العدد 366-367 -

السنة الواحدة والثلاثون – رجب / شعبان 1438 هـ – نيسان / أيار 2017 م

أين علماء المسلمين من ميثاق ربهم تجاه قضايا الأمة، وتحديدًا إقامة الحكم بما أنزل الله؟

أين علماء المسلمين من ميثاق ربهم

تجاه قضايا الأمة،

وتحديدًا إقامة الحكم بما أنزل الله؟

بقلم: الشيخ عصام عميرة

إمام مسجد الرحمن وخطيبه

بيت صفافا/بيت المقدس

فلسطين الأسيرة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد

قال تعالى: ( ٱلَّذِينَ إِن مَّكَّنَّٰهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ أَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَمَرُواْ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَنَهَوۡاْ عَنِ ٱلۡمُنكَرِۗ وَلِلَّهِ عَٰقِبَةُ ٱلۡأُمُورِ ٤١)[1].

أيها العلماء الأكارم: نحييكم بتحية الإسلام، فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،

قال الله تعالى‏:‏ (قُلۡ هَلۡ يَسۡتَوِي ٱلَّذِينَ يَعۡلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَ )[2]،‏ وقال تعالى‏:‏ (يَرۡفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ دَرَجَٰتٖۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ)[3]، قال ابن عباس رضى الله عنهما‏:‏ للعلماء درجات فوق المؤمنين بسبعمائة درجة، ما بين الدرجتين مسيرة خمسمائة عام[4]، وقال تعالى‏:‏ ( إِنَّمَا يَخۡشَى ٱللَّهَ مِنۡ عِبَادِهِ ٱلۡعُلَمَٰٓؤُاْ )[5]، وفى الحديث:‏ «فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر»[6]، وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم‏:‏ «من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له طريقًا إلى الجنة»[7]. وعن أبى موسى رضى الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم‏:‏ «إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم، كمثل غيث أصاب أرضًا، فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من َفقُه فى دين الله ونفعه الله بما بعثنى به فعلم وعلَّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا، ولم يقبل هدى الله الذى أرسلت به»[8]. وإن الفقهاء أولي الفهم، كمثل البقاع التي قبلت الماء فأنبتت الكلأ، لأنهم علموا وفهموا، وفرعوا وعلَّموا‏.‏ وأما الناقلون من المحدثين الذين لم يرزقوا الفقه والفهم، فهم كمثل الأجادب التي حفظت الماء، حفظوا ما سمعوا عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم فانتُفع بما عندهم، وأما الذين سمعوا ولم يتعلموا ولم يحفظوا، فهم العوام الجهلة‏.‏ وقال الحسن رحمه الله‏:‏ لولا العلماء لصار الناس مثل البهائم‏[9].

أيها السادة العلماء: إننا نقدر لكم علمكم، ونقدّر أهمية مواقعكم في المجتمع وخطورتها، ونثمن لكم اجتهاداتكم في كثير من القضايا المعاصرة وأبحاثكم المستفيضة فيها، فجزاكم الله عن الإسلام والمسلمين خيرًا، وأنكم قد أوليتم تلك القضايا المعاصرة جهدًا كبيرًا ووقتًا عظيمًا، واستفرغتم فيها وسعكم أثناء بحثها، وخرجتم بأحكام شرعية لها، ونشرتموها في موسوعات فقهية ذات مجلدات كثيرة، أخذها الناس عنكم، وعملوا بمعظمها. ولكننا لاحظنا أمرين ما انفكا يلازمانكم:

الأول: أنكم مغيبون عن حياة المسلمين السياسية، وعن جرائم الحكام وأسيادهم الكفار بحق أمتكم.

والثاني: أن بعض القضايا التي قتلتموها بحثًا لم تفرضها أولويات الفقه الإسلامي في زماننا، بل بُحثت لأن الحكام في العالم الإسلامي قد أرادوا منكم أن تبحثوها لسببين أساسيين:

إنهم يريدون منكم تصديقًا فقهيًا وصبغة شرعية لفعالهم الشريرة ضد الأمة كفتوى الصلح مع يهود، وفتوى جواز الاستعانة بالكفار على المسلمين في العراق وسوريا واليمن وليبيا!

إنهم يريدونكم أن تبقوا منشغلين في قضايا فقهية لا تؤدي إلى إثارة المسلمين ضدهم، وألا تخرجوا بفتاوى من شأنها إنهاض الأمة الإسلامية وتغيير أحوال المسلمين المزرية، كقضية الخلافة والحكم بما أنزل الله، رغم وجود استحقاقها في البحث قبل أكثر من تسعين عامًا.

ونحن نسألكم بالذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرًا، أي هذه القضايا أولى بالبحث وتقصي أقوال العلماء فيها قديمًا وحديثا،ً وبذل الوسع للوصول إلى حكم شرعي بشأنها: الخلافة والحكم بما أنزل الله من قبل الدولة والأفراد، أم شراء البيوت بالربا؟ وأيهما أهم: الخلافة ومبايعة إمام لتطبيق الإسلام وحمل دعوة الإسلام لإخراج الناس من الظلمات إلى النور أم نقل الأعضاء؟ وأيها أكثر أثرًا وأشد إلحاحًا على المسلمين: الخلافة أم بخاخ الربو والحقنة الشرجية وقطرة العين والأنف والأذن وغير ذلك وعلاقته بالصيام؟ أم عقد الزواج بنية الطلاق، أصحيح هو أم باطل أم فاسد؟ وأيهما أحق أن تنشغل به المجامع الفقهية ودور الإفتاء، ويعكف عليه العلماء بالدراسة والتحليل والاستنباط: فرض الخلافة أم رخصة الرجم قبل الزوال لحجاج بيت الله الحرام؟ وأسئلة كثيرة لا تنتهي من كثرة القضايا المعاصرة التي سيطرت على أبحاثكم وشغلت أوقاتكم.

قال القلقشندي[10]: الخــلافــة هي حظيرة الإسلام، ومحيط دائرته، ومربع رعاياه، ومرتع سائمته، وبها يحفظ الدين ويُحمى، وبها تُصان بيضة الإسلام، وتسكن الدهماء، وتُحصن الثغور فلا تطرق، ويُذاد عن الحُرَمِ فلا تُقرع، وتقام الحدود: فتمنع المحارم عن الانتهاك، وتُحفظ الفروج فَتُصان الأنساب عن الاختلاط.

أيها العلماء الأفاضل: إذا كنتم لا تريدون أن تعطوا الخلافة اليوم أولوية في أبحاثكم للقضايا المعاصرة، ولا تريدون أن تعتبروها واحدة من القضايا المعاصرة العادية التي تنتظر دورها ضمن برامج أبحاثكم، فقولوا لنا بالله عليكم: متى ستضعونها على جدول أبحاثكم؟ وعندما يأتي دورها وتبحثونها، فهل ستقولون للمسلمين ما ينبغي أن يقال لهم، بأن الخلافة فرض من أهم الفروض؛ لأن به تقام الفروض، وأنه يحرم على المسلمين أن يبقوا دون خلافة وبيعة في أعناقهم لإمام أكثر من ثلاث ليال، وأن الشريعة الإسلامية تفرض على كافة المسلمين أن يهبوا للعمل لمبايعة إمام، وتطبيق الإسلام، بعد أن يُخلع الحكام المتسلطون جميعًا؟ وهل ستبثون هذا الحكم عبر الفضائيات المتاحة وباقي وسائل الإعلام المسموعة والمقروءة والمرئية بنفس الحرارة التي تبثون بها فتاواكم المعهودة في القضايا المعاصرة، فتحدثوا انقلابًا غير مسبوق في فكر الأمة وفقهها؟ وهل ستثبتونه في محاضر جلسات مؤتمراتكم المتكررة، وتنشرونه في أحد مجلدات موسوعاتكم الفقهية، وحقائب الطلبة الاقتصادية والاجتماعية والأحوال الشخصية والبنوك الإسلامية؟ ألا ترون أن هذا الحكم الشرعي مميز تميزًا استثنائيًا، ويختلف عن باقي الأحكام التي استنبطتموها للقضايا المعاصرة، كونه يتعرض لفرض مضيق لا يحتمل التأخير، ولا بد من اتخاذ إجراء الحياة أو الموت تجاهه؟ والسؤال الأخير: هل أنتم مستعدون لتقولوا كلمة الحق الواجبة عليكم بخصوصها أمام الحكام الظالمين، متمثلين قول النبي صلى الله عليه وسلم: «سيِّدُ الشُّهداءِ يومَ القيامةِ حمزةُ بنُ عبدِ المُطَّلبِ ورجُلٌ قام إلى إمامٍ جائرٍ فنهاه وأمَره فقتَله»[11].

وما زال الأئمة والعلماء في سائر قرون الإسلام يتعاهدون الخلفاء والسلاطين والملوك بنصحهم وتوجيههم وإنكارهم عليهم ما لا يسوغ لهم في الشرع؛ سرًّا إن كانت المصلحة في الإسرار، وجهرًا إن كانت المصلحة في الإجهار. إذ إن من منكرات السلاطين ما يكون البلاء فيه عامًّا، ضارًّا بالرعية كلها؛ فلا بد أن يعلن العلماء حينئذ مخالفتهم وإنكارهم؛ لئلا تغترَّ العامة بسكوتهم، وتظن أنه من باب الإقرار والموافقة، ومثله إذا كان الحاكم مُعرِضًا غير مصغ لأمر العلماء، فيحتاج الآمر إلى الاستعانة بكل ذي دين وتقوى ومروءة لنهيه عن إثمه ومنكره، إذ جرت عادة الحكام أن يراعوا خواطر الرعيَّة والعامة، ويلاينوهم؛ خوفًا من هيجانهم وانفلات أمرهم. يقول الغزالي رحمه الله: «فهذه كانت سيرة العلماء وعادتهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقلة مبالاتهم بسطوة السلاطين؛ لكونهم اتَّكلوا على فضل الله تعالى أن يحرسهم، ورضوا بحكم الله تعالى أن يرزقهم الشهادة، فلما أخلصوا لله النيَّة؛ أثر كلامهم في القلوب القاسية، فليَّنها، وأزال قساوتها.»

«وأما الآن؛ فقد قيَّدتِ الأطماعُ ألسنَ العلماء؛ فسكتوا، وإن تكلموا؛ لم تساعد أقوالَهم أحوالُهم، فلم ينجحوا، ولو صَدَقوا وقصدوا حقَّ العلم لأفلحوا. ففساد الرعايا بفساد الملوك، وفساد الملوك بفساد العلماء، وفساد العلماء باستيلاء حبِّ المال والجاه عليهم، ومن استولى عليه حب الدنيا؛ لم يقدر على الحسبة على الأراذل، فكيف على الملوك والأكابر».[12]

أيها العلماء الأكارم: لقد أصبحت قضية الخلافة والحكم بما أنزل الله عز وجل على رسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم مطلبًا عند الأمة الإسلامية، وصار الحديث فيها يملأ جنبات الأرض، وذلك بفضل الله أولًا، ثم بجهود العاملين المتواصلة لإقامتها. فصار لزامًا عليكم أن تواكبوا سرعة سيرها، وتجعلوا الأمة على بينة من أمرها، لتهب من فورها لتضع حكام الكفر والظلم والفسق في المكان اللائق بهم، وهو الخلع والإطاحة، واستبدال خليفة بهم جميعًا يحكمهم بكتاب الله عز وجل وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام. فموقعكم في المسلمين ليس خافيًا على أحد بأنكم ضباط الفقه فيهم، وأنتم قادتهم نحو التغيير، وأنتم سراتهم نحو العز والرفعة، وهداتهم إلى الجنة بإذن الله، وإنهم يسمعون كلامكم ويثقون بكم، فلا يكون أجر أعظم من أجركم إن جهرتم بالحق وصدعتم به، واتبعكم الناس لإحقاقه وتطبيقه. ولا يكون ذنب أعظم من ذنبكم إن كتمتم هذا العلم عنهم، ولم تبدوه لهم، فستستحقون غضب الله في كل ساعة تمر على المسلمين وكتاب الله مهجور وسنة نبيه معطلة، والكفار يسيطرون على بلاد المسلمين وثرواتهم، خصوصًا وأنا نحب لكم ما نحب لأنفسنا، ونريدكم أن تبقوا دومًا في مقدمة الركب لا خلفه، ونربأ بكم أن تكونوا مجرد مهنئين ومعزين في أفراح الحكام وأتراحهم.

أيها العلماء، يا ورثة الأنبياء: إن الخلافة الإسلامية هي نظام الحكم الوحيد في الإسلام بعد عهد النبوة، وكل ما خلا ذلك من أنظمة باطل لا يقره الشرع، ويأباه الله ورسوله والمؤمنون. ولقد استمر نظام الخلافة معمولًا به – مع شيء من الانحراف تارة، وسوء في التطبيق تارة أخرى – حتى هدمت الدولة العثمانية عام 1924م التي نحيي اليوم ذكرى سقوطها، كي نستنهضكم والأمة الإسلامية معكم لنعيدها ثانية راشدة على منهاج النبوة بإذن الله، كما وعدنا رسولنا صلى الله عليه وسلم. ومنذ ذلك الحين، وأعناق المسلمين خالية من بيعة لإمام، فانطبق علينا وعليكم وعلى المسلمين جميعًا قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: «ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية»[13]، فاعملوا لإقامتها مع العاملين كي نرفع هذا الإثم عن المسلمين. وهذا كله لا يُجهل مثله من مثلكم! وإن إقامة الخلافة فرض فرضه الله على المسلمين، وهي مبعث عز المسلمين، وقاهرة عدوهم، ومحررة أرضهم، وهي منارة الخير والعدل في ربوع العالم، وهي التي تقيم الدين وتوحد المسلمين. وهذا كله ليس خافيًا عليكم، ولكننا نذكركم بأن الله عز وجل قد أخذ عليكم الميثاق الغليظ باعتباركم ورثة الأنبياء، أن تبينوا للناس ما نُزّل إليهم فيما نعتبره أهم قضية من قضاياهم المعاصرة، قال تعالى: (وَإِذۡ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَٰقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ لَتُبَيِّنُنَّهُۥ لِلنَّاسِ وَلَا تَكۡتُمُونَهُۥ)[14]

قال الإمام القرطبي في تفسير قوله تعالى: (وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٞ فِي ٱلۡأَرۡضِ خَلِيفَةٗ)[15]: هذه الآية أصل في نصب إمام وخليفة يسمع له ويطاع، لتجتمع به الكلمة، وتنفذ به أحكام الخليفة، ولا خلاف في وجوب ذلك بين الأمة ولا بين الأئمة، إلا ما روي عن الأصم، حيث كان عن الشريعة أصم.

أيها العلماء: إنكم تعلمون، واللهِ، أن الإسلام هو الدين الحق، وأن نصرته واجبة، وأن نظام الحكم في الإسلام هو الخلافة، وإنكم تعلمون بأن الدعوة إلى الخلافة قد شاعت ورسخت في قلوب المسلمين وعمت أوساطهم، وأنها قد انتشرت في معظم أرجاء العالم، وفاق أنصارها مئات الملايين، وملأت قلوب الكفار غيظًا، وعقولهم قلقًا، فرمونا عن قوس واحدة، وإنكم تعلمون أن حكام المسلمين يرفضون تطبيق الشريعة الإسلامية، رغم تكرار مناشدتهم والإلحاح عليهم. ولطالما دعوناهم لما يحييهم ويحيينا ويحييكم، فعلنا ذلك ليلًا ونهارًا، وإعلانًا وإسرارًا، فلم يزدهم دعاؤنا إلا فرارًا، وإنا كلما دعوناهم للحكم بما أنزل الله جعلوا أصابعهم في آذانهم، واستغشوا ثيابهم، وأصروا واستكبروا استكبارًا.

أيها العلماء: إننا نتبع منازلكم ومواقعكم أينما كنتم، ونجمعكم في المؤتمرات والمسيرات والندوات لنقول لكم: كثروا سواد العاملين في هذه الدعوة المباركة، «ومن كثّر سواد قوم فهو منهم»، وقولوا بأوضح الألفاظ وأكثرها صراحة: سنعمل مع العاملين لإقامة خلافة المسلمين الحقيقية الثانية الراشدة على منهاج النبوة، قولوها ولا تخشوا في الله لومة لائم، ولا يستخفنَّكم الذين لا يوقنون.

أيها العلماء: أنتم بعد الله سندنا، والخلافة لنا جميعًا، وهي نظام الحكم الوحيد عند المسلمين، وبها يقام الدين ويتوحد المسلمون، فلا يتخلفنَّ أحد منكم عن السير معنا وتكثير سوادنا، وعاهدوا الله معنا أن نكون جميعًا للإسلام حراسًا، وللعمل السياسي والفكري لإقامة الخلافة نبراسًا، فالله الله في دينكم، والله الله في أمتكم.

أيها العلماء: هذه رسالة من المنذر بن سعيد البلوطي[16]، سلطان الأندلس ومعلّم الملوك وراية الحق، لنا ولكم فيها عبرة وعظة. عاش هذا العالم الرباني في زمن الخليفة عبد الرحمن الناصر الذي كان مولعاً بالعمارة وإقامة المعالم وتشييد الدور، وهو الذي بنى مدينة الزهراء، واستفرغ جهده في تنميقها وإتقان قصورها وزخرفة مصانعها، حتى أشغله ذلك عن صلاة الجمعة ثلاثة أسابيع متوالية، فأراد المنذر أن يعظ الخليفة، ويكسر من غروره، ويحاسبه على إنفاقه الأموال الطائلة في التشييد والعمارة، وعلى انشغاله بذلك عن الإقبال على الله. فلما كان يوم الجمعة، وحضر الخليفة، صعد المنذر المنبر، فبدأ الخطبة بقول الله تعالى: ( أَتَبۡنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ ءَايَةٗ تَعۡبَثُونَ ١٢٨ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمۡ تَخۡلُدُونَ ١٢٩ وَإِذَا بَطَشۡتُم بَطَشۡتُمۡ جَبَّارِينَ ١٣٠ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ ١٣١ وَٱتَّقُواْ ٱلَّذِيٓ أَمَدَّكُم بِمَا تَعۡلَمُونَ ١٣٢ أَمَدَّكُم بِأَنۡعَٰمٖ وَبَنِينَ ١٣٣ وَجَنَّٰتٖ وَعُيُونٍ ١٣٤ إِنِّيٓ أَخَافُ عَلَيۡكُمۡ عَذَابَ يَوۡمٍ عَظِيمٖ ١٣٥)[17]. وأتى بما يشاكل هذا المعنى من التخويف بالموت وفجاءته، والتزهيد في الدنيا والترغيب في الآخرة، وأسهب في ذلك، وأضاف إليه ما حضره من الآيات القرآنية، والأحاديث، وآثار السلف، وأقوال الحكماء والشعراء وغير ذلك، حتى بلغ التأثر بالناس مبلغه، وضجوا بالبكاء، وكان للخليفة من ذلك نصيب كبير. إلا أنه وجد في نفسه على المنذر، وشكا إلى ولده الحكم ما لقيه من والده الشيخ، وقال: والله لقد تعمدني بالكلام، وقد أسرف علي وبالغ في تقريعي، وأَقسم ألا يصلي وراءه مرة أخرى.[18]

فرحم الله أولئك العلماء العاملين، الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر، رحمهم الله، لم يخافوا في الله لومة لائم، أو جبروت حاكم. إنهم قوم شعروا بثقل الأمانة الملقاة على عواتقهم، فشمروا لحملها، وأيقنوا بحفظ الله لهم وتأييده إياهم، فبذلوا في سبيل إظهار دينه كل ما يملكون، ونصحوا للأمة حق النصح، فلا عدمت الأمة أمثالهم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

فيا علماء المسلمين: إذا لم تتحركوا الآن، والأمة في هبتها للخلاص من استضعافها، وذروة انتفاضتها على الطواغيت من حكامها، فمتى سيكون تحرككم لنصرتها؟ واعلموا أن الأمة ستتدبر أمرها مع حكامها وأعدائها وتقيم خلافتها، سواء عليكم أتحركتم لنصرتها أم لم تتحركوا، فالنصر من عند الله العزيز الحكيم وحده، وستندمون أنكم لم تتحركوا معها، ولات ساعة مندم.

أيها العلماء الأفاضل: لماذا تكثرون اليوم الحديث عن شهر رجب والبدع التي اقترنت به، وتستفيضون في شرح تلكم البدع، وتحقيق الأحاديث الواردة فيها، وتحذير الناس من الوقوع في حبائلها، كتخصيصه بصيام أو اعتكاف أو عمرة أو زكاة واجبة، أو ذبح العتيرة كما كان يُفعل أيام الجاهلية، أو أداء صلاة الرغائب، وما شاكل ذلك. وكيف أن العلماء الأوائل قد اختلفوا في تاريخ حادثة الإسراء المشهورة، وأنه لم يقم دليل معلوم على شهرها أو عشرها أو عينها، بل النقول في ذلك منقطعة مختلفة، وليس فيها ما يُقطع به. وتستفيضون في تحذير المسلمين من بدع شهر رجب وأمور غير ذلك كثيرة، مما سمح به حكام زماننا لهم بالحديث عنه؛ لتضليل الأمة عن حدث كبير وزلزال مدمر، تعجز المقاييس العصرية المتطورة وأجهزة الرصد المعروفة عن قياس شدته وتتبع آثاره، مع أنه حصل في يوم معلوم وشهر معلوم وعام معلوم، على مشهد من المسلمين جميعًا، لا يشك في حصوله أحد، ولا يختلف في تاريخ حدوثه بشر، ولا يماري في آثاره التدميرية من له أدنى معرفة بأحوال المسلمين منذ قرن من الزمان. ذلكم الحدث العظيم هو هدم دولة الخلافة الإسلامية العثمانية الذي حصل في الثامن والعشرين من شهر رجب عام ألف وثلاثمائة واثنين وأربعين للهجرة، حيث وقف العمل بالكتاب والسنة منذئذ. ولماذا يغفل كثير منكم عن ذكر هذا التاريخ الذي تعرفونه كما تعرفون أبناءكم وحكامكم الذين تصفهم ألسنتكم بأنهم أولياء الأمر؟! ولماذا تتجاهلون ذكره مع أنه يتكرر في كل عام في الثامن والعشرين من شهر رجب، وقد تكرر حتى اليوم أكثر من تسعين مرة، وستحل علينا ذكراه الأليمة السادسة والتسعون بعد أيام قليلة؟ ألا ترون أن ذلك الحدث قد تسبب في إلغاء نظام الخلافة الإسلامية الذي ساد المسلمين ثلاثة عشر قرنًا منذ وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وتولي أبي بكر منصب الخلافة الراشدة الأولى؟ وهو يعني فيما يعني خلوّ أعناق المسلمين من بيعة لإمام، وتعطيلَ أحكام الإسلام جميعًا، بدءًا بالحكم بما أنزل الله، ومرورًا بإقامة الحدود وفصل الخصومات، وانتهاءً بالجهاد في سبيل الله حملًا للدعوة إلى غير المسلمين؟ وهل يخفى هذا الحدث وتداعياته على علمائنا الأفاضل الذين جعل الله لكل واحد منهم عينين ولسانًا وشفتين، وهداه الله النجدين؟ فلماذا اقتحموا العقبة، وانحازوا إلى ملوك الجبر في أيام الصبر، القابض فيها على دينه كالقابض على الجمر؟ إنهم والله هم الأكثر ضررًا والأشد خطرًا، وإنهم والله هم الأعظم ذنبًا والأسوأ مردًّا، هدانا الله وإياهم.

أيها العلماء: هذا هو الفرق الجوهري بين العلماء المتخصصين في علوم الدين من المتقاعسين، وبين العاملين المخلصين لإعزاز هذا الدين. فالأولون موظفون، وهم أسرى لوظائفهم ومرتباتهم، وأما العاملون فأحرار في زمن العبودية، ورواد في زمن الرويبضة، وقادة في زمن الخيانة والتهالك والنذالة. إن علماء اليوم مقيدون بالسلاسل والأغلال، وقد خرست ألسنتهم عن كلمة الحق عند سلطان جائر رغم أنهم أعلم الناس بثوابها، رضوا بأن يكونوا مع الخوالف فطبع الله على قلوبهم فهم لا يفقهون، وسيكون علمهم وبالًا عليهم يوم تسعر النار بهم أول ما تسعر، وخصوصًا منهم من يرفض عودة الخلافة علنًا، وعلى رؤوس الأشهاد، ويحارب العاملين لها. أخرج بن خزيمة في صحيحه أنَّ شُفيًّا حدَّثَهُ: أنَّهُ دخلَ المدينةَ، فإذا هوَ برجُلٍ قدِ اجتمعَ عليْهِ النَّاسُ، فقالَ: مَن هذا؟ فقالوا: أبو هُريرةَ، فدنوتُ منْهُ حتَّى قعَدتُ بينَ يديْهِ، وَهوَ يحدِّثُ النَّاسَ، فلمَّا سَكتَ وخلا، قلتُ: أنشدُكَ بحقٍّ وحقٍّ لمــَا حدَّثتني حديثًا سمعتَهُ مِن رسولِ الله صلَّى الله عليْهِ وسلَّمَ عقلتَهُ وعلمتَهُ، فقالَ أبو هريرةَ: أفعلُ، لأحدِّثنَّكَ حديثًا حدَّثنيهِ رسولُ الله صلَّى الله عليْهِ وسلَّمَ وعلِمتُهُ، ثمَّ نشغَ أبو هريرةَ نَشغةً، فمَكثَ قليلًا، ثمَّ أفاقَ، فقالَ: لأحدِّثنَّكَ حديثًا حدَّثنيهِ رسولُ الله صلَّى الله عليْهِ وسلَّمَ في هذا البيتِ، ما معَنا أحدٌ غيري وغيرُهُ، ثمَّ نَشغَ أبو هريرةَ نشغةً أخرى، فمَكثَ بذلِكَ، ثمَّ أفاقَ ومسحَ وجْهَهُ، قالَ: أفعلُ لأحدِّثنَّكَ بحديثٍ حدَّثنيهِ رسولُ الله صلَّى الله عليْهِ وسلَّمَ، وأنا وَهوَ في هذا البيتِ ما معنا أحدٌ غيري وغيرُهُ، ثمَّ نشغَ أبوهريرة نشغةً شديدةً، ثمَّ مالَ خارًّا علَى وجْهِهِ أسندتُهُ طويلًا، ثمَّ أفاقَ، فقالَ: حدَّثني رسولُ الله صلَّى الله عليْهِ وسلَّمَ: إنَّ الله تبارَكَ وتعالى إذا كانَ يومُ القيامةِ، نزلَ إلى العبادِ ليَقضيَ بينَهم، وَكلُّ أمَّةٍ جاثيةٌ، فأوَّلُ من يدعو بهِ رجلٌ جمعَ القرآنَ، ورجلٌ يُقتلُ في سبيلِ الله، ورجلٌ كثيرُ المالِ، فيقولُ للقارئِ: ألم أعلِّمْكَ ما أنزلتُ علَى رسولِي؟ قالَ: بلى يا ربِّ قالَ: فماذا عمِلتَ فيما عُلِّمتَ؟ قالَ: كنتُ أقومُ بهِ أثناءَ اللَّيلِ وآناءَ النَّهارِ، فيقولُ الله لهُ: كذبتَ، وتقولُ الملائِكةُ: كذبتَ، ويقولُ الله: بل أردتَ أن يقالَ: فلانٌ قارئٌ، فقَد قيلَ. ويؤتى بصاحبِ المالِ فيقولُ الله: ألم أوسِّع عليْكَ حتَّى لم أدعْكَ تحتاجُ إلى أحدٍ؟ قالَ: بلَى. قالَ: فماذا عملتَ فيما آتيتُكَ؟ قالَ: كنتُ أصلُ الرَّحمَ، وأتصدَّقُ؟ فيقولُ الله: كذبتَ، وتقولُ الملائِكةُ: كذبتَ، فيقولُ الله: بل أردتَ أن يقالَ: فلانٌ جوَّادٌ، فقد قيلَ ذاكَ. ويؤتى بالَّذي قتلَ في سبيلِ الله، فيقالُ لهُ: فيمَ قُتلتَ؟ فيقولُ: أُمِرتُ بالجِهادِ في سبيلِكَ، فقاتلتُ حتَّى قُتلتُ، فيقولُ الله: كذبتَ، وتقولُ الملائِكةُ: كذبتَ، ويقولُ الله عزَّ وجلَّ لهُ: بل أردتَ أن يقالَ: فلانٌ جَريءٌ: فقد قيلَ ذلِكَ. ثمَّ ضربَ رسولُ الله صلَّى الله عليْهِ وسلَّمَ علَى رُكبتيَّ، فقالَ: يا أبا هُريرةَ، أولئِكَ الثَّلاثةُ أوَّلُ خَلقِ الله تُسعَّرُ بِهمُ النَّارُ يومَ القيامَةِ.[19]

وأما العلماء العاملون فيغبطهم النبيون والشهداء على منازلهم وقربهم من الله. روى المنذري بإسناد حسن عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا أيها الناس اسمعوا واعقلوا، واعلموا أن لله عز وجل عبادًا ليسوا بأنبياء، ولا شهداء، يغبطهم النبيون والشهداء على منازلهم وقربهم من الله»، فجثا رجل من الأعراب من قاصية الناس، وألوى بيده إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ناس من الناس ليسوا بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء على مجالسهم، وقربهم من الله، اِنعتهم لنا، جلِّهم لنا – يعني صفهم لنا، شكلهم لنا، فسر وجه النبي صلى الله عليه وسلم بسؤال الأعرابي، فقال: «هم ناس من أفناء الناس، ونوازع القبائل لم تصل بينهم أرحام متقاربة، تحابوا في الله وتصافوا، يضع الله يوم القيامة منابر من نور فيجلسون عليها، فيجعل وجوههم نورًا، وثيابهم نورًا، يفزع الناس يوم القيامة ولا يفزعون، وهم أولياء الله لا خوف عليهم، ولا هم يحزنون».[20] فاللهم اجعلنا منهم واحشرنا معهم.

هذا وإننا مصممون – بحول الله وقوته – على إعادة الخلافة مهما كان الثمن، لأننا نريد أن ينظر إلينا ربنا بعين الرضا والرحمة، وأن تتجدد لنا أوامر المحبة الإلهية، فيصرف عنا كيد شياطين الإنس والجن، ويوضع لنا القبول في الأرض. ونحن نحب لكم ما نحب لأنفسنا، وعليه فإننا ندعوكم وجميع المسلمين إلى العمل بجد وإخلاص بكامل الطاقة مع العاملين المخلصين الجادين والهادفين لإعادة الخلافة الضائعة، واسترداد المفقود النفيس، كي نأخذ من جديد موقعنا الحقيقي بين الأمم سراةً وهداةً ومجاهدين، فذلكم لعمري هو عز الدنيا والآخرة. فلا يتقاعسنَّ أحد منكم عن هذا العمل الشريف، وكونوا خير خلف لخير سلف، فاستنهضوا عزائمكم، وحركوا غيرتكم على دينكم ومصير أمتكم، ولا تهولنَّكم كثرة الباطل وسطوته، فقد أوشكت جولته على النهاية، والخط البياني لعمل العاملين للخلافة في صعود مذهل، وخطواتهم نحو النصر تقترب أكثر وأكثر في كل يوم. فثقتنا بالله كبيرة وأملنا بنصره القريب لا تشوبه شائبة، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون، وهو سبحانه القائل: ( وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسۡتَخۡلِفَنَّهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ كَمَا ٱسۡتَخۡلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمۡ دِينَهُمُ ٱلَّذِي ٱرۡتَضَىٰ لَهُمۡ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعۡدِ خَوۡفِهِمۡ أَمۡنٗاۚ يَعۡبُدُونَنِي لَا يُشۡرِكُونَ بِي شَيۡ‍ٔٗاۚ وَمَن كَفَرَ بَعۡدَ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ ٥٥ ).[21]

وإليكم ما ورد في علماء الآخرة وعلماء الدنيا -السوء- من الآثار كما جاءت بقلم الشيخ: صالح بن عبدالله بن محمد بن حميد:

لقد وردت آيات كثيرة، وأحاديث وفيرة، وآثار غزيرة في وصف هذين النوعين، وبيان ما يمتاز به كل فريق منهم، سنذكر طرفًا منها:

من القرآن الكريم، قوله تعالى: (وَإِنَّ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ لَمَن يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكُمۡ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡهِمۡ خَٰشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشۡتَرُونَ بِ‍َٔايَٰتِ ٱللَّهِ ثَمَنٗا قَلِيلًاۚ أُوْلَٰٓئِكَ لَهُمۡ أَجۡرُهُمۡ عِندَ رَبِّهِمۡۗ). وقوله سبحانه: (وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيّٖ قَٰتَلَ مَعَهُۥ رِبِّيُّونَ كَثِيرٞ فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا ٱسۡتَكَانُواْۗ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلصَّٰبِرِينَ ١٤٦). وقوله عز وجل: (فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوۡمِهِۦ فِي زِينَتِهِۦۖ قَالَ ٱلَّذِينَ يُرِيدُونَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا يَٰلَيۡتَ لَنَا مِثۡلَ مَآ أُوتِيَ قَٰرُونُ إِنَّهُۥ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٖ ٧٩ وَقَالَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ وَيۡلَكُمۡ ثَوَابُ ٱللَّهِ خَيۡرٞ لِّمَنۡ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَٰلِحٗاۚ وَلَا يُلَقَّىٰهَآ إِلَّا ٱلصَّٰبِرُونَ ٨٠). وقول الحق تبارك وتعالى: (وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦ خَلۡقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَٰفُ أَلۡسِنَتِكُمۡ وَأَلۡوَٰنِكُمۡۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّلۡعَٰلِمِينَ ٢٢).

ومن السنة، قوله صلى الله عليه وسلم: «خيرُكم من تعلم القرآنَ وعلمه». وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا حسد إلا في اثنتين، وذكر منهما: ورجل آتاه الله الحكمة وهو يقضي بها». وقوله عليه الصلاة والسلام: «لا تتعلموا العلم لتباهوا به العلماء، وتماروا به السفهاء، ولتصرفوا به وجوه الناس إليكم، فمن فعل ذلك فهو في النار». وقوله صلى الله عليه وسلم: «العلم علمان، علم اللسان فذلك حجة لله تعالى على خلقه، وعلم في القلب فذلك العلم النافع».

ومن الآثار عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم: عَنْ كُمَيْلِ بْنِ زِيَادٍ، قَالَ: «أَخَذَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بِيَدِي فَأَخْرَجَنِي إِلَى نَاحِيَةِ الْجَبَّانِ، فَلَمَّا أَصْحَرْنَا جَلَسَ ثُمَّ تَنَفَّسَ ثُمَّ قَال: َ»يَا كُمَيْلُ بْنَ زِيَادٍ، الْقُلُوبُ أَوْعِيَةٌ فَخَيْرُهَا أَوْعَاهَا، وَاحْفَظْ مَا أَقُولُ لَكَ: النَّاسُ ثَلَاثَةٌ: فَعَالِمٌ رَبَّانِيٌّ، وَمُتَعَلِّمٌ عَلَى سَبِيلِ نَجَاةٍ، وَهَمَجٌ رَعَاعٌ أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ، يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّ رِيحٍ، لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ الْعِلْمِ، وَلَمْ يَلْجَؤوا إِلَى رُكْنٍ وَثِيقٍ. الْعِلْمُ خَيْرٌ مِنَ الْمَالِ، الْعِلْمُ يَحْرُسُكَ، وَأَنْتَ تَحْرُسُ الْمَالَ، الْعِلْمُ يَزْكُو عَلَى الْعَمَلِ، وَالْمَالُ تُنْقِصُهُ النَّفَقَةُ، وَمَحَبَّةُ الْعَالِمِ ديْنٌ يُدَانُ بِهَا، الْعِلْمُ يُكْسِبُ الْعَالِمَ الطَّاعَةَ فِي حَيَاتِهِ، وَجَمِيلَ الْأُحْدُوثَةِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَصَنِيعَةُ الْمَالِ تَزُولُ بِزَوَالِهِ. مَاتَ خُزَّانُ الْأَمْوَالِ وَهُمْ أَحْيَاءٌ، وَالْعُلَمَاءُ بَاقُونَ مَا بَقِيَ الدَّهْرُ، أَعْيَانُهُمْ مَفْقُودَةٌ، وَأَمْثَالُهُمْ فِي الْقُلُوبِ مَوْجُودَةٌ، هَاهْ إِنَّ هَهُنَا – وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى صَدْرِهِ – عِلْمًا لَوْ أَصَبْتُ لَهُ حَمَلَةً، بَلَى أَصَبْتُهُ لَقِنًا غَيْرَ مَأْمُونٍ عَلَيْهِ، يَسْتَعْمِلُ آلَةَ الدِّينِ لِلدُّنْيَا، يَسْتَظْهِرُ بِحُجَجِ اللهِ عَلَى كِتَابِهِ، وَبِنِعَمِهِ عَلَى عِبَادِهِ، أَوْ مُنْقَادًا لِأَهْلِ الْحَقِّ لَا بَصِيرَةَ لَهُ فِي إِحْيَائِهِ، يَقْتَدِحُ الشَّكَّ فِي قَلْبِهِ، بِأَوَّلِ عَارِضٍ مِنْ شُبْهَةٍ، لَا ذَا وَلَا ذَاكَ، أَوْ مَنْهُوَمٌ بِاللَّذَّاتِ، سَلِسُ الْقِيَادِ لِلشَّهَوَاتِ، أَوْ مُغْرًى بِجَمْعِ الْأَمْوَالِ وَالِادِّخَارِ، وَلَيْسَا مِنْ دُعَاةِ الدِّينِ، أَقْرَبُ شَبَهًا بِهِمَا الْأَنْعَامِ السَّائِمَةِ، كَذَلِكَ يَمُوتُ الْعِلْمُ بِمَوْتِ حَامِلِيهِ، اللهُمَّ بَلَى، لَا تَخْلُو الْأَرْضُ مِنْ قَائِمٍ لله بِحُجَّةٍ، لِئَلَّا تَبْطُلَ حُجَجُ اللهِ وَبَيِّنَاتُهُ، أُولَئِكَ هُمُ الْأَقَلُّونَ عَدَدًا، الْأَعْظَمُونَ عِنْدَ اللهِ قَدْرًا، بِهِمْ يَدْفَعُ الله عَنْ حُجَجِهِ، حَتَّى يَؤُدُوهَا إِلَى نُظَرَائِهِمْ، وَيَزْرَعُوهَا فِي قُلُوبِ أَشْبَاهِهِمْ، هَجَمَ بِهِمُ الْعِلْمُ عَلَى حَقِيقَةِ الْأَمْرِ فَاسْتَلَانُوا مَا اسْتَوْعَرَ مِنْهُ الْمُتْرَفُونَ، وَأَنِسُوا مِمَّا اسْتَوْحَشَ مِنْهُ الْجَاهِلُونَ، صَحِبُوا الدُّنْيَا بِأَبْدَانٍ أَرْوَاحُهَا مُعَلَّقَةٌ بِالْمَنْظَرِ الْأَعْلَى، أُولَئِكَ خُلَفَاءُ اللهِ فِي بِلَادِهِ، وَدُعَاتُهُ إِلَى دِينِهِ. هَاهْ هَاهْ شَوْقًا إِلَى رُؤْيَتِهِمْ، وَأَسْتَغْفِرُ الله لِي وَلَكَ، إِذَا شِئْتَ فَقُمْ».[22] هذا الذي ذكره أخيرًا هو وصف علماء الآخرة.

وقال ابن مسعود رضي الله عنه: «سيأتي على الناس زمان تملح فيه عذوبة القلوب، فلا ينفع بالعلم يومئذ عالمه ولا متعلمه، فتلون قلوب علمائهم مثل السباخ من ذوات الملح، ينزل عليها قطر السماء، فلا يوجد لها عذوبة، وذلك إذا مالت قلوب العلماء إلى حب الدنيا وإيثارها على الآخرة، فعند ذلك يسلبها الله تعالى ينابيع الحكمة، ويطفئ مصابيح الهدى من قلوبهم، فيخبرك عالمهم حتى تلقاه أنه يخشى الله بلسانه، والفجور ظاهر في عمله، فما أخصب الألسن يومئذ، وما أجدب القلوب! فوالله الذي لا إله إلا هو، ما ذلك إلا لأن المعلمين علموا لغير الله تعالى، والمتعلمين تعلموا لغير الله تعالى»[23].

وقال حذيفة رضي الله عنه: «إنكم في زمان من ترك فيه عشر ما يعلم هلك، وسيأتي زمان من، عمل فيه بعشر ما يعلم نجا، وذلك لكثرة البطالين».

وقال ابن عباس رضي الله عنهما في وصف علماء الآخرة والدنيا يرفعه، والصحيح وقفه عليه: «علماء هذه الأمة رجلان: رجل آتاه علمًا فبذله للناس، ولم يأخذ عليه طمعًا، ولم يشترِ به ثمنًا، فذلك يصلي عليه طير السماء، وحيتان الماء، ودواب الأرض، والكرام الكاتبون، يقدم على الله عز وجل يوم القيامة سيدًا شريفًا، حتى يوافق المرسلين. ورجل آتاه الله علمًا في الدنيا فضنَّ به على عباد الله، وأخذ عليه طمعًا، واشترى به ثمنًا، فذلك يأتي يوم القيامة ملجمًا بلجام من نار، ينادي منادٍ على رؤوس الخلائق: هذا فلان بن فلان، آتاه الله علمًا في الدنيا، فضنَّ به على عباده، وأخذ به طمعًا، واشترى به ثمنًا، فيعذب حتى يفرغ من حساب الناس». وقال الحسن البصري رحمه الله: «عقوبة العلماء موت القلب، وموت القلب طلب الدنيا».

وقال الحافظ الذهبي رحمه الله معددًا أصناف العلماء ودرجاتهم، معلقًا على ما قاله هشام الدَّستُوائي: «والله ما أستطيع أن أقول إني ذهبتُ يومًا قط أطلب الحديث أريد به وجه الله عز وجل: قلت – أي الذهبي -: ولا أنا، فقد كان السلف:

– يطلبون العلم لله فنبُلوا، وصاروا أئمة يُقتدى بهم.

– وطلبه قوم منهم أولًا، لا لله، وحصَّلوه، ثم استفاقوا وحاسبوا أنفسهم، فجرَّهم العلم إلى الإخلاص في أثناء الطريق، كما قال مجاهد وغيره: طلبنا هذا العلم وما لنا فيه كبير نية، ثم رزق الله النية بعدُ. وبعضُهم يقول: طلبنا هذا العلم لغير الله، فأبى أن يكون إلا لله؛ فهذا أيضًا حسن، ثم نشروه بنية صالحة.

– وقوم طلبوه بنية فاسدة لأجل الدنيا، وليُثنى عليهم، فلهم ما نوَوا، قال عليه الصلاة والسـلام: «من غـزا ينوي عِقـالًا فله ما نوى» وترى هذا الضرب لم يستضيئوا بنور العلم، ولا لهم وقع في النفوس، ولا لعلمهم كبير نتيجة من العمل، وإنما العالم من يخشى الله تعالى.

– وقوم نالوا العلم وولوا به المناصب، فظلموا، وتركوا التقيد بالعلم، وركبوا الكبائر والفواحش، فتبًّا لهم، فما هؤلاء بعلماء.

– وبعضُهم لم يتَّقِ الله في علمه، بل ركب الحيل، وأفتى بالرخص، وروى الشاذ من الأخبار.

– وبعضهم وضع الأحاديث فهتكه الله وذهب علمه، وصار زاده إلى النار، وهؤلاء الأقسام كلهم رووا من العلم شيئًا كبيرًا، وتضلعوا منه في الجملة.

– فخلف من بعدهم خَلْف بأن نقصهم في العلم والعمل.

– وتلاهم قوم انتموا إلى العلم في الظاهر، ولم يتقنوا منه سوى نزر يسير، أوهموا به أنهم علماء فضلاء، ولم يَدُر في أذهانهم قط أنهم يتقربون به إلى الله؛ لأنهم ما رأوا شيخًا يُقتدى به في العلم، فصاروا همجًا رعاعًا، غاية المدرِّس منهم أن يحصل كتبًا مثمنة يخزنها وينظر فيها يومًا ما، فيصحف ما يورده، ولا يقرره، فنسأل الله النجاة والعفو، كما قال بعضهم: ما أنا بعالم ولا رأيت عالمـًا.

وقال يحيى بن معاذ رحمه الله في وصف علماء الدنيا: «يا أصحاب العلم قصوركم قيصرية، وبيوتكم كسروية، وأثوابكم ظاهرية، وأخفافكم جالوتية، ومراكبكم قارونية، وأوانيكم فرعونية، ومآثمكم جاهلية، ومذاهبكم شيطانية، فأين الشريعة المحمدية؟.

وقال ابن المبارك في علماء السوء:

رأيتُ الذنوبَ تميتُ القلوبَ ويـورثُ الذلَّ إدمانُهـا

وتركُ الذنوبِ حياةُ القلوبِ وخيرٌ لنفسِك عصيانُهـا

وهل أفسد الدينَ إلا الملوكُ وأحبارُ سوءٍ ورهبانُهـا

ولله در القائل في وصف علماء الدنيا:

عجبتُ لمبتـاع الضلالة بالهدى، ومن يشتري دنياه بالدين أعجبُ

وأعجبُ من هذين من بـاعَ دينَه، بدنيا سواه فهو من هذين أعجبُ

وقيل في علماء السوء كذلك:

يا واعظَ الناسِ قد أصبحتَ متهمًا، إذ عبتَ منهم أمورًا أنتَ تأتيها

أصبحتَ تنصحُهم بالوعظ مجتهدًا، فالموبقات لعمري أنت جانيها

تعيبُ دنيا وناسـًا راغبين لهـا، وأنتَ أكثـرُ منهم رغبـة فيها

وقال سفيان الثوري في سير أعلام النبلاء: من دعا لظالم بالبقاء، فقد أحب أن يعصى الله.

أيها السادة العلماء: نناشدكم أن تطلعوا على وقائع المؤتمر الذي عقد في جاكرتا، لعله يرفعُ غشاوة عن أبصارهم طالما منعتهم من رؤية الحقائق الساطعة، ويكسرُ أقفالًا عن عقولهم طالما حجبت عنهم معرفة الأولويات الفقهية، ويزيلُ أغلالًا في أعناقهم طالما قيدت حركتهم للعمل لإقامة الخلافة. ليشددوا النكير على حكام الكفر والظلم والفسق، ليعجلوا بزوالهم وقدوم الخليفة الذي يقيم فينا شرع الله. فيا أيها العلماء الأفاضل، قد أضيئت لكم أنفاق كانت مظلمة، ومُهدت لكم سبل كانت بالعقبات مليئة، وفتحت لكم آفاق واسعة كانت ضيقة، فخذوا العبرة من إخوانكم ونظرائكم الذين اجتمعوا في جاكرتا، واعقدوا العزم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فوركم هذا، واعملوا مع العاملين لإقامة خلافة المسلمين الثانية الراشدة على منهاج النبوة، فإن الذي ينتظركم من العمل كثير كثير، وثوابه عند الله كبير كبير، وفضله وأثره على الناس منقطع النظير.

أيها السادة العلماء: كم وُجد في المسلمين منذ هدم الخلافة من علماء إلى يومنا هذا؟ وكم تخرج من الجامعات والمعاهد الدينية من خريجين حملوا شهادات من مختلف الدرجات في العلم الشرعي، ولبس بعضهم العمائم والجلابيب، وطافوا في الناس ردحًا طويلًا من الزمن يُعلِّمون، ولا يزالون فيهم يصولون ويجولون، ويركبون المنابر ويقفون على منصات التدريس؟ وكم من الكتب أُلّفت في أبواب الفقه الإسلامي وطبعت ونُشرت وانتشرت؟ وكم من المؤتمرات العلمية والفقهية عقدها علماء المسلمين في دويلات الضرار؟ وكم من القضايا القديمة والمعاصرة قد تم بحثها باستفاضة، وصدرت فيها الدراسات والفتاوى؟ وكم وكم وكم….؟! ولكن أحدًا من أولئكم الخريجين وحملة الشهادات أو تلكم الدراسات قد بحث أهم قضية من قضايا المسلمين وهي الخلافة التي ضاعت قبل نحو تسعين عامًا وضاع معها المسلمين. والأدهى من ذلك والأمرّ، أن الذين تصدَّوا لبحثها من أجل نيل الدرجات الجامعية قد تأثروا بالسموم الفكرية والفقهية والإعلامية التي بثها الكفار وأعوانهم من الحكام في روعهم، ولوثوا بها أفهامهم وأفهام مدرسيهم، ونقلوها كالببغاوات، ونشروها في أبحاثهم وكتبهم دونما تمحيص أو اتباع لمنهج علمي معتبر، فخرجت أبحاثهم خالية من حرارة الشوق للخلافة ووجوب العمل لإقامتها، بل إن بعضها قد طعن في العاملين لها وقدح في نواياهم وأعمالهم بغير علم، واتبع سبيل المرجفين.

ونحن إذا رجعنا إلى المؤتمرات التي عقدت عبر القرون الماضية لعلماء المسلمين في طول البلاد الإسلامية وعرضها، فإننا نجد الداعين لها جميعًا هم الحكام الذين يحكمون المسلمين بغير ما أنزل الله، ووفروا لها ما تحتاجه من القاعات والخدمات والأموال والإعلام، وكانوا يحشدون لها الحشود من العلماء المقربين لهم والموالين، ليبحثوا قضايا هامشية لا تمت إلى نهضة الأمة الإسلامية بصلة. هؤلاء العلماء قد تعلموا العلم الشرعي الذي أنزل الله أصوله على محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهما القرآن والسنة، ولكن لم يقف أحد منهم يومًا في مؤتمر من المؤتمرات المذكورة ليقول للحاكم الذي دعاه أو غيره من الحكام بأنهم لا يحكمون بشرع الله الذي أنزله الله على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، بل إن الذي سمعناه منهم أنهم قد كانوا يبايعون كل حاكم يدعوهم، ويجعلون منه أميرًا للمؤمنين، ويبجلون مقامه، ويثنون على حكمته ومهارته القيادية، وفصاحته التي لا يشق لها غبار، ويروجون لشخصه وعائلته ولكل من أدلى له بسبب. وكانت ألسنتهم تلهج له بالشكر والثناء، وتدعو له بطول العمر والبقاء! علاوة على أنهم لم يبحثوا موضوع الحكم بما أنزل الله، وتطبيق شرع الله إلا في أطر ضيقة شكلية، تثني على الحاكم أن سمح للمسلمين بالقيام ببعض الشعائر، وتعتبر ذلك منة منه يفيض بها على الناس، رغم أنها من صميم مسئولياته، بل إنه مقصر فيها أيما تقصير. فيظهر للعامة أن كل حاكم من حكام المسلمين المجرمين هو أفضل من أفضل خليفة عرفته الأمة، فينام الناس ملء جفونهم، قريري العين أن علماءهم راضون عن حكامهم، فلا حاجة تدعو لتغييرهم أو محاسبتهم. وتمر الأيام دون أن يتغير شيء من الفساد والظلم والعمالة والخيانة والتبعية وسيطرة الكفار على المسلمين، بل ويزداد الحال سوءًا بعد كل مؤتمر يعقد، وبعد كل كتاب يكتب، وكل خريج شرعي يتخرج، وكل قضية معاصرة تبحث، كون القضية الكبرى للمسلمين وهي الخلافة لم تبحث بشكل صحيح.

وخلافًا لمعهودنا عن المؤتمرات التي يعقدها الحكام للعلماء، ولأول مرة في تاريخ المسلمين بعد هدم خلافتهم، يعقد في جاكرتا في إندونيسيا مؤتمر للعلماء المسلمين، لم يدعُ له حاكم من الحكام، يحضره عشرة آلاف شخص، ويشارك فيه مئات العلماء، وأي علماء؟ علماء تعلموا العلم ليعملوا به في سبيل إعزاز هذا الدين، لا ليباروا به العلماء ويماروا به السفهاء. علماء ليسوا كعلماء القصور وزبانية السلاطين والحكام. علماء اجتمعوا طيلة ساعات النهار يوم المؤتمر دون أن يمجَّد حاكم واحد من حكام دويلات الضرار، ودون أن تبحث قضية واحدة غير قضية الأمة المصيرية وهي الخلافة. لم تتقاطر عليهم وسائل إعلام الحكام، بل لم تأتِ واحدة منها على ذكرهم، وإخبار المسلمين عما يدور داخل هذه القاعة! عشرة آلاف شخص في القاعة يهتفون بصوت واحد: خلافة، خلافة! ويردد معهم مئات الملايين خارج القاعة بقلوبهم وألسنتهم: خلافة، خلافة![24]

أيها العلماء يا ورثة الأنبياء: هذه فرصتكم فاغتنموها، واعلموا أن رضا الحكام لا قيمة له إذا تعارض مع رضا الله عز وجل، فأنتم الأمناء على هذه الأمة، وقد أشهدنا الله عليكم في هذا اليوم الأغر، وليس لكم والله بعده من عذر. فأروا الله منكم ما يحب، وكفاكم ما رأى منكم من موالاة الحكام ما يكره.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

[1]               الحج: 41

[2]               الزمر: 9

[3]               المجادلة: 11

[4]               مختصر منهاج القاصدين لابن قدامة

[5]               فاطر: 28

[6]               رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح

[7]               رواه مسلم وأصحاب السنن

[8]               رواه مسلم عن أبي موسى الأشعري، وهو صحيح على شرط الشيخين

[9]               ذكره صاحب الإحياء عن الحسن البصري

[10]              أبو العباس أحمد بن علي بن أحمد بن عبد الله الشهاب بن الجمال ابن أبي اليمن القلقشندي الشافعي المتوفي سنة 821 هجري

[11]              رواه الطبراني في المعجم الأوسط عن عبد الله بن عباس

[12]              إحياء علوم الدين: 2/357

[13]              رواه مسلم عن نافع مولى ابن عمر

[14]              آل عمران: 187

[15]              البقرة: 30

[16]              منذر بن سعيد البلوطي أبو الحكم الأندلسي، قاضي الجماعة بقرطبة ينسب إلى قبيلة يقال لها: كزنة، وهو من موضع قريب من قرطبة، يقال له: فحص البلوط .

وقد سمع عن عبيد الله بن يحيى بن يحيى، وأخذ عن ابن المنذر «كتاب الإشراف».

كان فقيهاً محققًا، وخطيبًا بليغًا مفوهًا، له اليوم المشهور الذي ملأ فيه الآذان، وبهر العقول، وذلك أن المستنصر بالله، كان مشغوفًا بأبي علي القالي، يؤهله لكل مهم، فلما ورد رسول الروم أمره أن يقوم خطيبا على العادة الجارية، فلما شاهد أبو علي الجمع العظيم جبن فلم تحمله رجلاه، ولا ساعده لسانه، وفطن له منذر بن سعيد، فوثب في الحال، وقام مقامه، وارتجل خطبة بديعة، فأبهت الخلق، وأنشد في آخرها لنفسه:

هـذا المقـال الذي ما عابه فنــد

لـو كـنت فيهم غريباً كنت مطرفًا

لولا الخلافــة أبقى الله بهجتهــا

لكــن صاحبــه أزرى بـه البلـد

لكـنني منهـم فاغتـالني النكـــد

مـا كـنت أبقى بأرض ما بها أحــ‏د

  فاستحسنوا ذلك، وصلب الرسول، وقال: هذا كبش رجال الدولة .

ومن خطبته إذ أرتج على أبي علي القالي: أما بعد: فإن لكل حادثة مقاماً، ولكل مقام مقالاً، وليس بعد الحق إلا الضلال، وإني قد قمت في مقام كريم بين يدي ملك عظيم، فأصغوا إلي معشر الملأ بأسماعكم، إن من الحق أن يقال للمحق: صدقت، وللمبطل: كذبت . وإن الجليل تعالى في سمائه، وتقدس بأسمائه، أمر كليمه موسى أن يذكر قومه بنعم الله عندهم، وأنا أذكركم نعم الله عليكم. وتلافيه لكم بولاية أميركم التي آمنت سربكم، ورفعت خوفكم، وكنتم قليلاً فكثركم، ومستضعفين فقواكم، ومستذلين فنصركم، ولاه الله أياماً ضربت الفتنة سرادقها على الآفاق، وأحاطت بكم شغل النفاق، حتى صرتم مثل حدقة البعير، مع ضيق الحال والتغيير، فاستبدلتم بخلافته من الشدة بالرخاء . . . إلى أن قال: فناشدتكم الله، ألم تكن الدماء مسفوكة فحقنها؟ والسبل مخوفة فآمنها، والأموال منتهبة فأحرزها والبلاد خرابا فعمرها، والثغور مهتضمة فحماها ونصرها. فاذكروا آلاء الله عليكم. وذكر باقي الخطبة .

[17]              الشعراء: 128 – 136

[18]              ابن غالب ، منتقى فرحة الأنفس ، ص303،304.

[19]              رواه ابن خزيمة، إسناده صحيح ورجاله ثقات

[20]              رواه المنذري في الترغيب والترهيب، والدمياطي في المتجر الرابح، والهيثمي في مجمع الزوائد وحسنه الألباني

[21]              النور: 55

[22]              أخرجه أبو نعيم في ((الحلية))، (1/79)، وابن عبد البر في ((جامع بيان العلم وفضله))، (1878)، والخطيب في ((الفقيه والمتفقه))، (1/182)

[23]              إحياء علوم الدين للغزالي

[24]              https://www.al-waie.org/archives/article/6329

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *