تعدد الجماعات الإسلامية العاملة، هل يؤدي إلى فرقة الأمة؟! ..
2016/12/30م
المقالات
5,262 زيارة
بسم الله الرحمن الرحيم
تعدد الجماعات الإسلامية العاملة، هل يؤدي إلى فرقة الأمة؟! ..
حمد طبيب – بيت المقدس
في خضم الحرب المسعورة على الإسلام وحملته؛ (الداعين لاستئناف الحياة الإسلامية) -بالعمل السياسي- ، وفي خضم التشويه والكذب على دين الإسلام؛ بأنه دين الإرهاب والتطرف والتخلف، وفي خضم الحرب العالمية العاتية الشريرة الإجرامية التي تقودها أميركا وحلفاؤها من الدول الكافرة، وعملاؤها من حكام المسلمين؛ والتي سمتها الحرب على الإرهاب؛ أي الحرب على (الإسلام السياسي المخلص الواعي) الذي يعمل على إزالة عملاء أميركا ونفوذها السياسي، وإزالة كيان يهود، وإزالة كل ألوان الاستعمار السياسي والفكري والعسكري من بلاد المسلمين… واستئناف الحياة الإسلامية التي انقطع خيرها وانطفأ نورها منذ ما يقارب المائة عام.
في خضم كل ذلك تحاول أميركا وعملاؤها من حكام المسلمين؛ تشويه صورة الجماعات الإسلامية العاملة على الساحة لتغيير الواقع، على أساس الإسلام وأحكامه النورانية الهادية، وذلك عن طريق علماء مأجورين، أو دعاة ببغاوات يردّدون ما يريده الحكام وعلماؤهم المأجورين، أي ما تريده الدول الحاكمة في بلاد المسلمين من عملاء الاستعمار!!، فيقولون: إن الإسلام ليس فيه أحزاب ولا يجوز تعدد الجماعات التي تعمل لصالح الإسلام، إنما يجب أن يكون المسلمون جماعة واحدة، ولا يجوز أن يكون هناك أحزاب متعددة؛ لأنها تسبب الفرقة وتؤدي إلى التشيّع والتعصب للجماعة، كما حصل عند اليهود والنصارى، ثم يستدلون على قولهم هذا بفهم مغلوط لآيات كريمة في كتاب الله عز وجل، تُفسَّر على غير معناها الصحيح؛ كقوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ )،وقوله تعالى: ( وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ )… إلى غير ذلك من آيات، ويستدلون كذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قيل: من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي» رواه الإمام الترمذي في سننه. ومن جملة هذه الفتاوى التي ذكرت في حرمة التحزب فتوى للشيخ (صالح الفوزان) وجاء فيها: «يجب بيان خطر التحزب وخطر الانقسام والتفرق؛ ليكون الناس على بصيرة؛ لأنه حتى العوام الآن انخدعوا ببعض الجماعات يظنون أنها على الحق». وجاء في فتوى للشيخ (ابن باز): «مما لا شك فيه أن كثرة الفرق والجماعات في المجتمع الإسلامي؛ مما يحرص عليه الشيطان أولًا، وأعداء الإسلام من الإنس ثانياً». وجاء في فتوى للشيخ ابن عثيمين: «ليس في الكتاب والسُنَّة ما يبيح تعدُّد الجماعات والأحزاب ، بل إنَّ في الكتاب والسُنَّة ما يَذُمّ ذلك ، قال تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ).
فهل تعتبر هذه الأحزاب الإسلامية العاملة لاستئناف الحياة الإسلامية من الفرق التي ذمها الشرع؟ وهل هي – كما يدعي هؤلاء- مما ذمه الله عز وجل في كتابه؟ وهل هي على طريقة اليهود والنصارى في الفُرقة والاختلاف؟ وما هو حكم الإسلام في وجود جماعات عاملة تعمل للإسلام بشكل عام، ولاستئناف الحياة الإسلامية بشكل خاص؟!.
قبل أن نبدأ بالإجابة عن هذه الأسئلة يجب أن نقف عند بعض المسائل المهمة في هذا الموضوع؛ أولها: كيف نفسر كتاب الله عز وجل؟ وكيف نفهم آياته وأحكامها في مثل هذه الآيات التي ذُكرت في الشواهد السابقة؟!
فالقرآن الكريم هو كلام الله عز وجل، أنزله علينا بلغة نفهمها ونفقهها؛ وهي (اللغة العربية)، وأرسل رسوله صلى الله عليه وسلم؛ ليبيّن لنا ما خفي من معاني هذه الآيات، ومن أحكامها الفقهية، ولا يجوز أن يُؤوّل القرآن (مطلقاً) بالعقل أو بالهوى، أو بطريقة الفلسفة أو البناء المنطقي أو غير ذلك، ولا يجوز كذلك أن نستشهد بالإسرائيليات في فهم المعاني والأحكام؛ لأن الإسرائيليات كلام منسوب لأناس مجهولين دون سند عقلي أو نقلي بأنه كلام الله، ولا يثبت منها شيء بسند صحيح؛ إلا ما أثبته ديننا الحنيف؛ في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد ذم الله عز وجل أقوالهم وتحريفاتهم فقال: ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ )، ويقول: ( إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ).. ولفهم أحكام الآيات يجب أن ننظر أيضًا في أسباب النزول لهذه الآيات، والتي ثبتت بطريق صحيح، وليس بطريق النقل المنقطع، أو مجرد الرأي المضطرب…
والأمر الثاني: الذي نريد أن نقف عنده هو المعنى الصحيح لهذه الشواهد التي ساقها البعض للاستدلال على رأيهم السقيم المغرض؛ مثل قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ). ولفهم معنى هذه الآية الكريمة بالشكل الصحيح نقول:
1- إن هذه الآية فيها معنى الذم لليهود والنصارى، ومن هم على شاكلتهم ممن خرج من الملة من أمة الإسلام، وفيها التحذير من السير على طريقتهم في التفرق والتشيع؛ وهو قوله عز وجل: ( لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ) أي لست يا رسول الله وأمتك من أسباب تفرقهم في شيء؛ أي لا تتبع منهجهم في الفرقة والاختلاف، وقيل لست من عقابهم في شيء إنما أمرهم إلى الله؛ أي إن عقابهم على الله… يقول الإمام الشوكاني في تفسيره (فتح القدير): ( لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ )؛أي لست من تفرقهم، أو من السؤال عن سبب تفرقهم، والبحث عن موجب تحزبهم في شيء من الأشياء فلا يلزمك من ذلك شيء ولا تخاطب به، إنما عليك البلاغ، يقول (ابن عاشور) في تفسير التحرير والتنوير: (وفي هذا – لست منهم في شيء – إنذار شديد . والمراد (بأمرهم) : عملهم الذي استحقوا به الجزاء والعقوبة .
2- السبب في الذم لليهود والنصارى، ومن سار على نهجهم من المشركين؛ هو مفارقتهم لأصل الدين، وتفرقهم على أمر غيره، فأصبحوا فرقًا وشيعًا؛ لكل فرقة دين يختلف عن أصل الدين، ويختلف بالتالي عن دين الفرق الأخرى ممن تفرقوا…
يقول (الإمام القرطبي) في تفسيره : قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ ) قرأه حمزة والكسائي فارقوا بالألف، وهي قراءة علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، من المفارقة والفراق؛ على معنى أنهم تركوا دينهم وخرجوا عنه… وكان علي رضي الله عنه يقول: «والله ما فرّقوه ولكن فارقوه». وبسبب هذه الفرقة في أصل الدين وفروعه (الدين كاملاً) صاروا (شيعًا وأحزابًا متفرقين)؛ لا يجمعهم جامع أبدًا، ولا يلتقون في شيء… فهذا الذي نهى الله عز وجل عن فعله؛ لأن الذم هنا هو تحذير من نفس الفعل الذي وقعت فيه اليهود والنصارى. يقول (ابن حيان الأندلسي) في البحر المحيط: «معنى فرقوا دينهم: آمنوا ببعض وكفروا ببعض، وقيل: تركوه وباينوه، ومن فرق دينه فآمن ببعض، وكفر ببعض فقد فارق دينه المطلوب منه. وقرأ إبراهيم والأعمش وأبو صالح: فرَقوا بتخفيف الراء، وكانوا شيعًا :أي أحزابًا كل منهم تابع لشخص لا يتعداه… لست منهم في شيء أي: لست من تفريق دينهم أو من عقابهم أو من قتالهم، أو هو إخبار عن المباينة التامة والمباعدة…»
3- الفرقة المذمومة شرعًا بناء على فهم هذه الآيات وغيرها ليست هي الاختلاف في الرأي الفقهي، والاختلاف في فهم الأحكام الشرعية، أو فهم طريقة تغيير المنكر بناءً على فهم الحكم الشرعي، أو الاختلاف في فهم فرعيات الاعتقاد… فهذه الاختلافات أمرٌ أجازه الشارع ومدحه أهل العلم، ولم يقل أحد بحرمته، بل إنه أصبح من الأمور المعلومة من الدين بالتواتر جيلًا عن جيل، ولم ينكرها أحد من الفقهاء الأربعة ولا علماء الأمة… يقول ابن عاشور في تفسيره التحرير والتنوير: «وتفريق دين الإسلام هو تفريق أصوله بعد اجتماعها، كما فعل بعض العرب من منعهم الزكاة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر رضي الله عنه : لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة. وأما تفريق الآراء في التعليلات والتبيينات فلا بأس به، وهو من النظر في الدين؛ مثل الاختلاف في أدلة الصفات، وفي تحقيق معانيها، مع الاتفاق على إثباتها، وكذلك تفريع الفروع كتفريق فروع الفقه بالخلاف بين الفقهاء، مع الاتفاق على صفة العمل، وعلى ما به صحة الأفعال وفسادها، كالاختلاف في حقيقة الفرض والواجب… والحاصل أن كل تفريق لا يكفر به بعض الفرق بعضًا، ولا يفضي إلى تقاتل وفتن، فهو تفريق نظر واستدلال وتطلُّب للحق بقدر الطاقة، وكل تفريق يفضي بأصحابه إلى تكفير بعضهم بعضًا، ومقاتلة بعضهم بعضًا في أمر الدين، فهو مما حذر الله منه، وأما ما كان بين المسلمين من نزاع على الملك والدنيا فليس تفريقًا في الدين، ولكنه من الأحوال التي لا تسلم منها الجماعات…» هذا ما يتعلق بإيجاز بفهم معنى الآية الكريمة، وفهم أحكامها التي استنبطت منها .
الأمر الرابع : الذي نريد ان نذكره لفهم هذا الموضوع هو: إن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اختلفوا في فهم المسألة الواحدة، وذهب كل واحد من هؤلاء المختلفين مذهبًا في الفهم والرأي، فقد روى ابن عمر، H، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: «لا يصلينَّ أحد العصر إلا في بني قريظة»، فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال: لا نصلي حتى نأتيهم، وقال بعضهم: بل نصلّي؛ لم يُرد منا ذلك، فذُكر ذلك للنبيصلى الله عليه وسلم، فلم يعنِّف واحداً منهم» رواه البخاري؛ قال الحافظ ابن حجر (رحمه الله): إنه لا يعاب على من أخذ بظاهر حديث أو آية، ولا على من استنبط من النَّص معنى يخصِّصُه).
وقد ذهب الفقهاء الأربعة مذاهب شتى؛ في فهم الأحكام الشرعية في مسائل الصلاة والصيام والحج وغير ذلك من أحكام الفقه الإسلامي… والأمثلة على ذلك كثيرة، فقد زخرت بها كتب الفقه الإسلامي في كتب المذاهب الفقهية ولا يمكن حصرها…
الأمر الخامس : إن الجماعات الإسلامية العاملة في الساحة الإسلامية هي قائمة بأمر شرعي؛ أمر به المولى عز وجل، ورسوله صلى الله عليه وسلم وهو (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)؛ قال تعالى : ( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) وقال: ( يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ) ، وقال: ( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ).. والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» رواه مسلم، ويقول «والذي نفسي بيده، لتأمرُنَّ بالمعروف ولتنهوُنَّ عن المنكر، أو ليوشكن الله عز وجل أن يبعث عليكم عذابًا من عنده ثم تدعونه فلا يستجاب لكم» رواه الإمام الترمذي… والأمر بالمعروف يكون لتغييره وإقامته… فإن كان معروفًا فلإيجاده في الواقع، وإن كان منكرًا فلتغييره…
وإقامة المعروف وإزالة المنكر يكون بقدر حجمه وواقعه، فهناك من المنكرات ما يحتاج تغييرها إلى تآزر الناس والتفافهم حول العلماء، ولا يمكن إزالتها أو إقامتها بمجرد الكلام فقط أو بالعمل الفردي، وإزالتها وإقامتها فرض في الأمة، ولا يجوز بقاؤها مطلقًا، وإذا بقيت تأثم الأمة جميعًا…
فهل يُزال منكر الحاكم بكلمة تقال هنا وهناك فقط؟!، وهل يعاد حكم الإسلام بأمر بمعروف هنا وهناك فقط؟!، فمثل هذا المعروف أو المنكر في حال غيابه لا يمكن أن يقام إلا عن طريق أحزاب وجماعات تلتف حول علماء مخلصين لله، يقومون بالأمة ومعها من أجل تغييره… فهل التفاف الناس حول علمائها لتغيير المنكر- حسب فهم البعض من علماء السلطان – هو منكر شرعي؟! وهل التفاف الناس حول علماء مخلصين لإعادة حكم الإسلام هو منكر شرعي؟! فمن يقول بذلك فإنه يلغي كل النصوص الشرعية التي أمرت بالمعروف ونهت عن المنكر في الآيات والأحاديث، ويلغي كذلك كل حركات العلماء المخلصين في التاريخ الإسلامي في الإنكار على الحكام الظلمة مثل (سعيد بن المسيب) و(العز بن عبد السلام) و(الإمام أحمد بن حنبل) و(سيد قطب) و(عز الدين القسام)… وغيرهم الكثير من قادة الأمة وعلمائها!! ..
الأمر السادس: إن الحكم الشرعي في إقامة أحزاب إسلامية والعمل معها لإقامة الفرض، وتغيير المنكر هو نفس حكم إقامة الفرض وتغيير المنكر، والتقصير في ذلك هو نفس إثم التقصير في إقامة الفرض وتغيير المنكرات؛ فمن قصر في الانضمام إلى حزب إسلامي أو جماعة تعمل لإيجاد الفرض في الواقع، ولا يمكن أن يقام هذا الفرض إلا بذلك، فهو آثم شرعًا لأنه قد قصر في إيجاد الفرض وإقامته، وتغيير المنكر وإزالته… فالقاعدة الشرعية عند العلماء (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب)، وإن كل ما يتوقف عليه إيقاع الواجب، وهو في مقدور المكلف فهو واجب، فالجهاد واجب على الأمة؛ والإعداد والاستعداد واجب، لأنه لا يمكن القيام بالجهاد إلا به. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «يجب أن يعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام للدين إلا بها، فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض… ويقول معللًا ذلك: (لأن الله أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يتم ذلك إلا بقوة وإمارة، وكذلك سائر ما أوجبه من الجهاد والعدل، وإقامة الحج والجمع والأعياد ونصر المظلوم، وإقامة الحدود لا تتم إلا بالقوة والإمارة(.هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية فان العمل ضمن جماعة هو طريقة إقامة الدولة الإسلامية؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد سار في نفس الطريق، وعلمنا إياه، وظل فيه حتى مكَّنه الله عز وجل من إقامة الدولة الإسلامية في المدينة. فطريقة إقامة هذا الفرض هي السير مع جماعة لها أمير؛ تمامًا كما فعل رسول الله، ولا يوجد طريق غيره بيـَّنه الإسلام.
الأمر السابع: تعدد الأحزاب والجماعات وعدم وجودها في جماعة واحدة هو أمر شرعي. أساس ذلك هو جواز تعدد الفهم في حكم شرعي في تغيير المنكر وإقامة الفرض… فطريقة تغيير المنكر وإقامة الفرض؛ وهو (استئناف الحياة الإسلامية) يجوز تعددها لأنها ضمن دائرة فهم الحكم الشرعي، وليست من أمور أصول الاعتقاد، وليست من الأحكام قطعية الثبوت قطعية الدلالة التي ذم الشارع الاختلاف فيها. فالحزب الذي يرى طريقة استئناف الحياة الإسلامية بإقامة الدولة الإسلامية عن طريق العمل السياسي (بالصراع الفكري والكفاح السياسي) واستلام الحكم عن طريق (طلب النصرة)، هو حزب إسلامي؛ فهم هذا الفهم في طريقة تنفيذ حكم شرعي، فهذا الأمر هو من الأمور الجائزة؛ وهو ضمن دائرة الفهم الممدوح شرعًا، وهو كفهم الشافعي وأحمد وأبي حنيفة ومالك في المذاهب سواء بسواء. والحزب كذلك الذي فهم أن طريقة إقامة حكم الإسلام تكون بالصراع المادي، واستخدام القوة له وجهة نظر شرعية، ودليل شرعي كذلك، وهو فهم شرعي، ويكون عمله حسب هذا الفهم الشرعي مبرئًا للذمة؛ لأنه اتبع هذه الطريقة بغلبة الظن في التوصل لحكم شرعي. يقول (الإمام الأسنوي) في كتاب (نهاية السول): «والشارع إنما أجاز الظن في المسائل العملية؛ وهي الفروع دون العلمية كقواعد أصول الدين».
أما إقامة أحزاب وفرق على أساس فهم خاطئ في أصول الاعتقاد؛ فهذا الذي ذمه الشرع، وشبهه بافتراق اليهود والنصارى، فمثلًا يذم شرعًا إقامة فرقة أو حزب أو جماعة أو شيعة أو طائفة على أساس (أن النبي ليس آخر الرسل)، فهذا الأمر مذموم شرعًا، وهو الذي أراده الشارع من الافتراق والتشيع على أساسه، فكل هذه الفرق هي في النار كما ذكر الحديث الشريف: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة…» ولا يقصد من الآية أو الحديث مطلقًا الجماعات الإسلامية الساعية والداعية بالمعروف والناهية عن المنكر.
والحقيقة، إن هذه الفكرة وأمثالها هي من ضلالات الحكام وعلماء السلاطين، وهي من أساليب الحرب على الإرهاب هذه الأيام… وهي تمامًا كفكرة حرمة العمل السياسي، والقول بأن الإسلام ليس فيه سياسة، وكفكرة لا حزبية في الإسلام، وفكرة تأويل قوله تعالى: ( فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ )
والسبب في العمل على تضليل المسلمين في هذه المسالة؛ هو أن عمل الأحزاب في الأمة لتغيير الواقع تزلزل عروش الحكام، ومناطق النفوذ عند المستعمرين ولا يريدونها إطلاقًا، وهم يحاربونها منذ أمد بعيد بالأعمال المادية كالسجن والقتل والحرمان من الوظيفة. ولما لم يستطيعوا أن يقضوا على العاملين في هذا المجال، وتزايدوا في كل يوم في أنحاء العالم لجؤوا – كما لجأ كفار مكة في حرب الرسول – إلى التضليل والكذب والافتراء على دين الله؛ عن طريق علماء السوء وبعض الببغاوات؛ ممن يسمون أنفسهم دعاة، ولا يفقهون في فهم الحكم الشرعي شيئًا.
الأمر التاسع : بالنسبة إلى فهم الآية الكريمة ( فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ )، فكلمة ( حِزْبَ اللَّهِ ) هي صفة لأي جماعة تكون بالفعل على طريق الله. فلفظة ( حِزْبَ اللَّهِ )؛ ليست حصرًا في الاسم، وإنما هي صفة لمن يسير على درب الله عز وجل ويلتزم أحكامه. ومن يريد تأويلها بطريق حصر التسمية هو تضليل ومغالطة، تخالف فهم اللغة العربية وتخالف أقوال المفسرين. فالله سبحانه وتعالى ليس له حزب بالتسمية التي يريدها هؤلاء، فتعالى الله عن ذلك وإنما هي – كما ذكرنا – صفة لمن يسير على درب الله، تمامًا كما تقول حزب الشيطان فإنه يفهم منها صفة لمن يسير خلف الشيطان في ضلالاته.
يقول الإمام ابن كثير: «فكل من رضي بولاية اللّه ورسوله والمؤمنين فهو مفلح في الدنيا والآخرة، ومنصور في الدنيا والآخرة؛ ولهذا قال تعالى في هذه الآية الكريمة: ( وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ) وَالْحِزْب : هُمْ الْأَنْصَار . وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: ( فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ ) أي فَإِنَّ أَنْصَار اللَّه، وَمِنْهُ قَوْل الرَّاجِز: وَكَيْفَ أُضْوَى وَبِلَال حِزْبِي يَعْنِي بِقَوْلِهِ أُضْوَى: أُسْتُضْعَفُ وَأُضَام، مِنْ الشَّيْء الضَّاوِي. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: وَبِلَال حِزْبِي، يَعْنِي نَاصِرِي».
وقبل أن نختم نقف عند مسألة الخصومة والمشاحنة والبغضاء بسبب اختلاف الرأي، سواء أكان ذلك في الجماعات أم في المذاهب الفقهية، فهذا الأمر – وان كان يحصل بين المسلمين – إلا أنه من المعاصي، ولا يخرجهم من الملة، وهو حرام شرعًا، ولكن حرمته لا تلغي موضوع فرضية الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر بواسطة الأحزاب، ولا تلغي اختلاف الرأي الفقهي، فهذا أمر ترتب على أمر بطريق خاطئ، فلا يلغي الأصل؛ فيبقى الأصل على أصله، ويحرم الأمر الآخر.
فالاختلاف في الرأي وقبول النقاش فيه أمر معهود منذ وجد الفقه، فلم يعِبْ عمر على أبي بكر فهمه، ولم يعب الصحابة على الآخرين فهمهم في تأخير الصلاة ..
وقد كان الفقهاء يقولون: رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب، والإمام مالك رحمه الله كان يقول: «كل قول يؤخذ منه ويرد إلا صاحب هذا القبر، ويشير بيده إلى قبر المصطفى صلى الله عليه وسلم»، والإمام الشافعي كان يقول: «إذا صح الحديث فهو مذهبي، وإلا فاضربوا به عرض الحائط».
ولا يقال كذلك في بيان أعمال الجماعات الخاطئة أو أقوالها إن هذا يفسد الود بين الجماعات ويؤدي للخصومة، لأن بيان الرأي الصحيح فرض، وبيان الفساد فرض كذلك؛ فيجب أن يبين للناس أن قول الغنوشي مثلًا في إباحة الخمور أنه رأي غير صحيح، وأن التبرؤ من الإسلام السياسي هو أيضًا غير صحيح، حتى ولو غضب من غضب من الناس، ونبين أيضًا أن الموافقة من قبل بعض الحركات على الديمقراطية خطأ شرعي ولا يجوز، والاعتراف بالصلح مع اليهود أيضًا لا يجوز، وهو خطأ شرعي، ووقوعٌ في دائرة عمالة الحكام، فهذا أمر شرعي بل هو واجب شرعي؛ سواء قبله الطرف الثاني من أي جماعة، أم لم يقبله… فلم يخجل العز بن عبد السلام عندما بين مسألة حكم المملوك في ولاية الأمر (الإمارة)، ولم يخجل أيضًا عبد الله بن الزبير عندما تمسك برأيه ضد الأمويين، ولم يخجل سعيد بن المسيب عندما وقف لحكام بني أمية يأمرهم وينهاهم، ولم يثنِ الإمام أحمد بن حنبل (رحمه الله) غضب العباسيين في مسألة أن القرآن غير مخلوق…
فكل ذلك واجب شرعي، والأصل في الجماعات الأخرى أن تقبله بصدر رحب بل أن تشكر صاحبه، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «الدين النصيحة، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم» رواه الإمام مسلم، ويقول: «المؤمن مرآة أخيه» رواه البيهقي في شعب الإيمان، وكان الإمام عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: «رحم الله امرأً أهدى إليَّ عيوبي»
وأخيرًا نقول: إن التضليل والتحريف لا يتوقف عند حد، فقد وجد منذ بعثة المصطفى صلى الله عليه وسلم، فوجد عند كفار مكة فاتهموه بالسحر والكذب وغيره من ضلالات… وحاولوا نسبة القرآن الكريم إلى رجل من الروم اسمه جبرا (أعجمي)، ووجد كذلك عند اليهود والنصارى، فحاولوا صرف الناس عن الرسول صلى الله عليه وسلم وتضليلهم، ولكنهم فشلوا وهزموا… وهكذا فإن من يقفون في الخندق المقابل لحملة الإسلام سيهزمون؛ تمامًا كما يُهزم أسيادهم من الحكام وأسياد الحكام من المستعمرين، وكل هذه الضلالات مثلها مثل الفقاعات التي تبرز على وجه الماء ينخدع الناس بمنظرها، ثم تتطاير قال تعالى: ( كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ ) إن الأحزاب العاملة في الساحة الإسلامية؛ وخاصة من أخلص نفسه لله واتبع سبيل الرشاد منها فسوف ينصره الله، قال تعالى: ( نَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ )، ( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ). وسيكون مثل من يقفون في طريق الإسلام كمثل الحصاة الصغيرة التي تقف في طريق الموج المتدفق، أو كمثل من يحاول إطفاء نور الشمس بالنفخ وذر التراب.
نسأله تعالى أن يكرم العاملين في طريق إعادة حكم الإسلام بالنصر والتمكين… آمين يا رب العالمين… وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
2016-12-30