذى الشديد والصد عن سبيل الله؛ سواء كان ذلك عن طريق الدول العملاقة وطاقاتها الكبيرة؛ كما تفعل أميركا في حربها على حملة الحق تحت ذريعة (الحرب على الإرهاب)، أو كما يفعل عملاؤها من الحكام؛ ممن يأتمرون بأمرها ونهيها، لا يعصون لها من ذلك شيئًا، ويفعلون لها ما يؤمرون. وكما هو حال الكثير من المفكرين والعلماء المضبوعين بالحكام عملاء الدول الكافرة… وغير ذلك من حملة لواء الباطل. فمن يقتفِ طريق الحق، ويتخذ من سيرة الأنبياء أسوة حسنة، فإنه لا يلتفت إلى كل ذلك؛ لأنه يعلم يقينًا أن هذا هو الباطل الذي سيبطله الله، إن عاجلًا أو آجلًا. وإن ما يحمله هو الحق، وسيظهره الله بعزته وقوته، إن عاجلًا أو آجلًا، قال تعالى: ( لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ) الأنفال 8.  

أما الأمر الثالث؛ فهو الثقة المطلقة بوعد الله عز وجل، والثقة بأن هذا الوعد سوف يتحقق قريبًا. وهذه المسألة؛ (الثقة بالله عز وجل) قد تحققت وترسّخت في نفسية يوسف عليه السلام بصورة إيمانية عالية، وكان ينتظر وعد الله ويرقبه كل لحظة، بنفسية آمنة مطمئنة، كلها ثقة بأن الوعد الرباني آتٍ لا محالة… وهكذا يجب أن تكون نفسية حامل الدعوة وعقليته، كلها ثقة وطمأنينة بأن وعد الله عز وجلّ بالنصر والتمكين والاستخلاف سيتحقق حتمًا؛ إن عاجلًا أو آجلًا.. وإن  الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، بفضل الله، تتحقق خطواتها في أرض الواقع؛ شيئًا فشيئًا نحو الهدف العظيم؛ وهو إعلانها بشكل سافر صريح في يوم قريب، وليس بعيدًا ..

إن حامل الدعوة عندما يقتفي سيرة الأنبياء، كسيرة يوسف الصديق عليه السلام، في حمله للدعوة؛ فإنه ينظر إلى الأحداث التي تمر بها الدعوة، سواء أكانت إقليمية تحدث داخل العالم الإسلامي، أم في المنطقة المحيطة، فإنه ينظر بعين الثقة بأن هذه الأحداث كلَّها تصب في طريق الخير، وأنها تقرّبُ حملة الدعوة من الهدف المنشود، وهذا بعكس من ينظرون للأحداث بعين الريب والشك والحسابات المادية، والمصلحية والمنافع الآنية المؤقتة، وعدم الإيمان؛ وبالحسابات المبنية على نظرة الواقع الضيقة… فالثقة عند الرسل والأنبياء مطلقة بتأييد الله عز وجل، وإن ما عند الله هو آتٍ قريبًا لا محالة  ..

أما الأمر الأخير في هذا الموضوع؛ فهو (العاقبة والجزاء الأوفى)؛ في الدار الدنيا قبل الآخرة. وهذا ما كان بالفعل لسيدنا يوسف عليه السلام بعد سنوات من الشدة والقسوة والضيق والسجن؛ فقد جاء أمر الله عظيمًا، ليس فقط ببيان الحق، وإنما أيضًا بانتصار الفكرة التي كافح وناضل سيدنا يوسف من أجلها، وصبر على أذى أعدائها؛ فقد كانت العاقبة للمتقين. كانت لسيدنا يوسف عليه السلام في بيئةٍ موبوءةٍ بعبادة الأوثان سنواتٍ طويلة، في بيئة محاطةٍ بالعداء لفكرة الإيمان… إن العاقبة لصاحب الحق، والصبر عليه، لسيدنا يوسف عليه السلام، قد جاءت في أشد الظروف قسوةً، جاءت ويوسف عليه السلام ما زال في السجن لم يخرج منه بعد، قال تعالى: ( وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي ۖ فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ ) يوسف 54. لقد مكَّن الله عز وجل ليوسف في الأرض، ونصره، ونصر فكرته، وجعله عالي المقام في دار الدنيا قال تعالى: (قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ ۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) كَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ ۚ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاءُ ۖ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57)) يوسف 57. وصار يوسف عليه السلام في مركز القيادة؛ ينشر دين التوحيد في أرض مصر؛ (يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ ۚ ).

إن العاقبة كذلك ستأتي لحملة الدعوة – بإذن الله-  قريبًا؛ تمامًا كما جاءت لسيدنا يوسف عليه السلام؛ بعد إيمان وصبر واحتساب، ومواظبة على الحق؛ دونما كلل ولا ملل، فكان الجزاء الأوفى له في الدنيا قبل الآخرة… وهكذا فإن حملة الدعوة اليوم لإعادة حكم الإسلام؛ قد آمنوا إيمانًا راسخاً بأن الإسلام هو الحق أمام النظم السقيمة العقيمة والمبادئ الهابطة الوضعية؛ (النظام الاشتراكي والنظام الرأسمالي الديمقراطي)، وأيقنوا كذلك بناء على هذا الإيمان الراسخ الثابت أن هذه النظم الممتدة في كل العالم الإسلامي إنما هي نظمٌ سقيمة عقيمة، مبنية على أسس واهيةٍ، ومرتبطةٍ بالنظم الاستعمارية العالمية، وأخذوا يعملون لتغيير هذا الواقع بكل ما أوتوا من طاقات وإمكانات؛ يحدوهم الإيمان الراسخ، وينطلقون من قاعدته المتينة، موقنين بوعد الله عز وجل، لا يخالجهم في ذلك أدنى ريب وشك. أما كيف يتحقق هذا الوعد وأين ومتى؟. فإن تقدير ذلك كله بيد الله وحده… فهو الذي يحكم بعلمه وحكمته وقدرته: متى يكون ذلك؟ وكيف؟ وأين؟ وإذا حكم رب العزة جل جلاله في هذا الأمر فإنه يهيئ له أسبابه وظروفه الطيبة التي تساعد حملة الدعوة لتحقيق هذا الأمر الجلل.

والحقيقة، إن من ينظر في الواقع يرى أن الأحداث وتقلُّب الأيام والسنين يقرب حملة الدعوة من هدفهم في كل يوم. فقد انهارت الأفكار الواهية، وأصبح أهلها ينبذونها، وانكشف عُوار هذه الأنظمة المتربعة فوق رقاب المسلمين، في مشارق الأرض ومغاربها، ثم جاءت هذه الثورات كردة فعل غاضبة على ظلم الحكام، وتسلطهم وغطرستهم؛ فانبرى لها كل قوى الكفر ومن سار معهم من أعوانهم الحكام. والسبب هو أن الناس صاروا يطالبون بتطبيق نظام الإسلام، والتخلص من عملاء الاستعمار السياسيين… وفي ظل هذا وذاك صار العالم يشهد أحداثًا عظيمة؛ تتمثل بالانقلاب الفكري عند أصحاب المبدأ الرأسمالي العفن المهترئ، وتتمثل بالمظاهرات والمسيرات الضخمة التي تجوب شوارعهم في أرقى العواصم الأميركية والأوروبية؛ تطالب بإسقاط هذا النظام، وخاصة في الجانب الاقتصادي. وفي نفس الوقت، ومع مواكبة هذه الأحداث الجسام العظام، أصبحنا نسمع ونقرأ عن آلاف كثيرة في بلاد الغرب، تعلن إسلامها في كل عام. ففي دولة مثل أميركا يعلن ما يقارب العشرين ألفًا إسلامهم في كل عام!!. ولا نبالغ إذا قلنا إن العالم جميعًا اليوم، وليس فقط أمة الإسلام، يقف على أبواب الخير العميم الذي انقطع نوره وريحه الطيبة منذ سنوات؛ فابتعدت بعده العزة عن بلاد المسلمين.

إن العالم على أبواب عودة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة التي يرضى عنها ساكن الأرض وخالق  السماوات والأرض، فلا تبقي الأرض (في ظلها) خيرًا إلا أخرجته، ولا تبقي السماء قطرًا إلا أنزلته.

نسأله تعالى أن يظلنا بظلها، وأن يجعلنا من بُناتها وشهودها وجنودها.آمين يا رب العالمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *